تيموثي غارتون آش

الحرب في أوكرانيا بدأت تغيّر أوروبا...

إمبراطورية من نوع آخر في حقبة ما بعد العصر الإمبريالي

25 أيار 2023

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

المستشار الألماني أولاف شولتس في براغ | آب ٢٠٢٢

التاريخ يعشق العواقب غير المقصودة، ويطرح أحدث مثال على ذلك مفارقة بارزة: أدّت مساعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتجديد الإمبراطورية الروسية عبر إعادة استعمار أوكرانيا إلى نشوء أوروبا جديدة في حقبة ما بعد العصر الإمبريالي. تفتقر هذه النسخة من أوروبا إلى إمبراطوريات يسيطر عليها شخص واحد أو بلد واحد، وهو وضع غير مسبوق في القارة الأوروبية.

لكن لترسيخ هذا التوجّه مستقبلاً والتصدي للعدوان الروسي، يجب أن يكتسب الاتحاد الأوروبي جزءاً من خصائص الإمبراطورية، ما يعني أن يتمتّع بدرجة كافية من الوحدة، والسلطة المركزية، والقدرة على صناعة قرارات فاعلة للدفاع عن قيم الأوروبيين ومصالحهم المشتركة. إذا كان كل عضو فردي يملك حق النقض لإعاقة أهم القرارات، فلا مفرّ من انهيار الاتحاد داخلياً وخارجياً.

تطرح الرؤية المستجدّة حول توسيع نطاق الاتحاد الأوروبي على المدى الطويل، عبر شراكة استراتيجية مع حلف الناتو، سؤالَين أساسيَين: ماذا عن موقف روسيا؟ وكيف يمكن أن يصمد الاتحاد الذي ينوي ضمّ 36 عضواً أو حتى أربعين في نهاية المطاف؟ تصعب الإجابة على السؤال الأول من دون معرفة ظروف روسيا بعد عهد بوتين، لكن يتوقّف جزء كبير من الجواب على البيئة الجيوسياسية الخارجية التي نشأت في غرب روسيا وجنوبها. قد يُحدّد صانعو السياسة الغربية طبيعة تلك البيئة مباشرةً وبطريقة يعجز عنها التطوّر الداخلي لروسيا المتراجعة رغم امتلاكها أسلحة نووية.

على المستوى السياسي، ألقى المستشار الألماني أولاف شولتس أهم خطاب عن هذا الموضوع في براغ، في شهر آب الماضي، فأعاد التأكيد على التزامه الجديد بتوسيع الاتحاد الأوروبي شرقاً وأصرّ على ضرورة تعميق الوحدة بين الأعضاء، كما حصل خلال جولات التوسّع السابقة. باختصار، يجب أن تزداد قوة السلطة المركزية في الاتحاد الأوروبي لضمان تماسك هذا الكيان السياسي الواسع والمتنوع، شرط أن تستمرّ الممارسات الديمقراطية وألا تطغى قوة وطنية واحدة على الأعضاء الآخرين.

طرح شولتس تحليلاً صحيحاً، وهو موقف بالغ الأهمية كونه يصدر عن زعيم القوة المركزية في أوروبا. لكن ألا تُعتبر هذه المقاربة بحدّ ذاتها نسخة من الإمبراطوريات؟ يرتكز هذا النوع الجديد على عضوية طوعية وإجماع ديمقراطي. يتجنّب معظم الأوروبيين مصطلح «الإمبراطورية» باعتباره جزءاً من الماضي الغابر الذي كان سيئاً ومُجرّداً من الديمقراطية والليبرالية. بدأ الأوروبيون يتكلمون على الإمبراطوريات بوتيرة متزايدة في الفترة الأخيرة بسبب نشوء حركات احتجاجية تدعو القوى الأوروبية الاستعمارية السابقة إلى الاعتراف بالشرور التي ارتكبتها إمبراطورياتها الاستعمارية والتعويض عنها. لهذا السبب، يفضّل الأوروبيون مصطلحات مثل التكامل، أو الوحدة، أو الحُكم المتعدّد المستويات.

إذا كان مفهوم «الإمبراطورية» يعني أن تفرض دولة استعمارية واحدة سيطرة مباشرة على أراضي شعب آخر، فلا يمكن اعتبار الاتحاد الأوروبي شكلاً من الإمبراطوريات. لكن يبقى هذا التعريف محدوداً. إذا كان جزء من أهم خصائص الإمبراطورية يتعلّق بالسلطة العابرة للأوطان وبفرض القانون والنفوذ، يعني ذلك أن الاتحاد الأوروبي يحمل مجموعة من صفات الإمبراطورية. في مجالات سياسية كثيرة، يطغى القانون الأوروبي على القوانين الوطنية. وعلى المستوى التجاري أيضاً، يتفاوض الاتحاد الأوروبي نيابةً عن جميع الدول الأعضاء.

