عيسى مخلوف

منحوتات جنسيّة لطرد الشياطين!

27 أيار 2023

02 : 01

منحوتة على جدران كنيسة رومانيّة

هل يُعقَل أن تتزيّن واجهات الكنائس التي اعتمدت الهندسة الرومانيّة بمنحوتات وتماثيل جنسيّة تمثّل رجالاً ونساءً عراة؟ لقد طالعتنا هذه المنحوتات على واجهات الكثير من تلك الكنائس، وصدرت في العقود الأخيرة كتب عدّة تتناول هذا الموضوع وظروفه ومعانيه.

ولئن كان الفنّ الذي يولي أهمّيّة خاصّة للعري وتمجيد الأعضاء الجنسيّة حاضراً لدى المصريين القدامى والإغريق والرومان، وفي ثقافات أخرى كالثقافة الهندية والثقافة اليابانية، فإنّ ظهوره في الكنائس يطرح دائماً علامة استفهام، خصوصاً أنّها أماكن مخصّصة للعبادة.

مؤرّخو الفنّ جالوا في أنحاء أوروبا، من فرنسا إلى سويسرا، مروراً بإسبانيا وإيطاليا، فرصدوا الفنّ الجنسي في كنائس ترقى إلى فترة زمنيّة تمتدّ من أواخر القرن العاشر حتى القرن الثاني عشر، وكانت هندستها سابقة للعمارة القوطيّة. المؤرّخون والبحّاثة نشروا، إلى جانب أبحاثهم، صوراً كثيرة تكشف عن هذا الجانب لمن لم تتسنَّ لهم زيارة الكنائس الرومانيّة في تلك الدول. إنّها صور غريبة لمنحوتات تصوّر مشاهد الشهوة الحميمة وأفعال جنسية تتناول موضوعات مختلفة بما في ذلك اللواط. المدهش، هنا، هو في وجودها داخل فضاءات يُنظَر إليها بصفتها «أماكن مقدّسة»، في حين تتّفق النصوص الدينيّة لهذه الأماكن على إدانة الجنس بشدّة. المهمّ في هذا العمل التوثيقي أنّه يساهم في التعريف بأحد أوجه الفنّ الروماني في تلك الحقبة من الزمن.

بالنسبة إلى المتخصّصين في العمارة الدينيّة في القرون الوسطى، تُعَبِّر المشاهد الشهوانيّة المنحوتة على جدران الكنائس عن إدانة أحد أشكال الشرّ وممارسة الخطايا بحسب التصوّرات الكنسيّة. الهدف من تلك المنحوتات أيضاً، في ذلك الزمن، مساعدة المسيحيين على محاربة الشياطين المتواجدين في دواخلهم.

في موازاة الكنائس الرومانيّة، تطالعنا منحوتات إيروسية مُؤسلَبة في مناطق أخرى من العالم، كما الحال مع النحت الهندوسي الإيروتيكي ومعناه ودوره ضمن الفلسفة التي نشأ فيها، وكذلك في معبد آلهة الخصب في بانكوك وفي معابد آسيويّة أخرى (الهند وتايلاند...) حيث يتجسّد المعنى الأزلي لـِ «الجنس المؤلَّه». يريد النحت الجنسي في المناطق المذكورة أن يذكّرنا بأنّ حياتنا كأفراد عابرة وسريعة الزوال، وأنّ لذّة الحبّ، بحسب بعض المعتقدات الآسيويّة، تقرّب الإنسان من الإله ومن النعيم الإلهي.

موضوع الجنس والقداسة درسه عدد من الكتّاب والمفكّرين الغربيين المعروفين، ومنهم، على سبيل المثال، جورج باتاي، في كتابه «الإيروسيّة». يتحدّث باتاي عن الكائنات التي تتكاثر. الكائنات المستنسخة، والمتميّزة عن بعضها البعض، تفصل بينها هاوية، بل انقطاع مذهل. وإذا كان الأفراد منذورين للعزلة والموت، فهم يحتفظون بالحنين إلى الاستمراريّة المفقودة، ما يفسّر في رأيه النشاط الجنسي المتكاثر – رغم الموت المتربّص في كلّ زاوية – والذي تُعَدّ الإثارة الجنسيّة أحد أشكاله البشريّة. في هذا الكتاب، يتحدّث باتاي أيضاً عن أصل نشوء المحظورات والدوافع إلى الصيد والحرب والموت العنيف.

في كتاب باتاي، يظهر الجنس في الثقافة المسيحيّة أيضاً من خلال شخصيّة تيريزا الآبليّة التي كانت تطلب من يوحنّا الصليب، المعروف برباعيّاته الروحيّة، أن يناولها القربان الأكبر من دون أن يكسره ليصبح أربعة أقسام، علماً أنه يستحيل تناوله من دون كسره. وهي التي وصفت في «سيرتها الذاتيّة» رؤيتها لملاك شابّ وجميل يقف بجانبها: «رأيتُ في يده رمحاً ذهبيّاً طويلاً قد يظنّ المرء أنّ حريقاً صغيراً يندلع في طرفه، وبدا لي أنه يدخل في قلبي من حين إلى آخر، ويخترقني وصولاً إلى أعمق نقطة في أحشائي». لحظة الوصف هذه جسّدها الفنّان والنحّات والمهندس الإيطالي برنيني في منحوتته «النشوة» التي تباينت الآراء في وصفها بين من يعتبرها «نشوة جنسيّة خالصة» ومن يرى فيها صورة لـ»نشوة صوفيّة». هذه المنحوتة تعتلي اليوم مذبح كنيسة «سانتا ماريا ديلا فيتوريا» في روما.

ثمّة من يتحدّث في الوقت الراهن عن «الجنس المقدّس» الذي يزاوج بين الجسد والروح، ليس انطلاقاً من مبدأ ديني، وإنما لأخذ الجنس إلى المطارح الأبعد. ويلاحظ مُنظّرو هذا الاتجاه أنّ الجنس يجعل من الممكن الوصول إلى النشوة الروحيّة بما يتجاوز المتعة الجسديّة التي توفّرها، بعد أن تتسامى فيها جميع الحواسّ، ومن دون أن يكون مريدوها من أتباع التانترا الهندوسيّة أو التعاليم الطاويّة وسوى ذلك من التيّارات والمفاهيم التي تنحو هذا المنحى.



نشوة تيريزا الآبليّة، نحتها الفنان الإيطالي برنيني


MISS 3