جاسمين موجانوغيتش

كيف خسر بايدن البلقان؟

24 أيار 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي لغرب البلقان غابرييل إسكوبار (يسار) مع الرئيس الصربي ألكسندر فوسيتش | صربيا، 2 شباط 2022

تكثر التوقعات المرتبطة بتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط 2022، ويظهر أبرزها في منطقة غرب البلقان التي تمثّل النصف الآخر من الحدود الجيوسياسية الكبرى في أوروبا. تمنى الكثيرون في هذه المنطقة أن يضع ذلك الغزو حداً للأوهام الغربية بشأن احتمال التعايش مع الأنظمة الاستبدادية والشوفينية.



في سراييفو وبريشتينا وبودغوريتشا تحديداً، توقّع الكثيرون أن تكتشف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أخيراً حقيقة صربيا ونظام ألكسندر فوتشيتش: إنها دولة تابعة للكرملين، وهي تنشر الفتنة عبر شبكة من العملاء الإقليميين بهدف توسيع مكائدها شبه الإمبريالية والتعاون مع موسكو لكبح طموحات البوسنة والهرسك، وكوسوفو، ومونتينيغرو، بالانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. نتيجةً لذلك، يُفترض أن تتحمل بلغراد عواقب أفعالها في نهاية المطاف.

لكن لم يتحقق شيء من هذه التوقعات. على مر السنة الماضية، عمدت الولايات المتحدة إلى تعميق التزاماتها مع الرئيس الصربي شبه المستبد، أكثر من الاتحاد الأوروبي بحد ذاته، وأعادت في الوقت نفسه توجيه مواقفها الإقليمية العامة بما يخدم بلغراد وأولويات سياستها الخارجية.

في الملف الأوكراني، أصرّت إدارة جو بايدن على مبدأ إشراك أوكرانيا في جميع القرارات المرتبطة بها، ما يعني أن يشارك الأوكرانيون في مختلف المفاوضات المتعلقة بالحرب. كما أنها اعتبرت دعمها لكييف انعكاساً لأجندة الرئيس الأميركي الداعمة للديمقراطية. لكن لا ينطبق أيٌّ من هذه المبادئ على التحركات الأميركية في غرب البلقان.

في هذه المنطقة، يجتمع الســــفيران الأميركيان في سراييفو وبلغراد مع فوتشيتش لمناقشة التحركات الشائكة التي يتخذها رئيس جمهورية صرب البوسنة، الملازم الانفصالي ميلوراد دوديك، في البوسنة. تتزامن هذه الاجتماعات مع التشديد على "أهمية دعم سيادة البوسنة، ووحدة أراضيها، ومؤسساتها الحكومية الفاعلة ومتعددة الأعراق".

لكن ما الذي دفع واشنطن إلى التواطؤ مع بلغراد بهذا الشكل؟ السبب ليس معقداً، فهو يتعلق بسياسة تتعارض بالكامل مع موقف إدارة بايدن من أوكرانيا. بعد بدء الغزو الروسي، كانت إدارة بايدن محقة حين أدركت أن الوضع السياسي والأمني العام في غرب البلقان لم يعد مقبولاً. شكّلت البوسنة، وكوسوفو، ومونتينيغرو، نقاط اشتعال محتملة، ما يعني أن تستغلها موسكو لإنشاء جبهة ثانية في أوروبا، من الناحية السياسية على الأقل. كانت الولايات المتحدة لتستفيد إذاً من السيطرة على غرب البلقان بعد عقدَين من تكليف بروكسل بمعظم شؤون المنطقة الإدارية وتحقيق نتائج مشينة.

لبلوغ هذا الهدف، يقال إن وزارة الخارجية في عهد بايدن استنتجت أنها تحتاج إلى شركاء قادرين على تنفيذ وعودهم. في غرب البلقان، يعني ذلك عموماً الاتكال على أقل الأنظمة تعددية في المنطقة. في هذا السياق، تقول ماجدا روج، محللة سياسية بارزة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "تتعامل الحكومات الغربية مع بلغراد دوماً وكأنها لاعبة لا غنى عنها في المسائل الأساسية التي يواجهها غرب البلقان. هي تتصل بالرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش أولاً، بغض النظر عن المسائل العالقة. يُعتبر جزء من هذا النهج مبرراً، إذ تتركز السلطة في صربيا بيد فوتشيتش الذي اكتسب كمّاً هائلاً من النفوذ".

