هيروكازو كوريدا... دراما مؤثّرة عن اكتشاف الذات

14 : 00



ينتهي الفيلم الجديد The Truth (الحقيقة) للمخرج الياباني هيروكازو كوريدا، على غرار عدد كبير من أفلامه الأخرى، بمشهد يجمع مجموعة أشخاص يمشون معاً. البعض أقرباء والبعض الآخر غرباء. البعض يعرف وجهته، والبعض الآخر يتجول بكل بساطة ويستمتع بوقته ورفاقه. لكنّ المرأة التي تبدو حازمة وواثقة مما تريده هي نجمة سينمائية سبعينية اسمها "فابيان" (كاثرين دونوف)، وسرعان ما يحذو الآخرون حذوها. هي تتجه إلى شركة إنتاج لإعادة تصوير مشهد عاطفي تشعر بأنها لم تقدّمه بالشكل المناسب في اليوم السابق لأن أحداث حياتها الواقعية أثرت عليها. في الليلة السابقة، بعد مصارحة طويلة وصادقة مع ابنتها "لومير" (جولييت بينوش)، نهضت "فابيان" فجأةً وقالت بتعجب: "لماذا لم أمثّل بهذه الطريقة؟ لماذا لم أفكر بذلك مسبقاً"؟ في تلك اللحظة بالذات، تعبّر هذه الممثلة الفرنسية البارعة عن المغزى الكامن وراء هذا العمل الفني للمخرج الياباني العظيم: يتساءل الناس دوماً عن طريقة أدائهم في حياتهم اليومية وعن السبب الذي يمنعهم من تقديم أداء مثالي منذ المرة الأولى!



يكتب كوريدا ويُخرِج أعمالاً درامية مدهشة وعميقة في اليابان منذ التسعينات، وقد فاز بجوائز كثيرة في مهرجانات عالمية. هو لا يعطي طابعاً عاطفياً لفترة الطفولة، بل يعتبرها مرحلة حاسمة أو بمثابة مختبر لتكوين الهوية الفردية. يحترم كوريدا الأولاد، لا بسبب براءتهم أو لأنهم "مستقبل" العالم، بل لأنهم مثيرون للاهتمام. لهذا السبب، يمكن اعتباره أفضل من تعامل مع الممثلين الأولاد منذ المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو. هو يفهم أنهم ممثلون بالفطرة وأنهم يجيدون إقناع الآخرين بما يريدونه.

يكون نمو هؤلاء الأولاد بطيئاً طبعاً. لكن يعبّر كوريدا عن دهشته بهذه العملية ولا يجد مشكلة في المسارات البطيئة. تتّسم إيقاعات أفلامه بالاتزان والتأني أكثر مما اعتاد عليه المشاهدون. تكثر مشاهد المشي في أفلامه، فضلاً عن الكلام والتحضيرات والأكل وتراجع التوقعات المألوفة حول مسار الأحداث. نشاهد مثلاً أشخاصاً ينتظرون حدثاً معيناً ويبقون في حالة تأهب في حياتهم اليومية. يحرص كوريدا، الذي بدأ مسيرته بإخراج الأفلام الوثائقية للتلفزيون الياباني، على مشاهدة شخصياته وينتظر معها تطور الأحداث ويتجول برفقتها ويستمتع بتفاصيلها. بنظر كوريدا، أسوأ ما قد يصيب الإنسان هو الشعور بأن هويته محددة مسبقاً وأن بقية قصته فارغة ونهايته متوقعة وحتمية. لا يحبذ كوريدا الراوي حلّ العُقَد بأسلوب مألوف في قصصه أو بلوغ الأحداث ذروتها في نهاية الروايات. بل يهتم فعلياً بتشجيع القارئ على الغوص في أعماق ذاته والتوقف للتفكير في لحظات مفصلية قبل المضي قدماً. في فيلم After Life (العالم الثاني) في العام 1998 مثلاً، يتخيل كوريدا أن هذا المسار نفسه يستمر، ولو لفترة، بعد الموت. في هذا الفيلم، يُطلَب من الأموات الجدد، كشرطٍ لدخولهم إلى الجنّة، أن يختاروا ذكرى واحدة من حياتهم السابقة كي يحتفظوا بها إلى الأبد. لا يهتم المخرج بطبيعة الجنة بحد ذاتها، بل بما يفعله الأموات لتخيّل حياتهم الثانية بأنفسهم عبر اختيار قصة تُعبّر عن هويتهم الحقيقية.

وفي الفيلم الوثائقي Without Memory (بلا ذاكرة) في العام 1996، يروي كوريدا قصة رجل اسمه "هيروشي سيكين"، وهو مصاب باضطراب عصبي يُعرَف بمتلازمة "فيرنيك كورساكوف" ويعجز عن حفظ الذكريات عن تجاربه الحديثة. هو يستطيع تذكّر حياته قبل إصابته بهذا الاضطراب، لكنه لا يتذكر شيئاً مما فعله قبل يوم أو حتى ساعة. تكون جميع الأحداث جديدة بالنسبة إليه وتصبح حياته عبارة عن ابتكار متجدد طوال الوقت. تعكس هذه الشخصية جوانب متطرفة من المزايا التي تجذب كوريدا إلى الأولاد وإلى الممثلين في فيلمه الأخير، أي الأشخاص الذين يحرصون على إعادة تخيّل تجاربهم ومراجعة ذواتهم إلى ما لانهاية. تقضي الحيلة الأساسية في شخصياته الخيالية بفعل ما يعجز بطل قصة Without Memory عن فعله على أرض الواقع، أي استجماع القوة للمضي قدماً وسط الفوضى.




لا تخبرنا أفلامه بطريقة تطبيق تلك الحيلة، بل تشدد على ضرورة تنفيذها بكل بساطة. ثمة مشهد لطيف مع اقتراب نهاية فيلم The Truth، حيث تخبر "شارلوت" (كليمنتين غرونييه)، حفيدة "فابيان" الصغيرة، جدّتها بأنها تريد أن تصبح ممثلة أيضاً حين تكبر. تتأثر "فابيان" بكل وضوح لأنها تشعر بامتداد هويتها إلى جيل حفيدتها، مع أنها لم تنقل هذه الموهبة إلى ابنتها (كانت "فاشلة" في حصص المسرح في المدرسة وفضّلت أن تصبح كاتبة). حتى أن الجدّة ستُسَرّ حين تعرف أن "شارلوت" أصبحت ممثلة أصلاً، إذ يكتشف المشاهدون لاحقاً أن الطفلة كانت تمثّل مشهداً من كتابة والدتها وقد قدّمته بأداء مثالي.

سواء كان كلام "شارلوت" حقيقياً أو لم يكن كذلك، لا شك في أنه أسعد "فابيان" كثيراً. فقد جدّد حيويتها فيما كانت تتجه مع فريقها لإعادة تصوير مشهدها. من الواضح أن المخرج كوريدا لا يبني قصصه كي تصل إلى نهاية واضحة، بل يريد أن تشمل الأحداث لحظات مؤثرة ومتناقضة على غرار هذه اللحظة. لكنه لا يترك المشاهدين من دون إرضائهم. لكل من يحاول فهم الأسباب التي أوصلت العالم إلى الوضع الراهن (يتساءل معظم سكان الأرض عن السبب اليوم!)، يقدم كوريدا نصيحة قيّمة: تابعوا التخيّل، تابعوا اللعب، والأهم من ذلك، تابعوا المضي قدماً!


MISS 3