الغرب في قبضة الرعب... وبوتين مراقباً!

05 : 15

بدأت أزمة فيروس كورونا تكشف نقاط ضعف الغرب، ويحرص خصوم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على مراقبة الوضع عن كثب لاستغلال تلك النقاط في الصراعات المستقبلية.

تواجه أوروبا حالة من الفوضى والتخبط. يخضع ملايين الناس هناك للحجر المنزلي، ويشهد القطاع الخاص ضعفاً غير مسبوق، وتجد الحكومات صعوبة في مواجهة خصم غير متوقع بالكامل، فيما تسعى إلى الحفاظ على درجة من النظام. لا تقتصر المشكلة على وباء "كوفيد-19". يكفي أن نتخيل تداعيات نشوء أزمة أخرى في هذه الفترة بسبب أحد خصوم الغرب.

بدءاً من 23 آذار، قتل فيروس كورونا الجديد آلاف الأشخاص وأصاب الملايين. كذلك، قضى الفيروس على أرباح البورصة الأميركية التي تحققت خلال عهد دونالد ترامب وأدى إلى انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني البريطاني إلى مستوى غير مسبوق منذ بداية الثمانينات. وأوقفت شركات السيارات عمليات التصنيع في أوروبا، وعلّقت شركتا "جنرال موتورز" و"فورد" جميع عمليات الإنتاج في الولايات المتحدة. كذلك، يتوقع "دويتشه بنك" أسوأ تراجع اقتصادي عالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأصدرت منظمة العمل الدولية تحذيرات عن خسارة 25 مليون وظيفة حول العالم.

إنه جزء من الأضرار الملموسة التي سبّبها هذا الفيروس المريع. سبق وأدت موجة الرعب في بلدان مثل المملكة المتحدة إلى تهافت الناس على شراء المنتجات، ما أدى إلى تفريغ الرفوف في مختلف المتاجر. وحتى حملات سلاسل المتاجر الكبرى التي تدعو المستهلكين بشكلٍ متكرر إلى الاكتفاء بشراء الكميات التي يحتاجون إليها لم تقنع الناس بالتفكير بحاجات الآخرين. لهذا السبب، اضطرت المتاجر الكبرى الآن لتخفيض كمية المنتجات المعروضة بنفسها. أعلنت سلسلة متاجر "تيسكو" في تصريح لها مثلاً: "إذا كنتم تستطيعون مساعدتنا عبر الحد من طلب المنتجات الأساسية وتسمحون لنا بالتركيز على حاجات عملائنا الضرورية، نثق بأننا قادرون على متابعة إطعام البلد كله".

حتى أن فيروس كورونا أضعف النشاطات العسكرية الغربية. في 18 آذار، ألغت النروج وتسعة حلفاء لها (بما في ذلك بريطانيا والولايات المتحدة) عملية "الاستجابة الباردة 2020"، وهي عبارة عن تدريب مشترك للدفاع عن شمال ووسط النروج. وتوقف أيضاً تدريب "أوروبا المدافِعة عشرون" الذي يشمل حوالى 40 ألف جندي أميركي يتدربون على تنفيذ انتشار سريع في أوروبا وإحراز تقدّم فاعل في أنحاء القارة.

كان تدريب "أوروبا المدافِعة عشـــرون" مصمَّماً ليكون نشاطاً معقداً يشارك فيه 20 ألف جندي أميركي، فضلاً عن 20 ألف نوع من المعدات. وكان يُفترض أن يلتقي الجنود ومعداتهم مع القوات الأميركية في القواعد الأوروبية ومع القوات الأوروبية أيضاً، ثم يتقدموا نحو الجبهة الشرقية لحلف الناتو. وبما أن أي تدريب مماثل لم يحصل منذ ربع قرن، تُعتبر عملية "أوروبا المدافِعة عشرون" محورية، فهي تثبت أن تضامناً قوياً يجمع بين حلفاء الناتو وشركائهم. لكن يكشف إلغاء هذا التدريب الآن لخصوم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى أي حد يصبح الناتو ضعيفاً في بعض الظروف.