يعني ذلك أيضاً إضعاف سراييفو وبريشتينا وبودغوريتشا سريعاً، مع أن هذه العواصم الثلاث معروفة بولائها للغرب وتنتسب مونتينيغرو إلى حلف الناتو أصلاً. لكن تبقى السياسة الداخلية في هذه الدول منقسمة بدرجة مفرطة بسبب تدخّل القوى الخارجية في شؤونها مباشرةً. تتدخّل صربيا أولاً ثم كرواتيا في شؤون البوسنة مثلاً. تفترض إدارة بايدن على الأرجح أن السلام في البلقان يتطلب فرض مصالح الأقوى على الأضعف، وإبداء مصالح الأطراف الأكثر ميلاً إلى نشر الاضطرابات على تلك التي تحاول الدفاع عن نفسها.

إنه شكل من الحسابات السياسية الواقعية التي وجّهت السياسة الأميركية في المناطق المتقلبة طوال عقود. سعت واشنطن في السنوات السابقة إلى تطبيق هذه المقاربة أيضاً مع باكستان، ومصر، والمملكة العربية السعودية، وحتى روسيا، لكنّ نتائج هذا التوجّه تتكلم عن نفسها. في الشهر الماضي، قال دانيال سيروير، دبلوماسي أميركي سابق ومحلل للسياسة الخارجية، إن أي "تحليل بسيط" للمعسكر الذي يؤيد هذا النوع من السياسات يبقى "شائباً". ثم تابع قائلاً: "لطالما اتكل هؤلاء على صربيا باعتبارها الدولة المحورية التي تستطيع إرساء الاستقرار في المنطقة، بالتعاون مع كرواتيا وألبانيا. لكن تبقى صربيا قوة رجعية، فهي تريد أن تحكم جميع الصرب في المنطقة. تحمل كرواتيا وألبانيا طموحات أقل مستوى، لكنهما تسيران في الاتجاه نفسه وتسعيان إلى السيطرة على مواطنيهما في البوسنة وكوسوفو المجاورتَين". لم يتّضح بعد إلى أي حد يمكن اعتبار ألبانيا جزءاً من هذه المعادلة الثلاثية، لكن يشكك بعض المراقبين المخضرمين بأهمية صربيا وكرواتيا في هذه الخطة.

لكن تكمن المشكلة الحقيقية في صعوبة إحداث فرق حقيقي في هذه المرحلة، حتى لو أعادت إدارة بايدن النظر في سياساتها. كانت إخفاقات الرئيس الأميركي جو بايدن في هذه المنطقة كبيرة لدرجة أن يعجز على الأرجح عن إنقاذ سمعته وسط الشعوب الأكثر تضرراً من قراراته، علماً أنها تُعتبر من أكثر الجماعات ولاءً للولايات المتحدة في المنطقة. ينطبق هذا الوضع تحديداً على البوسنة، حيث تراجعت الثقة بالولايات المتحدة إلى أدنى مستوياتها بعد حقبة الحرب، بسبب دور واشنطن في ترسيخ أساليب التلاعب الفاضح والمُسيّس وغير الليبرالي من جانب مكتب الممثل السامي لصالح "الاتحاد الديمقراطي الكرواتي للبوسنة والهرسك" وشركائه في "تحالف الديمقراطيين الاشتراكيين المستقلين" بقيادة ميلوراد دوديك.