يدعم مصدر بارز هذا الرأي عن الاتحاد الأوروبي، فقد اعتبره وزير الخارجية الأوكراني، ديميترو كوليبا، «أول محاولة على الإطلاق لبناء إمبراطورية ليبرالية»، لكنها تختلف عن مساعي بوتين لإعادة إحياء الإمبراطورية الاستعمارية الروسية عبر الغزو العسكري. برأي كوليبا، تتميّز الإمبراطورية الليبرالية في المقام الأول بالحفاظ على تماسك دول وجماعات عرقية مختلفة جداً، «لا عن طريق القوة بل عبر حُكم القانون». من وجهة نظر كييف، تبرز الحاجة إلى إمبراطورية ليبرالية وديمقراطية لهزم إمبراطورية غير ليبرالية ومعادية للديمقراطية.

يرتبط جزء كبير من العوائق التي تحول دون تحقيق هذا الهدف بتاريخ أوروبا الإمبريالي. تدعو عالِمة السياسة الألمانية، غويندولين ساس، ألمانيا إلى تجريد رأيها بأوروبا الشرقية من البُعد الاستعماري. إنها نسخة غير مألوفة من حملة إنهاء الاستعمار. عندما يتكلم الناس على حاجة المملكة المتحدة أو فرنسا إلى تجريد رأيهما بأفريقيا من البُعد الاستعماري، يعني ذلك ألا ينظر هذان البلدان (عمداً أو سهواً) إلى القارة الأفريقية انطلاقاً من تاريخهما الاستعماري السابق. من وجهة نظر ساس، يجب أن تمتنع ألمانيا، التي كانت منبهرة بروسيا على مرّ تاريخها، عن التعامل مع بلدان مثل أوكرانيا ومولدوفا انطلاقاً من المنظور الاستعماري الروسي.

لكن يتأثر الوضع أيضاً بالصورة التي يحملها الناس عن أوروبا في أماكن كانت سابقاً مستعمرات أوروبية أو تأثرت بسلبيات الإمبريالية الأوروبية، مثل الصين. يتعلم الطلاب الصينيون مثلاً أن يبغضوا «قرن الإهانة» بسبب الإمبرياليين الغربيين. في الوقت نفسه، يتحدث الرئيس الصيني شي جين بينغ بكل فخر عن استمرارية بلده، بدءاً من الإمبراطوريات الحضارية السابقة في الصين وصولاً إلى «الحلم الصيني» بتجديد الوطن.

إذا أرادت أوروبا أن تنقل رؤيتها إلى أبرز الدول التي كانت مُستعمَرة سابقاً، مثل الهند وجنوب أفريقيا، فيجب أن تطّلع أولاً على ذلك الماضي الاستعماري. (تجدر الإشارة إلى أن عدداً كبيراً ومتزايداً من أعضاء الاتحاد الأوروبي في أوروبا الشرقية وقع ضحية الاستعمار بدل أن يستعمر دولاً أخرى). عندما يتجوّل القادة الأوروبيون حول العالم اليوم ويصوّرون الاتحاد الأوروبي وكأنه تجسيد مثالي لقيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والسلام، والكرامة البشرية، في حقبة ما بعد الاستعمار، توحي مواقفهم بأنهم تناسوا تاريخ أوروبا الاستعماري الطويل والحديث نسبياً. لكنّ بقية دول العالم لم تنسَ تلك الأحداث. إنه جزء من الأسباب التي تفسّر عدم اصطفاف الدول المُستعمَرة سابقاً مع الغرب في الملف الأوكراني. تكشف استطلاعات أجراها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في الصين، والهند، وتركيا، في أواخر العام 2022 وبداية العام 2023، بالشراكة مع المشروع البحثي «أوروبا في عالم متبدّل» تحت إشراف جامعة «أوكسفورد»، أن الناس هناك لا يفهمون أن ما يحصل في أوكرانيا هو نضال لنيل الاستقلال ضد حرب روسيا التي تحاول فرض الاستعمار مجدداً.

