ديفيد ويسيل

كيف أصبح الإحتياطي الفدرالي محور كل شيء؟

18 أيار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

لم يتوقع جيروم باول يوماً أن يصبح أقوى صانع للسياسات الاقتصادية. كان هذا الرجل قد تدرّب في مجال المحاماة، لا الاقتصاد، لكنه أصبح جزءاً من مجلس المحافظين للنظام الاحتياطي الفدرالي الأميركي في العام 2012 لأنه ترك انطباعاً إيجابياً لدى وزير الخزانة تيموثي غيثنر، حين شارك في استمالة الجمهوريين في الكونغرس لرفع سقف الدين، ثم قررت إدارة باراك أوباما أن تجمع بين جمهوري (باول) وديمقراطي (جيريمي ستاين) لطرح مرشحَين عن طريق مجلس الشيوخ. كان باول ليُسَرّ على الأرجح بإنهاء مسيرته المهنية كنائب رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي في واشنطن أو كرئيس الاحتياطي الفدرالي في نيويورك. لكن في العام 2017، حمل الرئيس السابق دونالد ترامب أفكاراً مختلفة، فقد تردد في إعادة تعيين جانيت يلين الديمقراطية كرئيسة للاحتياطي الفدرالي لأربع سنوات جديدة، وسمع نصيحة وزير خزانته ستيفن منوشين واختار باول لاستلام هذه المهمة.



عندما استلم باول هذا المنصب في شباط 2018، كانت نسبة البطالة في الولايات المتحدة تبلغ حوالى 4%، وكان مقياس التضخم المفضّل لدى الاحتياطي الفدرالي قريباً من 2%، وسجّل الناتج المحلي الإجمالي نمواً سنوياً سليماً بنسبة 2.8%. على مستوى الاقتصاد الكلي، كان هذا الوضع إيجابياً بالنسبة إلى البنك المركزي، لكنه لم يدم طويلاً. لو استمر ذلك الوضع، لما نُشِر كتابان جديدان بقلم مراسلَين في الاحتياطي الفدرالي: Limitless: The Federal Reserve Takes on a New Age of Crisis (بلا حدود: الاحتياطي الفدرالي يستلم عصراً جديداً من الأزمات) بقلم جيانا سمياليك، وTrillion Dollar Triage: How Jay Powell and the Fed Battled a President and a Pandemic—and Prevented Economic Disaster (فرز التريليون دولار: كيف حارب جاي باول والاحتياطي الفدرالي رئيساً وجائحة - ومنعا كارثة اقتصادية) بقلم نيك تيميراوس.

يذكر الكتابان أن باول أشرف على تغيير بارز في استراتيجية السياسة المالية في الاحتياطي الفدرالي، فعدّل مستوى التضخم المستهدف (2%) في العام 2012 لأن التضخم بقي تحت العتبة المنشودة طوال سنوات، رغم وصول نسبة البطالة إلى مستويات متدنية وغير مسبوقة. في آب 2020، أعلن الاحتياطي الفدرالي بقيادة باول أنه يتطلع إلى رفع مستوى التضخم فوق العتبة المستهدفة كي تتجاوز نسبته 2%. على مستوى العمل، ذكر الاحتياطي الفدرالي أنه لن يرفع أسعار الفائدة بطريقة استباقية مجدداً لمجرّد أن نسبة البطالة قد تتراجع سريعاً، إلا إذا جمع أدلة على تصاعد التضخم بمستويات غير محبّذة. بدأت مساعي تصميم إطار العمل المناسب قبل جائحة كورونا، لكن بدا توقيت الكشف عنه غريباً. يذكر تيميراوس أن تلك الاستراتيجية ألزمت الاحتياطي الفدرالي بالرد على أي زيادة في التضخم "بعد فوات الأوان".

يذكر الكتابان أيضاً اثنين من نواب باول بشكلٍ متكرر: راندال كوارلز، نائب رئيس الاحتياطي الفدرالي للإِشراف المصرفي، ولايل برينارد، خبيرة اقتصادية عيّنها الاحتياطي الفدرالي في العام 2014 وأصبحت اليوم رئيسة المجلس الاقتصادي الوطني في عهد جو بايدن. كان كوارلز قد عمل في وزارة الخزانة الأميركية في الإدارات الجمهورية، بينما عملت برينارد في الإدارات الديمقراطية.

