إليزابيت برو

روسيا المعزولة تلجأ إلى الصين لمساعدتها شمالاً

بداية انهيار التناغم في القطب الشمالي

19 أيار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

قباب الاتصالات السلكية واللاسلكية في أرخبيل سفالبارد | النرويج، 10 أيار 2022

بدا موكب "يوم النصر" المؤلف من دبابة واحدة في موسكو ضعيفاً بدرجة لافتة. لكن في "سفالبارد"، الأرخبيل القطبي الشمالي الذي تديره النروج ويشمل عدداً كبيراً من السكان الروس، اتضحت مشاعر الفخر الروسية في كل مكان. تُعتبر تلك الجزر رسمياً غير عسكرية، ومع ذلك نظّم السكان الروس موكباً شبه عسكري يشمل 50 مركبة ومروحية في "بارينتسبرغ"، ثاني أكبر بلدة في "سفالبارد". قد لا يبدو العرض ضخماً، لكن يقتصر عدد سكان تلك المستوطنة على 455 شخصاً.



من الواضح أن روسيا لم تعد تستطيع دعم مطالبها المحتملة في منطقة القطب الشمالي من دون مساعدة الآخرين. منذ أسبوعين فقط، وقّع خفر السواحل الروسي على اتفاق تعاون خاص بالقطب الشمالي مع خفر السواحل الصيني. في غضون ذلك، تريد شركة تعدين روسية في "سفالبارد" إنشاء مركز بحثي تابع لدول "بريكس" هناك. اضطرت موسكو، بسبب ضعفها المتزايد، للاتكال على بكين بدرجة مفرطة، حتى في أقصى الشمال. إنه تطور إيجابي للصين التي تعتبر نفسها دولة "شبه قطبية"، لكنه تطور سلبي لبقية دول القطب الشمالي.

تُعتبر "سفالبارد" حالة نادرة في السياسة الدولية، فهي تشمل مجموعة بعيدة من الأراضي التي يحكمها بلد واحد لكن يقيم فيها أشخاص من بلدان مختلفة، كما أنها تفتقر إلى أي قوات مسلحة. هكذا هو الوضع هناك منذ العام 1920، حين وضعت معاهدة دولية جزر "سفالبارد" الواقعة في أقصى شمال القطب الشمالي تحت الحُكم النروجي، ومنحت السكان القادمين من دول موقّعة أخرى على المعاهدة الحق بالعيش هناك والقيام بأشكال معينة من الأعمال. انضمّت الصين إلى المعاهدة في العام 1925، ثم حذا الاتحاد السوفياتي حذوها بعد عشر سنوات.

اليوم، يشمل الأرخبيل حوالى 2900 شخص، وفيه شركة روسية وأخرى نروجية لتعدين الفحم، وهو يشهد بعض المشاريع البحثية وحركة سياحية متجددة بعد تراجعها خلال أزمة كورونا. حتى أن هذه المنطقة كانت قد تجاوزت الحرب الباردة من دون وقوع أي اشتباكات بين النروج المنتسبة إلى الناتو والاتحاد السوفياتي.

شهدت الحرب الباردة تعاوناً علمياً بارزاً بين الطرفين في القطب الشمالي. إنها المنطقة الوحيدة التي نجت من الحرب الباردة بهذه السهولة على الأرجح. تبدو "سفالبارد" مكاناً استثنائياً وشبه مثالي لدرجة أن يأتَمِنْها العالم على مستقبله في العام 2006، فهي تستضيف "القبو العالمي للبذور" الذي يجمع سلالات من جميع أنواع النباتات (يصل عددها إلى 4 ملايين ونصف) كي تستعملها البشرية لإعادة إحياء العالم في حال وقوع كارثة مدمّرة. لكن تُعتبر "سفالبارد" أيضاً نقطة انطلاق لواحدة من تلك الكوارث المحتملة، فقد بدأ متوسط حرارتها يرتفع بسرعة تفوق المتوسط العالمي بست مرات، ما يجعلها بيئة مثالية لتكثيف التعاون في ملف التغير المناخي.

