البروفسور أنطونيوس أبو كسم

رئاسة الجمهورية اللبنانية في ميزان رئاسة مجلس الوزراء

22 أيار 2023

02 : 00

تحت حججٍ متعدّدة، لم يُعلن أيّ مرشّحٍ لرئاسة الجمهورية برنامجه الرئاسي، إمّا لأنّ بعضهم لا يتمتّع بالجرأة الكافية أو الكفاءة المطلوبة، وإمّا إيماناً من بعضهم أنهم ليسوا أصحاب قرار الترشّح، وإمّا يقيناً أنّ القوى الخارجيّة هي التي ترشّح وتسوّق.

الرئيس الحَكَم وفقاً للدستور والميثاق

بالرغم من غياب البرامج، إنّ التركيز على دور رئيس الجمهورية العتيد ومسؤولياته يتخطّى حدود الدستور. إنّ التركيز على شمولية صلاحيات رئيس الدولة ينطوي على أهدافٍ مبيّتة، تؤدّي إلى تحميله مسؤولية فشل الحكم والعهد. في حين أنّ رئيس الجمهورية وبعد الطائف، لم يعُد رئيساً للسلطة التنفيذية، بل مجرّد شريكٍ تنفيذيّ إذا قرّر ذلك نسبةً لعدد الوزراء الذين يولونه الولاء. لقد أنيطت السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء؛ ولو أنّ رئيس الدولة يترأّس مجلس الوزراء حينما يشاء، فهذا لا يجعل منه رئيساً لمجلس الوزراء. فإنّ الحكومة فقط تخضع للمساءلة أمام مجلس النواب.

طبقاً لروح الدستور اللبناني، إنّه الحَكَم وليس الحاكم. من رئيسٍ للسلطة التنفيذية، تحوّل رئيس الجمهورية إلى رئيس للدولة بأرضها وشعبها ورئيسٍ لمؤسساتها الدستورية لجهة ضبط تناسق عملها كونه المحافظ الأوّل على الميثاق. له رئاسة رعاية لا رئاسة إمرة، رئاسة عامّة لا رئاسة مباشرة، رئاسة رقابية لا رئاسة قضائية.

كالمؤتمن على الدستور، يتمتّع بصلاحيات رقابية تجاه النصوص التشريعية والقرارات التنفيذية. فهو لا يقترح القوانين، بل له طلب إعادتها للمجلس النيابي لقراءة ثانية، كما له توجيه رسائل لمجلس النواب وتأجيل انعقاد جلساته، إضافةً إلى حقّ الطعن بالقوانين أمام المجلس الدستوري. إنّه حامي المشروعية، لا يوقّع أيّ مرسوم مخالف للقانون، وله الطلب إلى مجلس الوزراء إعادة النظر بقراراته، إضافة إلى حقّ دعوة مجلس الوزراء استثنائياً، كما وعرض أيّ أمرٍ طارئ على مجلس الوزراء من خارج جدول الأعمال.

رئيسٌ صاحب رؤية

تكمن أهميّة برنامج المرشّح الرئاسي، في معرفة مقاربته لمدى صلاحياته التنفيذية، ورؤيته حول دوره التشريعيّ في مؤسسة دولة القانون، ورقابته على السلطة القضائية، وقدراته السيادية ومناعته في العلاقات الخارجية، فهو الذي يعتمد السفراء ويفاوض في المعاهدات الدوليّة. نجاح البرنامج يرتكز على موقعه كرئيسٍ للدولة، وليس كرئيسٍ متلهّف للسلطة يسعى إلى منافسة رئيس الحكومة. فالدستور اللبنانيّ، ينصّ على رئيس واحدٍ للدولة، يعلو رئيس السلطة الاشتراعية ورئيس السلطة التنفيذية، فلم ينصّ على رؤساءٍ ثلاثة.

من هنا، تسقط نظريات الرئيس الاقتصادي، والرئيس الأمني، ورئيس التسوية. أهَل المطلوب أن يمارس رئيس الجمهورية دور وزير المالية أم حاكم المصرف المركزي؟ أو دور وزير الداخلية والأجهزة الأمنيّة؟ أهَل المطلوب الرئيس الموظّف؟ ماذا إذاً عن مبدأ فصل السلطات؟ إنّ المعرفة التقنيّة للرئيس أمرٌ جيّد ومطلوب لكنّها ليست المعيار. هل يمكن جمع صفات رئيس تسوية يخضع للجميع مع موقع رئيس الدولة؟ هل إنّ تطبيق الدستور يتوافق مع التسويات التي تسقط مع كلّ هبّة ريحٍ؟ حذار الخلط ما بين الرئيس الميثاقي ورئيس التسوية.

مواصفات رئيس الدولة

إنّ مواصفات الرئيس مهما كانت خلفيته اقتصادية، قضائية، عسكريّة أو سياسيّة لا تهمّ، الأساس عزمه على تطبيق الدستور من دون استنسابية واجتهادات غبّ الطلب من صنع مستشارين ملغومين وموظفين محدودين مهما علت مراتبهم.