على صعيد آخر، أوضحت الحرب في أوكرانيا أن أوروبا لا تزال تتّكل على الولايات المتحدة لضمان أمنها. غالباً ما يتكلم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الألماني شولتس على أهمية «السيادة الأوروبية». لكن على مستوى الدعم العسكري لأوكرانيا، لم يُعبّر شولتس عن استعداده لإرسال دفعة واحدة من الأسلحة الأساسية (مركبات قتالية مدرّعة، دبابات)، إلا إذا أقدمت الولايات المتحدة على هذه الخطوة أوّلاً. في غضون ذلك، جدّدت الحرب طريقة تفكير أوروبا وتحرّكاتها في مجال الدفاع. التزم شولتس مثلاً برفع مستوى الإنفاق الدفاعي والجهوزية العسكرية في ألمانيا بوتيرة ثابتة. لن يكون تعامل ألمانيا الجدّي مع البُعد العسكري للسلطة مجرّد حدث عابر في تاريخ أوروبا المعاصرة.

تُخطّط بولندا من جهتها لبناء أكبر جيش داخل الاتحاد الأوروبي، ومن المتوقّع أن تستفيد أوكرانيا، في حال انتصارها، من أكبر وأقوى قوات مسلّحة في أوروبا، خارج روسيا. يشمل الاتحاد الأوروبي «منشأة السلام الأوروبية» التي أنفقت في أول سنة من الحرب الأوكرانية حوالى 3.8 مليارات دولار للمشاركة في تمويل إمدادات الأسلحة التي تقدّمها الدول الأعضاء إلى أوكرانيا. اليوم، تقترح رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أن تطلب «منشأة السلام الأوروبية» الذخائر والأسلحة من أجل أوكرانيا مباشرةً، بما يشبه حملة الاتحاد الأوروبي لتأمين اللقاحات خلال أزمة كورونا. لكن تبدو بداية المساعي العسكرية التي يطلقها الاتحاد الأوروبي متواضعة مقارنةً بالقوى الإمبريالية التقليدية. إذا تحقّقت هذه الأهداف كلها، يُفترض أن تزيد قوة الركيزة الأوروبية للتحالف العابر للأطلسي، ما يسمح بتحرير المزيد من الموارد العسكرية الأميركية والتفرّغ لمواجهة تهديدات الصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. لكن من المستبعد أن تنجح أوروبا في الدفاع عن نفسها وحدها في وجه أي تهديدات خارجية كبرى.

ترتكز هوية الولايات المتحدة التأسيسية على مبادئ القوى المعادية للإمبريالية، لكنها تملك «إمبراطورية على الطلب» في حلف الناتو. تبدو هذه الإمبراطورية الأميركية المعادية للإمبريالية أكثر طغياناً من الإمبراطورية الأوروبية، لكن بدرجة أقل ممّا كانت عليه في الماضي. أثبت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مراراً (وحتى شولتس على طريقته الخاصة) أن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تفرض ما تريده على أعضاء الناتو الآخرين بكل بساطة. لهذا السبب، يمكن اعتبار الحلف إمبراطورية بالإجماع.

يمكن استعمال مصطلح «الإمبراطورية» بطرقٍ مبالغ فيها أحياناً، إذ تكشف المقارنات بين الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو من جهة والإمبراطوريات الغابرة من جهة أخرى اختلافات لافتة بقدر نقاط التشابه. على المستوى السياسي، لا يمكن أن يطرح الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة نفسَيهما كإمبراطوريات، ويُفترض ألا يختارا هذا التوجه أصلاً. لكن تكشف التحليلات في المقابل أن معظم أوروبا انتقلت من الإمبراطوريات إلى أنظمة الدول خلال القرن العشرين، ومع ذلك لا يزال العالم في القرن الواحد والعشرين يشمل عدداً من الإمبراطوريات وهو يحتاج إلى أنواع جديدة منها للدفاع عن نفسه. كما يحصل في معظم مراحل تاريخ البشرية، ستتوقف قدرة أوروبا على إنشاء إمبراطوية ليبرالية قوية بما يكفي للدفاع عن مصالح الأوروبيين وقِيَمهم على الظروف الناشئة، والحظ، والإرادة الجماعية، والقيادة الفردية.

تكشف الحرب في أوكرانيا جانباً مفاجئاً إذاً، فهي حوّلت الاتحاد الأوروبي إلى إمبراطورية في حقبة ما بعد العصر الإمبريالي، عبر شراكة استراتيجية مع إمبراطورية أميركية تحمل المواصفات نفسها، لمنع عودة إمبراطورية روسية متراجعة ولاحتواء إمبراطورية صينية ناشئة.