لكن في السنوات الأخيرة، بدأ التناغم السائد في القطب الشمالي يتدهور حين راحت روسيا تكثّف وجودها العسكري وتنشر المزيد من قوات خفر السواحل في مناطقها القطبية التي تمتد من النروج وفنلندا غرباً إلى ألاسكا شرقاً. في العام 2015، حضر نائب رئيس الوزراء الروسي، ديمتري روغوزين، إلى "سفالبارد" من دون إذن السلطات النروجية، فتكلم عن تعدد المشاكل التي لا تزال عالقة منذ الحقبة السوفياتية وما قبلها. وفي 9 أيار من هذه السنة، عبّر الروس في "سفالبارد" عن آرائهم حول الأحداث الراهنة عبر تنظيم موكب "يوم النصر" شبه العسكري في "بارينتسبرغ".

اليوم، بدأت روسيا تتعاون مع الصين. يقول فلاديمير كوليشوف، مدير الخدمة الحدودية في جهاز الأمن الفدرالي، إن خفر السواحل الروسي وقّع على اتفاق تعاون مع نظيره الصيني، في أواخر شهر نيسان، لزيادة التنسيق بين الوكالتَين بهدف "مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية، ومحاربة تهريب المخدرات والأسلحة، فضلاً عن وقف الصيد غير المشروع. ستبدأ الوكالتان بتنفيذ تدريبات مشتركة في المستقبل القريب".

ثمة تعاون أصلاً في منطقة القطب الشمالي بين قوات خفر السواحل من النروج، والسويد، وفنلندا، وأيسلندا، والدنمارك، وكندا، والولايات المتحدة. لكن علّقت تلك البلدان مشاركتها في منتدى خفر السواحل للقطب الشمالي الذي ترأسه موسكو في الوقت الراهن، فأصبحت روسيا المشارِكة الوحيدة فيه وسرعان ما وجّه الكرملين دعوة إلى الصين. لم يوقّع هذان البلدان الاتفاق المشترك بينهما في إحدى قواعد الجزء الشرقي من ساحل القطب الشمالي في روسيا (وهو موقع أقرب إلى الصين)، بل في "مورمانسك" التي تقع على بُعد ثلاث ساعات بالسيارة من بلدة "كيركينيس" النروجية. يقول أريلد مو، أستاذ بحثي متخصص بشؤون روسيا والقطب الشمالي من معهد "فريدجوف نانسن" في النروج: "إنه مثال على عمق التعاون بين روسيا والصين، ومن اللافت أن يحصل الاتفاق في القطب الشمالي. يحمل توقيع المعاهدة في ظل هذه الأجواء المشحونة وفي "مورمانسك" رسالة قوية".

على صعيد آخر، يقول أليكسي تشيكونكوف، الوزير الروسي لتنمية الشرق الأقصى والقطب الشمالي، إن شركة التعدين الروسية "تراست أركتيكوغول" في "سفالبارد" ستبني مركزاً بحثياً أيضاً بمشاركة الصين. هو كتب على "تلغرام" في الشهر الماضي: "تهدف هذه الشركة مستقبلاً إلى إبطاء إنتاج الفحم بطريقة منهجية، وتطوير السياحة، وبناء محطة علمية دولية في القطب الشمالي على أن تشمل نظراء لدول بريكس". من المنطقي أن يهتم تشيكونكوف بدول "بريكس"، وعلى رأسها الصين، لأن وضع الحكومة الروسية التي تفتقر إلى الأموال النقدية لا يسمح لها بتخصيص تمويل كبير لمشاريع الأرخبيل.

في بداية الألفية الثالثة، لم تكن مشاركة الصين في أبحاث القطب الشمالي مقلقة. في العام 2004، افتتحت إدارة القطبَين الشمالي والجنوبي في الصين "محطة القطب الشمالي للنهر الأصفر" في "سفالبارد"، داخل منشآت مستأجرة من شركة نروجية. (تعطي معاهدة "سفالبارد" النروج وحدها الحق بإجراء الأبحاث هناك، لكن يرحّب هذا البلد بالباحثين الأجانب، حتى أنه قدّم الدعم لمشاريع البنية التحتية والنقل). بدءاً من العام 2016، افتتحت الصين "المحطة الأرضية القطبية الشمالية لأقمار الاستشعار الاصطناعية عن بُعد" في بلدة "كيرونا" السويدية. وبعد مرور سنتين، افتتحت "مرصد العلوم الصيني الأيسلندي" في أيسلندا.