استمتعت سمياليك على ما يبدو بتسليط الضوء على التباين بين آراء كوارلز بشأن السوق الحر والحكومة المصغّرة ووجهة نظر أحد أبطالها، رئيس الاحتياطي الفدرالي في عهد فرانكلين روزفلت، مارينر إكليس. هي تعتبر كوارلز "شخصية ملوّنة على نحو غير مألوف مقارنةً بمواصفات المسؤولين في الاحتياطي الفدرالي"، مع أن الدليل الوحيد الذي تطرحه يتعلق باعتياده على إلقاء خطابات رنانة. في المقابل، يُركّز تيميراوس بشكلٍ أساسي على دور كوارلز في تصميم رد الاحتياطي الفدرالي على جائحة كورونا. تتطرق سمياليك من جهتها إلى دوره في تخفيف جزءٍ من القيود التنظيمية المفروضة على البنوك بعد الأزمة المالية العالمية بدعمٍ من باول ورغم اعتراضات برينارد القوية.

تحولت برينارد إلى مستشارة اقتصادية أساسية لباول خلال أزمة كورونا، فكانت "الليبرالية الوحيدة" المعنية بالمسائل التنظيمية المصرفية في مجلس الاحتياطي الفدرالي، كما تكتب سمياليك. تُعبّر هذه الأخيرة عن إعجابها ببرينارد، فتقول: "حافظت برينارد على احترام زملائها بفضل دقتها وكفاءتها، مع أنها لم تكن تُشبههم من الناحية الإيديولوجية. لطالما كانت مستعدة لما ينتظرها". يذكر تيميراوس في المقابل أن برينارد كانت أسرع من كوارلز في رصد مخاطر "كوفيد - 19"، فهي فضّلت أن يطلق الاحتياطي الفدرالي ووزارة الخزانة ردوداً أكثر قوة على الجائحة، فأصبحت حليفة مهمة عندما أراد باول اتخاذ خطوات أكثر صرامة. لكنها أصبحت منافسة باول في العام 2012، حين كان بايدن يفكر بإعادة تعيينه أو استبداله بمسؤول آخر. هي أرادت استلام ذلك المنصب طبعاً، لكن فضّل البيت الأبيض على ما يبدو عامل الاستمرارية عبر إعادة تعيين باول وافترض على الأرجح أن باول سيحصد موافقة مجلس الشيوخ بسهولة ومن دون أي تأخير.

غادر كوارلــز واشنطن منذ ذلك الحين. أما برينارد، فهي تشغل منصباً أساسياً في البيت الأبيض وتستعمله للضغط على الاحتياطي الفدرالي وجهات تنظيمية أخرى لإلغاء معظم ما فعله كوارلز وفريق ترامب للتساهل مع البنوك. إذا نجحت في انتزاع منصب جانيت يلين في نهاية المطاف وأصبحت وزيرة الخزانة، سيدقق الناس بالمقاطع المرتبطة بها في هذين الكتابَين.

بالإضافة إلى تفسير ما فعله الاحتياطي الفدرالي خلال أزمة كورونا والمقاربات التي اعتمدها لتحقيق أهدافه، يعجّ الكتابان بتفاصيل دقيقة ومثيرة للاهتمام، وهي تُذكّرنا بأن صناعة السياسة ليست مجرّد أوراق بيضاء وجداول بيانات. في العام 2008 مثلاً، عرضت مجموعة من سكان ولاية يوتا على الاحتياطي الفدرالي تمثالاً برونزياً لمارينر إكليس بطول ستة أقدام، لكن تردّد المسؤولون في قبوله، بما في ذلك كيفن وارش، حاكم الاحتياطي الفدرالي الذي كان يشرف على هذا النوع من المبادرات. عاد الاحتياطي الفدرالي وأخذ التمثال، لكنه وضعه في مكانٍ غير بارز. وعندما انتشرت أخبار عن احتمال أن يرأس وارش الاحتياطي الفدرالي، صدرت تقارير مفادها أن تلك الحادثة والمناوشات المزعومة بين كوارلز ووارش أثناء عملهما في إدارة جورج بوش الإبن منعت الرجلَين من التعاون في الاحتياطي الفدرالي. تكتب سمياليك أن هذا الوضع انعكس سلباً على فرص وارش.

