إليزابيت برو

فكّ الإرتباط بين الصين والولايات المتحدة بدأ تحت البحر

5 حزيران 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

أثناء العمل على تركيب كابلات للألياف الضوئية تحت البحر بالقرب من قرية الباسك الإسبانية سوبيلانا | 13 حزيران 2017

تربط الكابلات البحرية التي تنقل حركة الإنترنت بين مختلف أجزاء العالم عبر المرور بمياه محفوفة بالمخاطر. يعرف العالم اليوم أن هذه العملية تجعله أكثر عرضة للتهديدات الجيوسياسية. لكن تُعتبر هذه الكابلات جزءاً من بقايا زمن سلمي، حين لم يكن المشغّلون يضطرون للقلق بشأن العوامل الجيوسياسية. اليوم، لم يعد بناء كابلات جديدة للربط بين الولايات المتحدة والصين مثلاً مشروعاً آمناً. بدأنا ندخل حقبة «الستار الحديدي» تحت البحر.



في الوقت الراهن، يشمل بحر البلطيق، والبحر الأبيض المتوسط، وبحر الشمال، ومضيق هرمز، وخليج عمان، وبحر الصين الجنوبي، ومعظم المساحات المائية الأخرى في العالم، كابلات بحرية تربط البلدان ببعضها وبشبكة الإنترنت. اليوم، يعني عدم الاتصال بكابل بحري الانعزال عن العالم. توصّل سكان جزر ماتسو في تايوان (وجهة سياحية شهيرة) إلى هذا الاستنتاج حين قطعت السفن الصينية كابلَين متّصلَين بتلك الجزر في بداية شهر شباط من هذه السنة.

يقول وين لي، أحد سكان ماتسو وسياسي محلي من «الحزب التقدمي الديمقراطي» الحاكم في تايوان: «تعرّض عدد كبير من الشركات المحلية لضربة موجعة. أظن أن الناس لم يدركوا بعد إلى أي حد يتّكل الاقتصاد المعاصر والخدمات اللوجستية الأساسية على الإنترنت. يُبنى كل شيء اليوم حول هذه الشبكة. رغم نظام الإرسال الاحتياطي عبر الموجات الصغرية، كانت الشبكات بطيئة جداً. تطلّب إرسال رسالة نصية حوالى 20 دقيقة. كذلك، لم يعد الدخول إلى معظم المواقع الإلكترونية ممكناً، فعجز أصحاب الفنادق عن مراجعة سجلات الحجوزات الإلكترونية، وانعكس هذا الوضع سلباً على قطاع السياحة. ومن دون الوصول إلى منصات التجارة الإلكترونية، أُعيقت الخدمات اللوجستية الأساسية في شركات صغيرة مثل المطاعم أو متاجر التذكارات. كذلك، تعطّلت منصّات بيع تذاكر الطائرات والسفن، فتأثّرت بذلك حركة المرور المحلية».

لكن كان سكان جزر ماتسو محظوظين لأن السلطات التايوانية أرسلت سفينة للبدء بتصليح الكابلات بحلول 31 آذار الماضي. في الحالات العادية، تطول مدة الانتظار لأن الطلب على 60 سفينة للكابلات حول العالم يفوق حجم العرض بأشواط، وينشغل عدد من السفن أصلاً بتركيب كابلات جديدة. يستطيع أصحاب الكابلات أن يتمنوا زيادة أعداد السفن الآن وقد اكتشف السياسيون، والقطاع الصناعي، والرأي العام العالمي، أن الكابلات تتأثر بالتحركات العدائية. هم يستطيعون مثلاً أن يشتروا بعض سفن التصليح، ما يسمح لهم بإطلاق دوريات في المياه فوق كابلاتهم. (يحتفظ تحالف من عشرات أصحاب الكابلات أصلاً بأسطول لتصليح الأعطال، لكنه يقتصر على ثلاث سفن).

