لماذا انقلبت تركيا على الولايات المتحدة وتحالفت مع روسيا؟

09 : 33

AP17264696820970-e1511772492852

تشهد العلاقة المتوترة بين تركيا والولايات المتحدة تراجعاً واضحاً منذ سنوات. يختلف البلدان حول لائحة طويلة من المسائل، بدءاً من المنحى الاستبدادي الذي اتخذه حكم رجب طيب إردوغان، وصولاً إلى رفض الولايات المتحدة تسليم رجل الدين المقيم في بنسلفانيا والمتّهم بمحاولة إسقاط الحكومة التركية. أمام هذا الوضع، تزداد الخلافات بين الحليفَين المزعومَين. مع ذلك، تسود قناعة عامة بين صانعي السياسة الأميركيين وخبراء الأمن القومي، مفادها أن المسؤولين عن الأمن القومي التركي يعتبرون الولايات المتحدة حتى الآن حليفة ضرورية رغم العدائية الظاهرية. لا تستطيع أنقرة أن تضمن مصالحها الوطنية من دون التعاون مع الحكومة الأميركية، أو هكذا يظن الكثيرون...

لكن منذ الغزو الأميركي للعراق وتمهيده لنشوء حكومة أقوى في إقليم كردستان، اعتبرت تركيا الولايات المتحدة قوة كفيلة بزعزعة استقرار الشرق الأوسط. كذلك، أدى الدعم الأميركي للميليشيات الكردية في سوريا إلى ترسيخ تلك النظرة في أنقرة، ما دفع تركيا إلى أحضان روسيا، ثم بدأ التشكيك بمدى التزام البلد بحلف شمال الأطلسي. وللتأكد من تراجع ثقة تركيا بواشنطن راهناً، يكفي أن نطّلع على خطتها الرامية إلى اكتساب النظام الدفاعي الروسي المبني على استعمال صواريخ "إس-400" المتقدمة.

في الشهر الماضي، أطلق البنتاغون تحذيراً مفاده أن شراء النظام الروسي سيُكلّف تركيا مكانتها في برنامج الطائرات المقاتلة "إف-35" الذي تقوده الولايات المتحدة. فرفض إردوغان الرضوخ للمطالب الأميركية وأوضح التزامه بالاتفاق مع روسيا.

نشأ التحالف التركي الأميركي في الأصل بناءً على مخاوف مشتركة من التوسّع السوفياتي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. كان قرب تركيا من الاتحاد السوفياتي كفيلاً بجعلها شريكة مثالية للجهود الأميركية الرامية إلى مراقبة الخصم في الحرب الباردة وتأجيج الانقسامات السوفياتية في بلغاريا وأرمينيا في حال اندلاع الحرب. في المقابل، تلقّت تركيا ضمانات أمنية من الولايات المتحدة التي نشرت أسلحة نووية في أنحاء البلد لدرء أي هجوم سوفياتي. لكن خلال العقود الثلاثة التي تلت نهاية الحرب الباردة، وجدت الولايات المتحدة وتركيا صعوبة في تحديد مصالحهما المشتركة. تسارع هذا الخلاف التدريجي بعدما غزا الأميركيون العراق في العام 2003 وأطاحوا صدام حسين، فنشأ فراغ في السلطة وملأته حكومة كردستان العراق جزئياً. عمد المسؤولون الأكراد، بدعمٍ من الولايات المتحدة، إلى ترسيخ استقلال مؤسساتهم الحاكمة، ما أثار حفيظة النخب التركية المسؤولة عن الأمن القومي كونها تعتبر القومية الكردية خطراً على وجودها. حاربت أنقرة الانفصاليين الأكراد طوال عقود، وتخشى انقسام تركيا إلى فئات إثنية في حال زادت قوة الأقلية الكردية فيها.