لكن لا يتعمق أيٌّ من الكتابَين للأسف في الأسباب الكامنة وراء عجز الاحتياطي الفدرالي في عهد باول عن قراءة المعطيات الاقتصادية بشكلٍ صائب، أو سبب تردده في التراجع عن سياسته النقدية التي كانت تحفيزية على نحو استثنائي. تأثرت مشكلة التضخم الراهنة بردّ الاحتياطي الفدرالي البطيء على التعافي السريع وغير المتوقع من الركود الناجم عن أزمة كورونا، وخطة الإنقاذ الأميركية الضخمة التي طرحها بايدن، وما رافقها من شيكات تحفيزية بقيمة 1400 دولار للشخص الواحد. باختصار، توقّع الاحتياطي الفدرالي أن تتلاشى طفرة التضخم التي اعتُبِرت "عابرة"، وأبقى أسعار الفائدة شبه معدومة، وتابع شراء سندات طويلة الأمد تبدو اليوم غير متماشية مع الوضع القائم. أدى تراجع أسعار الفائدة، بالشكل المُخطط له، إلى رفع مستوى الاقتراض والإنفاق، فحُرِم الاقتصاد من قدرته على تزويد السلع والخدمات بسبب اضطراب سلاسل الإمدادات. عندما يتجاوز الطلب مستوى العرض، تميل الأسعار إلى الارتفاع. إنها وصفة مناسبة لزيادة التضخم.

هل اتكل صانعو السياسة في الاحتياطي الفدرالي إذاً على توقعات المسؤولين التي كانت تفاؤلية أكثر من اللزوم بشأن التضخم؟ وهل كانوا يحاولون إثبات دعمهم لإطار العمل الجديد عبر الحفاظ على مستويات متدنية من البطالة والتضخم؟ وهل فضلوا الجمود لتوجيه الأسواق المالية؟ ونظراً إلى توسّع الشكوك المرتبطة بأضرار الجائحة على المستوى الاقتصادي، هل اعتبروا مخاطر التدابير المفرطة لتحفيز الاقتصاد أفضل من مخاطر الاكتفاء بخطوات محدودة؟

ما من أجوبة حاسمة على هذه الأسئلة. ينتهي كتاب تيميراوس بقرار بايدن بإعادة تعيين باول لولاية ثانية كرئيس للاحتياطي الفدرالي، في تشرين الثاني 2021، علماً أن كتابه صدر في آذار 2022. نُشِر كتاب سمياليك بعد سنة، في شباط 2023، لكن يبدو أن تحقيقاتها الاستقصائية توقفت في نهاية العام 2021. بالكاد تذكر مثلاً سلسلة ارتفاع الأسعار العدائية التي أطلقها الاحتياطي الفدرالي في آذار 2022، ما أدى إلى ارتفاع نسبة الفائدة الأساسية على المدى القصير من مستوى شبه صفري إلى معدل يتراوح بين 4.75 و5% خلال أقل من 12 شهراً، وهذا ما دفع عدداً كبيراً من المراقبين، في ربيع العام 2023، إلى توقّع ركود اقتصادي قبل نهاية السنة.

لا يخضع باول لأي تدقيق علني. هو يقول إن التاريخ سيحكم على أداء الاحتياطي الفدرالي. لكنه قال خلال حدثٍ في "مركز هتشينز"، في تشرين الثاني الماضي: "تتعلق نصيحة قدّمناها سابقاً ولن أكررها مجدداً على الأرجح بالامتناع عن رفع أسعار الفائدة من الصفر قبل استقرار الحد الأقصى لمستوى العمل والأسعار. لا أظن أنني سأكرر هذا النوع من التوصيات. بدا تجدّد التضخم مستبعداً بكل بساطة، بعد سنوات على تراجع مستواه. لكن انظروا إلى ما يحصل الآن".


MISS 3