سبق وأصاب الفيروس الجديد الجنرال جاروسلاف ميكا من القوات المسلحة البولندية وأجبر زميله الجنرال كريستوفر كافولي، قائد الجيش الأميركي في أوروبا، على عزل نفسه نتيجةً لذلك.


بدأت وسائل الإعلام الترويجية التي تدعم روسيا والصين تنشر منذ الآن وابلاً من المعلومات المغلوطة عن فيروس كورونا لزيادة مظاهر الفوضى في الغرب. ذكرت وكالة "سبوتنيك لاتفيا" في 15 آذار مثلاً أن "فيروس كورونا ربما نشأ في الأصل في لاتفيا"، وافترض موقع روسي آخر، Geopolitica.ru، أن هذا الفيروس ظهر على الأرجح في الولايات المتحدة لاستعماله كسلاح بيولوجي. يشارك الديبلوماسيون الصينيون بدورهم في حملة تضليل منسّقة لنشر الفكرة القائلة إن الجيش الأميركي هو الذي صنع فيروس كورونا.

يبقى هذا الفيروس في مطلق الأحوال التحدي البارز الوحيد الذي تواجهه البلدان الغربية اليوم. لكن ثمة جانب إيجابي رغم تفاقم الوضع. يسهل أن نفترض أن بوتين وزملاءه يراقبون الفوضى السائدة في أوروبا والولايات المتحدة بنوعٍ من الشماتة، لكنهم يستفيدون من هذا الوضع أيضاً لاستخلاص الدروس.

يشكّل فيروس كورونا فرصة مثالية لخصوم الغرب كي يراقبوا كيفية التأقلم (أو عدم التأقلم) مع الأزمات الكبرى.

في النهاية، يستطيع أي خصم أن يستغل الأزمات عبر زيادة حدّتها. قد تعمد الولايات المتحدة مثلاً إلى زيادة مأساة فيروس كورونا في إيران عبر فرض عقوبات إضافية، كما حصل في الأسبوع الماضي، أو عبر إطلاق ضربات إلكترونية ضد محطات الطاقة. وقد تستغل روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية أو الجماعات التابعة لها هذه الظروف لتنفيذ اعتداءات إلكترونية ضخمة ضد أهداف غربية.

وفق "تقرير الجهوزية الإلكترونية" الصادر عن شركة التأمين العالمية "هيسكوكس" للعام 2019، أبلغ أكثر من 61% من الشركات في الاقتصادات الغربية الكبرى، بما في ذلك الولايات المتحدة، عن حصول اعتداء إلكتروني في آخر 12 شهراً، بزيادة نسبتها 45% عن السنة السابقة.

تبقى الضربات الكبرى نادرة، على غرار فيروس "نوت بيتيا" في العام 2018 (استهدف مجموعة من الشركات متعددة الجنسيات، منها شركة الأدوية العملاقة "ميرك"، وشركة الشحن العالمية الكبرى "مايرسك")، لكن يرتفع احتمال أن تتكرر هذه العمليات مجدداً.

سبق ونجح المعتدون الروس في ولوج غرفة التحكم الخاصة ببعض شركات الخدمات الأميركية. لم تُحدد وزارة الأمن الداخلي الأميركية الشركات المستهدفة، لكن صرّح جوناثان هومر، رئيس قسم تحليل نظام التحكم الصناعي في الوزارة، لوسائل الإعلام بأن المقرصنين "ذهبوا إلى حد تعطيل المعدات وكبح تدفق الطاقة". وفي نهاية السنة الماضية، بلغت جماعة من المقرصنين المرتبطين بالحكومة الإيرانية مستوىً جديداً من التقدم: اكتشف محللون غربيون أن المقرصنين الإيرانيين يستطيعون التلاعب بأنظمة التحكم في المنشآت الأساسية، مثل المرافق الكهربائية والمصانع ومحطات تكرير النفط.

لم يشوّش المقرصنون الإيرانيون والروس على أنظمة التحكم، بل كانوا ينفذون بكل وضوح عمليات استطلاعية، وهم ليسوا على عجلة من أمرهم. في مجال الحروب، يتفوق المهاجم دوماً لأنه يستطيع أن يختار توقيت العملية وطريقة تنفيذها، وهذا ما يحصل في حروب المناطق الرمادية، إذ تكون لائحة خيارات المهاجمين غير محدودة.