من أعمالهم تعرفونهم، والرأي العام المحليّ والدوليّ يعرف الجميع خصوصاً وأنّ كلّ من مارس مهامّ في الشأن العام هو عرضة للمحاسبة، فعند الامتحان يُكرَم المرء أو يهان. فلولا فداحة تجربة بعض الوجوه، لما سقطت نار العقوبات الدولية، حيث يتبيّن يوماً بعد يوم صحّة الاتهامات جرّاء الفضائح التي تنفجر يومياً.

أمّا المؤسف، فهو اعتماد معيار الخبرة السياسية التقليديّة للمرشح الرئاسي، وليس اعتماد معيار رجل الدولة. لقد اختبر الشعب أداء بعض المسؤولين كرجال دولة خلال الأزمات مقابل رجال سياسة يخيّطون قوانين انتخابية فقط لدخول السياسة ويمعنون بتدمير البلاد وفقاً لـ»الخبرة السياسيّة». لقد تمّ اختبار من يحافظ على وحدة الوطن ومن يهدّد السلم الأهلي ومن يُقحِم طائفته بلهيب نار المذهبية. إنّ لبنان يشهد لتضحيات رجالات رجال، وينبذ رجال سياسة ومحاصصة عطّلوا البلد وأفرغوه وتدخّلوا بالقضاء وقتلوا شهداء المرفأ عدّة مرّات.

إنّ الرئيس العتيد، لا يتدخّل بالقضاء، ولا يحمي مطلوبين في دياره، ولا يعتمد على تمويل لا الأصدقاء ولا المشغّلين لسداد مصاريف الحملة الانتخابية في الداخل والخارج. إنّ رمز وحدة الوطن، لا يمكنه أن يزور عواصم لإجراء مقابلات، ولا يزور سفارات لتقديم الولاء، ولا يزور تنظيمات مسلّحة لطمأنتها بشأن دورها الأمني والاقتصادي. إنّ الرئيس هو قائدٌ وصاحب قرار وليس موظفاً ولا زعيماً سياسياً أو مناطقياً ولا شخصيّة تسوويّة جبانة.

إنّ السيادة تحتّم رئيساً صاحب كرامة وشهامة نظيف الكفّ، رئيساً «لا يخجل مستقبله من ماضيه»، رئيساً متجرداً وقادراً على مسافة واحدة من الجميع باستطاعته إدارة حوارٍ وطنيّ جامع، يكون رمزاً للثقة ويُعيد مجد العلاقات ما بين لبنان وأشقائه العرب، وكذلك ثقة المجتمع الدولي بأنّ لبنان هو دولة ووطن.

رئيس الحكومة ضمانة العهد

إنّ الكلام على رئاسة الجمهورية اللبنانية وإنقاذ البلاد وإصلاح الدولة، يتطلّب أيضاً البحث عن رئيس حكومة شجاعٍ لا يخاف تحمّل المسؤولية، ويتقن ممارسة دوره التنفيذي والرقابيّ كونه مسؤولاً عن تنفيذ السياسة العامة التي يضعها ومجلس الوزراء، فيستمدّ صلاحياته من الدستور وليس من قاموس المذاهب اللبنانية التي يعتمد معظمها على الفتاوى المذهبيّة والولاء الأعمى لبعض الدول، وكأنّ لكلّ طائفة مرجعيّة خارجية تأتمر بها.

إنّ المشاورات السياسية يجب أن تشمل مواصفات رئيس الحكومة، فلا عهد ناجحاً من دون رئيس حكومة صاحب برنامج إجرائي وإصلاحي، خصوصاً أنّه رأس الإدارة وتخضع له أجهزة الرقابة. المشكلة، أنّه بدلاً من أن يكون «رئيس الحكومة القويّ» خياراً رئاسياً، أضحى خياراً نيابياً تسووياً، حيث أنّ قانون الانتخاب الحالي ينتج أكثريات نيابيّة هزيلة متعدّدة، ما ينعكس ضعفاً في الخيار. إنّ قوّة أيّ عهد تكمن بقوّة رئيس الحكومة وليس العكس. رئيسٌ قويّ مقابل رئيس حكومة ضعيف، معادلةٌ تنتج عهداً فاشلاً، فتعجز الحكومة عن تنفيذ بيانها الوزاري، فتُغرِقُ معها الرئيس الذي يجرّ معه العهد إلى أقاصي الجحيم.

تحت وطأة النظام البرلمانيّ الكلاسيكي الهجين، الرهان على صحوة برلمانية تؤمّن وصول رئيسٍ للدولة، يضمن مبدأ فصل السلطات وتعاونها وفقاً للدستور اللبناني نصاً وعرفاً، وتنتج تضامناً برلمانياً يؤمّن وصول رئيس حكومة وفقاً لاستشارات - يتخطّى دور رئيس الجمهورية فيها عدّ الأصوات - مهمّته إنقاذ المؤسسات وإصلاحها وليس نهبها ومحاصصتها تحت عنوان الشراكة الميثاقيّة.

(*) محامٍ دوليّ وأستاذ جامعي


MISS 3