اليوم، يبدو العالم مختلفاً. رغم احتدام المواجهة الجيوسياسية، يحق لـ"شركة الصين للاتصالات والإعمار" المملوكة للدولة والخاضعة للعقوبات الأميركية أن توقّع على اتفاق مع شركة "روستيتان" الروسية، كما فعلت في شهر شباط الماضي، بهدف تطوير مخزون ضخم من التيتانيوم (هو الأكبر في العالم) في منطقة "كومي" الروسية في القطب الشمالي. تم اكتشاف ذلك المخزون منذ سنتين وهو يشمل الزركون، وخام الحديد، والذهب. يحق لشركة "تراست أركتيكوغول" من جهتها أن تتخلى عن الفحم تدريجاً بالتعاون مع شركاء آخرين. في شهر أيلول المقبل، من المنتظر أن تغلق شركة "ستور نورسك" النروجية آخر منجم فحم تابع لها في "سفالبارد".

لكن عند التخطيط لنشاطات صينية جديدة في مناطق القطب الشمالي التي يستعملها المواطنون الغربيون والمنظمات الغربية في معظم الأوقات، يجب أن يتنبه الجميع لما يحصل. قد يؤدي توسّع الحضور العلمي الصيني في "سفالبارد" إلى زيادة مخاوف العلماء الآخرين العاملين هناك، ثم تحصل بكين على امتيازات إضافية كي تؤكد على ادعائها القائل إنها دولة "شبه قطبية". يقول مو: "تستعمل الصين مكانتها كموقّعة أولى على معاهدة "سفالبارد" وتستفيد من تشغيل المركز البحثي هناك لاعتبار نفسها لاعبة شرعية في سياسة القطب الشمالي".

قد يتبيّن أن التعاون بين خفر السواحل الروسي ونظيره الصيني حميد بالكامل، لكنّ محاربة الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، والتهريب، والصيد غير المشروع، هي مهام شاقة وواسعة النطاق. يحمل خفر السواحل الصيني سمعة مشبوهة وسجلاً مليئاً بالتحركات العدائية وغير القانونية أحياناً تجاه السفن الآتية من بلدان أخرى. في الشهر الماضي مثلاً، أعاقت سفن خفر السواحل الصيني دورية فلبينية بالقرب من منطقة "سكند توماس شول" في بحر الصين الجنوبي بعد إجبارها على المغادرة. وفي الأسبوع الماضي، دخل أسطول صغير من خفر السواحل الصيني وسفن تابعة لميليشيات بحرية موقع غاز تديره شركات مملوكة للدولة من روسيا وفيتنام في المنطقة الاقتصادية الخالصة الفيتنامية. يُفترض أن تفكر بلدان القطب الشمالي بما ستفعله إذا وجّهت سفينة صينية مثلاً أجهزة ليزر عسكرية نحو سفن تبحر في المياه الفنلندية أو النروجية. وماذا لو قرر خفر السواحل الصيني والروسي إجراء دوريات في المياه المحيطة بمنطقة "سفالبارد"؟

من المؤسف أن يرضخ نظام عالمي استثنائي للتطورات الجيوسياسية المستجدة بعد أكثر من قرن على ظهوره. يعكس وضع "سفالبارد" والقطب الشمالي عموماً واقعاً مزعجاً جداً بالنسبة إلى الغرب: من خلال عزل روسيا، يبدو أن الحكومات الغربية تحث موسكو عن غير قصد على فتح المجال للصين. في منطقة القطب الشمالي الحساسة والاستراتيجية، ستّتضح تداعيات ما يحصل على أعتاب الدول الغربية. في ما يخص الأبحاث الحاصلة في "سفالبارد"، حتى الوزير تشيكونكوف سيفضّل على الأرجح نشوء معهد بحثي تابع لبيل غيتس ومعنيّ بالتغير المناخي مثلاً بدل بناء معهد صيني. من يستطيع عرض هذه الفكرة على غيتس؟


MISS 3