لكن لا علاقة مباشرة للبيت الأبيض أو وزارة الخارجية الأميركية بهذه المسائل طبعاً. في 27 نيسان، دعمت الولايات المتحدة مجدداً جولة ثانية من التعديلات الدستورية الشائكة ديمقراطياً في اتحاد البوسنة، غداة الفشل في تحقيق النتائج المنشودة (مثل تشكيل حكومة يسيطر عليها "الاتحاد الديمقراطي الكرواتي للبوسنة والهرسك") عن طريق التعديلات الأولية التي فرضها الممثل الأعلى كريستيان شميت، بدءاً من 2 تشرين الأول 2022، بعد لحظات على انتهاء الاقتراع في الانتخابات العامة. سرعان ما تلاشت جميع الادعاءات المرتبطة بالمساعي الرامية إلى إقرار إصلاحات ليبرالية وديمقراطية مستدامة في البوسنة. تتحرك واشنطن في الوقت الراهن خدمةً لالتزاماتها تجاه بلغراد وزغرب، ما يعني تحقيق المصالح السياسية لعملائها في البوسنة والمنطقة ككل.

في تحوّل تاريخي لافت، قد يندم فريق بايدن على موقفه تجاه البلقان، على المدى القصير على الأقل، بسبب الوقائع الانتخابية الأميركية. ثمة عدد صغير لكن كافٍ انتخابياً من الأميركيين البوسنيين في ولايات متأرجحة مثل جورجيا، وميشيغن، وكارولاينا الشمالية، وأريزونا، وقد تضمن هذه الشريحة من الناخبين فوز المرشّح الجمهوري في الانتخابات الرئاسية المقبلة. بدءاً من العام 2015 مثلاً، بلغ عدد البوسنيين المقيمين في ولاية جورجيا الأميركية حوالى 10 آلاف شخص، وقد فاز بايدن بأقل من 12 ألف صوت منهم في العام 2020. ثمة عدد مشابه من البوسنيين في كارولاينا الشمالية أيضاً. وفي ولاية ميشيغن التي تشمل عدداً مقارباً من الأميركيين البوسنيين، أعلنت الحاكمة غريتشن ويتمر تاريخ 1 آذار "اليوم الأميركي البوسني". كذلك، استضافت مدينة "فينكس" في أريزونا وحدها حوالى 7 آلاف لاجئ بوسني خلال التسعينات وبداية القرن الواحد والعشرين، وقد توسّعت هذه الجماعة بدرجة ملحوظة منذ ذلك الحين. تُضاف هذه الأرقام كلها إلى ما يقارب الخمسين أو السبعين ألف أميركي بوسني في منطقة "سانت لويس" الأكبر حجماً في ولاية ميسوري التي تشهد معركة انتخابية شرسة.

من المستبعد أن يحقق الجمهوريون المصالح الأساسية لهؤلاء الناخبين، بما يتماشى مع أولوياتهم الإقليمية (رغم وجود أسماء محلية قوية مثل النائبة عن ولاية ميسوري، آن واغنر). لكن عند التكلم مع قادة المجتمعات الأميركية البوسنية في أنحاء البلد، يسهل أن تتّضح مشاعر الغدر التي يشعر بها هؤلاء السكان بعد انقلاب بايدن على البوسنة والبلقان عموماً. لا يحتاج البوسنيون إلى التصويت لصالح المرشّح الجمهوري لتبديد فرص بايدن بإعادة انتخابه، بل يكفي أن يلازموا منازلهم في يوم الانتخاب.

لكن لا يشكّل هذا الوضع مواساة كافية للشعوب المستضعفة التي أصبحت اليوم تحت رحمة حكومات قومية في صربيا وكرواتيا، وباتت تسترجع جميع الذكريات التاريخية والسياسية التي ترافق تجدّد نفوذ تلك الحكومات. كما حصل في حالات سابقة كثيرة في غرب البلقان، ها قد تلاشت مجدداً الوعود الإيديولوجية الكبرى في هذا العصر، لا سيما الأمل بأن يلتزم الغرب السياسي بشكلٍ قاطع بالدفاع عن الديمقراطية وحق الدول الصغيرة بالحرية. يكفي أن نقطع أقل من ألف ميل في جنوب غرب "بوتشا"، في أوكرانيا، كي نعثر على أميركيين يتواصلون مع عملاء روس معروفين بحجّة إرساء استقرار أجوف ووحشي.


MISS 3