لم تكن كابلات الإنترنت البحرية مُصمّمة في الأصل للخضوع لدوريات وتصليحات دائمة، بل كانت جزءاً من مشروع سلام. تزامن ظهور الإنترنت مع انتهاء الحرب الباردة، ويشمل أصحاب الكابلات خليطاً إيجابياً من الشركات الدولية.

تملك أكثر من 12 شركة نظام الكابلات SeaMeWe-5 الذي يمرّ ببلدان مثل فرنسا، وأندونيسيا، وإيطاليا، والمملكة العربية السعودية، وتركيا، بما في ذلك شركتا China Mobile و Telecom Italia Sparkle. أما كابل Taiwan Strait Express-1 الذي يربط بين تايوان والصين، فتملكه شركات China Mobile، وChina Unicom، و Chunghwa TelecomوFar EasTone في تايوان، وTaiwan Mobile، و»شركة بوابة تايوان الدولية».

فيما يتابع العالم تطوّره الرقمي، تبرز الحاجة إلى تركيب كابلات أخرى كثيرة: خلال السنوات القليلة المقبلة، من المتوقّع أن يرتفع عددها بنسبة 30% سنوياً.

لكن تباطَأ تطوير خطوط الأنابيب الجديدة. في آخر سنتين تقريباً، تردّدت السلطات الصينية في الموافقة على تركيب كابلات بحرية تمرّ ببحر الصين الجنوبي. في غضون ذلك، زاد قلق الحكومة الأميركية من قدرة الصين على التجسس عبر الكابلات البحرية لدرجة ألا توافق على تركيب أربعة كابلات مُخطط لها وتملكها شركات «غوغل» و»ميتا» و»أمازون» وكانت لتربط بين الولايات المتحدة وهونغ كونغ.

نتيجةً لذلك، غيّر أصحاب الكابلَين المُخطط لهما وجهة الكابلات النهائية ونقلوها إلى تايوان والفلبين. يقول آلن مولدين، مدير بحثي في شركة الاستشارة والأبحاث TeleGeography: «برزت مشكلة كبيرة حين رفضت الحكومة الأميركية تلك الكابلات التي تم التخطيط لها وبناؤها وتركيبها جزئياً. واجهت الشركات المعنية كارثة مالية كبرى».

قد تكون موافقة الصين على تركيب الكابلات أو رفضها جزءاً من ردّها على التحركات الأميركية: في حالة واحدة على الأقل، برّرت بكين تأخير المشاريع بإمكانية أن يركّب أحد أعضاء التحالف (NEC Corporation من اليابان) معدّات تجسس. قد لا تؤثر المشاريع التي أصبحت قيد التنفيذ على الكابلات السابقة، لكنّ الكابلات المباشرة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين قد تصبح جزءاً من الماضي.

قد لا تعرف الشركات التي لا تحصل على موافقة بكين سريعاً السبب الحقيقي لهذا الموقف. لكن بما أن التأخير يعني تكبّد خسائر مالية كبرى، ستفكّر الشركات ملياً قبل تركيب الكابلات في مياه قد تشهد أي نوع من الاضطرابات الجيوسياسية. (رصدت بكين «كائنات ضارة» في الأناناس التايواني ومنعت السمك النروجي عند احتدام الخلافات مع هذين البلدين).

ونظراً إلى المواجهة الضمنية التي تخوضها الولايات المتحدة والصين في مجال الكابلات، يزيد احتمال أن تستعمل البلدان الأخرى قرارات الموافقة على تركيب الكابلات لتسجيل نقاط جيوسياسية. تملك الشركة الهندية Global Cloud Xchange مثلاً كابل «فالكون» الضخم الذي يربط بين الهند، وإيران، والعراق، والكويت، والمالديف، وسريلانكا، وسلطة عمان، والسعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، واليمن. إذا توترت الصداقة التي نشأت حديثاً بين إيران والسعودية بوساطة من الصين، قد يؤخر أحد الشركاء إعطاء الموافقة على أي كابل جديد. إنه عامل مهم لأن الكابلات البحرية تستعمل مسارات مدروسة: من الأسهل إذاً تركيب كابل جديد بالقرب من كابلات قديمة بدل إنشاء مسارات جديدة في قاع البحر.