ما الذي يمنع إذاً استعمال مرض خطير آخر حين يتخبط الغرب مجدداً؟ منذ سنتين تقريباً، شارك خبير مرموق في مجال الصحة العامة (يفضّل عدم الإفصاح عن اسمه) في نقاش حول الاعتداءات الروسية في المنطقة الرمادية، فذكر أن بوتين لا يحتاج إلى الاعتداءات الإلكترونية أو "الجنود الخضر الصغار" لإضعاف الغرب. كل ما يحتاج إليه برأيه هو إرسال طائرة مُحمّلة بسجناء مصابين بمرض السل إلى البلد الذي يختاره.

تراجع معدل السل في السجون الروسية من 4347 من كل 100 ألف سجين في العام 1999 إلى 1299 في العام 2011، لكن لا يزال السجناء الروس من أكثر الجماعات المصابة بالسل حول العالم. (في العام 2018، بلغ متوسط إصابات السل في الولايات المتحدة 2.8 من كل 100 ألف شخص مقابل 54 في روسيا). يطرح السل أصلاً مخاوف صحية في أوروبا والولايات المتحدة، وأصبح انتشار سلالات مُقاوِمة للقاحات مقلقاً بدرجة كبيرة. إذا أرسل بوتين 300 سجين مصاب بالسل إلى بلدٍ من اختياره، قد ينشرون المرض على نطاق واسع. ثمة لقاح للسل طبعاً، لكن لا يتلقاه كل طفل ولا يكون فاعلاً مع جميع الراشدين.

في ظل تداعيات فيروس كورونا على الاقتصادات وأنظمة الرعاية الصحية الغربية اليوم، ستستفيد روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران أو أي خصوم آخرين من فتح جبهة ثانية.

ربما بدأت مجموعة اختبارات لفتح جبهة ثانية منذ الآن. في 15 آذار، تعرّضت وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية لاعتداء إلكتروني أدى إلى زيادة الأعباء على خوادمها. وفي الفترة نفسها، تبيّن أن منتحلين كانوا ينسخون خارطة فيروسات كورونا العالمية المستعملة على نطاق واسع في جامعة "جونز هوبكينز" ويُحَمّلون نُسَخهم بفيروسات مسيئة، فيستعملون بذلك فيروساً بيولوجياً يرعب الجميع لنشر فيروس افتراضي على أجهزة الكمبيوتر أيضاً. وفي 17 آذار، اعترفت الحكومة البريطانية من دون سابق إنذار بوجود فريق سري لتقييم التهديدات المشتركة على الدولة، وهو عبارة عن هيئة حكومية لمراقبة الجواسيس الأجانب.

لكن يستطيع خصوم الغرب أن يختاروا التوقيت الذي يناسبهم في مطلق الأحوال، بغض النظر عن طبيعة خياراتهم (فيروسات بيولوجية أو على الكمبيوتر، أشكال جديدة من حملات التضليل، عمليات تجسس فائقة، أو أي شكل آخر وغير مسبوق من الاعتداءات). هم يستطيعون الانتظار إلى أن يوثّقوا جميع إخفاقات الغرب رداً على فيروس كورونا. ثم يمكنهم استعمال تلك الدروس عند وقوع أزمة جديدة وأكثر خطورة. لا شك في أن إيران لا تزال تنتظر الوقت المناسب للانتقام من مقتل قائدها العسكري قاسم سليماني في كانون الثاني الماضي.

ستكون أي حرب على جبهتَين احتمالاً مرعباً، لا سيما إذا شملت خليطاً من الكوارث الطبيعية والحِيَل المفبركة من جانب الخصوم بدل الجماعات العسكرية. لا بد من الاستعداد مسبقاً للرد على ظروف مماثلة. لقد أوضحت أزمة فيروس كورونا أن الجهوزية لا تخصّ الحكومة وحدها، بل جميع الناس!


MISS 3