تفاقم الوضع مع اندلاع الحرب في سوريا. سعت أنقرة إلى تهميش الأكراد السوريين الذين سيطروا، في بداية العام 2012، على المناطق الحدودية حيث يشكّلون أغلبية السكان. حاولت تركيا في البداية ضمّ أبرز جماعة من الثوار الأكراد، أي "حزب الاتحاد الديمقراطي"، وإلحاقها بحركة تمرّد واسعة ومدعومة منها لمحاربة الرئيس بشار الأسد. كان "حزب الاتحاد الديموقراطي" والميليشيا التابعة له فرعاً سورياً من "حزب العمال الكردستاني"، جماعة انفصالية متمردة في جنوب شرق تركيا تعتبرها الولايات المتحدة وتركيا معاً منظمة إرهابية. من خلال ضم المقاتلين السوريين الأكراد إلى الجهود المناهضة للأسد والمدعومة من تركيا، أرادت أنقرة منع نشوء دولة أولية يحكمها الأكراد وتخضع لنفوذ "حزب العمال الكردستاني"، والحفاظ على قوة الحكومة المركزية في سوريا.

خلال فترة معيّنة، لم تدخل أنقرة في صدام مباشر مع واشنطن بسبب تلك الجهود. حتى أنها حاولت إقناع الولايات المتحدة باستعمال القوة العسكرية لإسقاط الأسد، أو منع نظامه على الأقل من الوصول إلى الجزء الشمالي من البلاد. كانت تركيا تستعد بكل قواها لتشكيل حكومة سورية مرتقبة وأرادت أن تشارك الولايات المتحدة في إيصال تلك الحكومة إلى السلطة. لكن في نهاية المطاف، فشلت تركيا في التلاعب بالقوة العسكرية الأميركية لمصلحتها الخاصة، وسرعان ما أدى تجاهلها للجماعات الجهادية المتمردة في شمال سوريا إلى بدء صدامها مع واشنطن.

في ظل تباعد المصالح الأميركية التركية في سوريا، بدأت أنقرة تعيد تقييم موقفها التقليدي من واشنطن في مسائل أخرى متعلقة بالأمن القومي أيضاً. خلال أكثر من عشر سنوات، سعى "حزب العدالة والتنمية" الحاكم إلى تقليص الاتكال التركي على الولايات المتحدة وترسيخ البلد كقوة عالمية مستقلة. روّج صانعو السياسة الأتراك، بقيادة رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، لفكرة الشرق الأوسط في حقبة ما بعد الولايات المتحدة، حيث تعطي المنطقة تركيا دفة القيادة. كانت أنقرة قد بدأت تفسّر للرأي العام التركي أن "الانفصال" عن الولايات المتحدة يصبّ في مصلحة البلد. في البداية، قوبلت هذه الفكرة بِرَدّ سلبي في أوساط البيروقراطية الدفاعية التركية. لكن بعد 17 سنة تقريباً على حكم "حزب العدالة والتنمية"، استفزت الولايات المتحدة خلالها تركيا عند تعاونها مع الأكراد السوريين، انقلب جزء متزايد من خبراء الأمن القومي ضد واشنطن. نتيجةً لذلك، تمكنت أنقرة من عقد شراكات مع لاعبين إقليميين وعالميين آخرين.


تحالف غير متوقع

لم يكن توجّه أنقرة نحو المحور الروسي متوقعاً. لطالما تدخلت روسيا تاريخياً في الشؤون التركية، فاستعملت الحملات الدعائية للتأثير على الانتخابات المحلية. حتى أن بعض التقارير يذكر أنها أطلقت اعتداءات إلكترونية ضد بنيتها التحتية وخططت لاغتيال معارضين روس في تركيا. وفي معظم مراحل الحرب الأهلية السورية، دعم البلدان جهات مختلفة. لكن حين بدأت أنقرة تبتعد عن واشنطن، زاد احتمال نشوء شراكة وثيقة مع موسكو. لا يمكن اعتبار العلاقة التركية الروسية تحالفاً رسمياً، حتى أنها لا تزال أضعف من علاقة أنقرة وواشنطن في هذه المرحلة. مع ذلك، تفسّر الأوضاع القائمة في سوريا السبب الذي جعل تركيا تتجاوز خلافاتها مع روسيا، في ظل تلاشي روابطها مع الولايات المتحدة بدرجة متزايدة. تكمن المفارقة الحقيقية في نشوء التعاون بين تركيا وروسيا لمجرّد أن موسكو نجحت في إخافة العملاء المدعومين من أنقرة في ساحات المعارك السورية. بعدما أسقطت تركيا قاذفة القنابل الروسية "سو-24" في تشرين الثاني 2015، ركّزت روسيا عمليات القصف على الطريق البري الذي استعملته تركيا لدعم عملائها في شمال سوريا. ثم عمدت روسيا إلى قصف خطوط الإمدادات التركية نحو حلب في أواخر العام 2015 وبداية العام 2016، فمنعت بذلك أنقرة من الوصول إلى تلك المدينة التي شكّلت معقل الجهود التركية للضغط على الأسد منذ بداية الحرب. أدت هذه التطورات إلى خروج تركيا من الصراع، فاضطرت لتقليص طموحاتها في سوريا واكتفت بالتركيز على اللاجئين والأكراد. أدركت أنقرة أنها مضطرة للتعاون مع موسكو للسيطرة على تدفق اللاجئين من مناطق الصراع، فعمدت إلى إغلاق الحدود وبناء مخيمات داخل سوريا لاستقبال النازحين. لكن زادت صعوبة التحكم بالمشكلة بسبب القتال المتواصل في المناطق الحدودية، لذا حسّنت تركيا علاقتها مع روسيا للضغط على الأسد ودفعه إلى حصر العمليات القتالية في تلك المناطق.