يشير الوضع الراهن إلى تغيير مسار الكابلات الجديدة التي أصبحت قيد التنفيذ، ما يعني أن تُستعمَل للربط بين الدول الصديقة حصراً. في ما يخص الكابلات الجديدة التي تمرّ في العادة بالمياه الصينية أو مساحات مائية أخرى تحمل مخاطر جيوسياسية بين نقاط الهبوط، قد يختار أصحاب المشاريع طرقاً غير مباشرة أو يتخلون عن تلك المسارات نهائياً. من المستبعد أيضاً أن يطلب هؤلاء أي خطط لتركيب كابلات جديدة تربط بين روسيا وجيرانها في بحر البلطيق. قد تتراجع المخاطر المطروحة عند إعادة توجيه الكابلات نحو مياه لا تطالب بها بلدان عدائية، لكن قد تصرّ الدول التي يرتفع الطلب على مياهها الإقليمية ومناطقها الاقتصادية الخالصة على شروط ترتبط مثلاً بعدد معيّن من نقاط الهبوط.

يذكر موقع «نيكي آسيا» أن عدداً متزايداً من الكابلات التي يتم التخطيط لها راهناً سيُعاد توجيهه من بحر الصين الجنوبي كي يمرّ بمياه بلدان مثل الفلبين. تبني شركتا «ميتا» و»غوغل» مثلاً كابلاً يربط بين كاليفورنيا وسنغافورة عن طريق غوام وإندونيسيا. يوضح مولدين: «تبدو مشاركة أي شركة أميركية في كابلات جديدة مستقبلاً في بحر الصين الجنوبي مستبعدة في الوقت الراهن». ستمرّ حركة الإنترنت بلا مشكلة عبر تلك المسارات غير المباشرة، ولو أنها ستكون أكثر بطئاً. يضيف مولدين: «لدينا كابلات مباشرة بين الصين والولايات المتحدة أصلاً. لكننا لن نُركّب كابلات جديدة في أي وقت قريب». تسلتزم الظروف الجيوسياسية المستجدة تعديل مشروع تجاري مكلف يربط بين البلدين.

تُعتبر إعادة توجيه الكابلات البحرية تجسيداً حرفياً لمعنى فك الارتباط. من المنتظر أن تصبح هذه الكابلات نسخة جديدة من «الستار الحديدي». ستتّصل البلدان مباشرةً ببلدان صديقة عبر الكابلات التي تمرّ بمياه صديقة. يعني ذلك أن البلدان الواقعة في أجزاء شائكة من العالم ويمكن الوصول إليها عبر المياه أو المناطق الاقتصادية الخالصة في بلد غير صديق قد لا تستفيد من الاستثمارات الجديدة في مجال الكابلات. فيما تتّجه الاقتصادات نحو الرقمنة مع مرور الوقت، سيكون البقاء خارج خطوط الأنابيب الجديدة والمتقدمة أمراً مؤسفاً للبلدان التي تقع في جوار دول عدائية.

لكن بما أن الكابلات البحرية لا تشكّل حدوداً ملموسة، تقدّم استراتيجية الكابلات الجديدة فرصة للحكومات الغربية لدعم البلدان التي تريد أن تصبح جزءاً من المنتدى الغربي. تستطيع الدول التي تكسب مكانة ثانوية حين تمرّ كابلات جديدة ومُحسّنة بها أن تتلقّى عرضاً بالانضمام إلى تحالف الكابلات الغربي بين القطاعَين العام والخاص بناءً على مبدأ تقاسم المخاطر والمسؤوليات لضمان سلامة الكابلات.

وجدت الدول الواقعة وراء «الستار الحديدي» الأصلي نفسها في موقعٍ مؤسف لأن ستارها استُعمِل لترسيم حدود جغرافية، فأصبحت عالقة وراءه. لكن يبدو ستار الكابلات اليوم أكثر قابلية للاختراق لحسن الحظ.


MISS 3