في الوقت نفسه، أصبحت روسيا أهم شريكة عسكرية موثوق بها لتركيا، فسمحت لها باستئناف عملياتها القتالية المحدودة في المناطق الحدودية لمتابعة الضغط على الأكراد من دون تهديد حكم الأسد. تستفيد روسيا من تلك العمليات لأنها تزيد توتر العلاقات الأميركية التركية، ما يعني تأجيج التوتر العالمي أيضاً، بما أن البلدين ينتميان إلى حلف شمال الأطلسي. على صعيد آخر، تُعتبر روسيا أفضل وسيلة يمكن أن تستعملها تركيا للتأثير على أي اتفاق سلام محتمل، أو حتى الدستور السوري الجديد، علماً أن هذين العاملَين يسمحان لأنقرة بكبح طموحات الأكراد المتعلقة بالحكم الذاتي في شمال شرقي البلاد. كذلك، قد تضطر تركيا على الأرجح لرؤية استسلام الميليشيات المعارِضة التي دعمتها سابقاً كجزءٍ من أي اتفاق سلام. مهّد هذا الواقع لنشوء علاقة تكافلية بين روسيا وتركيا، حيث يحتاج كل طرف إلى الآخر لحل الصراع.

تفسّر المعطيات كلها رغبة تركيا في تلقي النظام الدفاعي «إس- 400». لكن تتعارض شروط الاتفاق المرتبط بالنظام الصاروخي مع الطبيعة السياسية للعمليات الشرائية الاعتيادية. تاريخياً، كانت المشتريات الدفاعية التركية تعطي الأولوية لنقل التكنولوجيا والإنتاج المحلي على يد مقاولين فرعيين أتراك. لكن رفضت روسيا نقل أي تقنيات مهمة إلى تركيا لأنها لا تزال منتسبة إلى حلف شمال الأطلسي، وبالتالي يمكن أن تقرر تقاسم تقنيات روسية دقيقة مع التحالف إذا تدهورت علاقاتها مع روسيا. لذا اختارت تركيا التخلي عن أولوياتها الشرائية التقليدية، تزامناً مع المجازفة بمستقبل قواتها الجوية، لتعميق علاقتها مع موسكو.

لن تكون خسارة نظام «إف-35» الكلفة الفورية الوحيدة التي تتكبدها أنقرة بسبب سياستها الخارجية الجديدة والمستقلة. هددت واشنطن أيضاً بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا بسبب نظام «إس-400»، وذكرت أنها ستبقى في سوريا حيث تتابع التعاون عن قرب مع الأكراد السوريين. لكن على المدى البعيد، يراهن إردوغان و»حزب العدالة والتنمية» الحاكم على تحقيق المصالح التركية بأفضل طريقة عبر سياسة خارجية حيادية، وذلك في سوريا ومع المتمردين الأكراد محلياً. ببسيط العبارة، لا يعطي الأتراك قيمة لعلاقتهم مع واشنطن بقدر ما يفعل الأميركيون على ما يبدو!