الولايات المتحدة تدور في الدوامة نفسها في الشرق الأوسط!

05 : 15

في العام 1958، واجه القادة الأميركيون قرارات مفصلية لتحديد معالم الحقبة الأميركية في الشرق الأوسط، فاختلفوا حول صوابية التدخل في المنطقة. قبل سنة، وفي سياق الحرب الباردة الناشئة وتلاشي القوة البريطانية والفرنسية في المنطقة، حصل دوايت أيزنهاور على موافقة الكونغرس حول ما عُرِف لاحقاً بـ"عقيدة أيزنهاور". نتيجةً لذلك، حددت الولايات المتحدة للمرة الأولى مصالحها الوطنية في الشرق الأوسط (نفط، قواعد أميركية، الدول الحليفة، احتواء النفوذ السوفياتي) وأعلنت عن استعدادها للدفاع عنها باستعمال القوة العسكرية.

خضع الالتزام الأميركي لاختبار صعب حين أعدم ضباط جيش عراقيون متمردون آخر ملك في بلدهم، صديق الغرب فيصل الثاني، في بغداد في صيف العام 1958. فطلب كميل شمعون، الزعيم اللبناني المسيحي وخصم عبد الناصر، مساعدة أميركية ضد الانقلاب في العراق والحرب الأهلية الوشيكة في بلده (لم تكن الثورة في العراق مرتبطة بعبد الناصر، لكن لم تستوعب الولايات المتحدة هذه الفكرة في البداية). وتماشياً مع "نظرية الدومينو" السائدة في تلك الحقبة، شعر المسؤولون الأميركيون بالقلق من سقوط شركائهم، في لبنان والأردن مثلاً، بعد انهيار النزعة القومية الناصرية والشيوعية السوفياتية مـــــا لم يتحركوا بطريقة حاسمة.

سارع أيزنهاور إلى عقد اجتماع مع كبار مستشاري الأمن القومي يوم سقوط الملك العراقي. اعتبر جون فوستر دولز، محارب بارع في الحرب الباردة ووزير الخارجية الأميركي في تلك الحقبة، أن تجاهل دعوة شمعون سيجعل السوفيات يستنتجون أن الولايات المتحدة لم تكن مستعدة لأخذ المجازفات من أجل حلفائها، ما يعني "تراجع النفوذ الأميركي أو حتى تلاشيه بالكامل، بدءاً من أندونيسيا وصولاً إلى المغرب". ووفق حسابات سياسية انقلبت رأساً على عقب اليوم، اعتبر الرئيس أن "خسارة هذه المنطقة نتيجة الامتناع عن التحرك فيها ستكون أسوأ بكثير من الخسارة في الصين نظراً إلى موارد الشرق الأوسط ومكانته الاستراتيجية". أصرّ فريقه على صوابية التدخل الأميركي العسكري في حرب أهلية أخرى لأن الرئيس اللبناني دعاهم إلى المشاركة. إنها نقطة تستحق التفكير اليوم فيما يحاول المسؤولون العراقيون إخراج الجيش الأميركي من بلدهم رداً على مقتل قاسم سليماني. في ما يخص التدخل في العراق، اعتبر أيزنهاور، وهو جنرال مرموق اتّسم بتحركاته العسكرية المدروسة خلال الحرب العالمية الثانية، أن تلك المقاربة غير قابلة للتنفيذ. وفي تجسيد واضح لعدم خبرة الأميركيين في هذه المسائل، أعلن أيزنهـاور في أحد خطاباتـــه أن العمليــــة شـملت درساً في الجغرافيا، وذكر أن لبنان "بلد صغير، حجمه أصغر بقليل من ولاية كونيتيكت" وأن العراق "بلد مجاور". كان الرئيس الأميركي يدرك المخاطر المطروحة أيضاً، فقال بعصبية لرئيس الحكومة البريطاني الذي كان متوتراً بقدره، عشية نشر مشاة البحرية في لبنان: "أعرف أننا نفتح علينا أبواب الجحيم هناك"!

تُعتبر تلك الأحداث وتداعياتها أساسية لفهم كيفية انتقال الولايات المتحدة من التردد الشديد في التورط العسكري في الشرق الأوسط إلى تنفيذ تدخلات عسكرية هناك أكثر من أي منطقة أخرى في العالم. يعكس مسار التدخل الأميركي مدى ثقة القادة الأميركيين بقدرتهم على تحقيق أهدافهم عن طريق تحركات عسكرية منفصلة ثم استثمار كل ما يملكونه في مغامرات عسكرية مكلفة وغير مدروسة لدرجة أن ندور في الدوامة نفسها. لذا يحمل الرأي العام الأميركي وقادته مواقف متناقضة جداً بشأن المهام المحورية، مهما كانت محدودة، على غرار الحملة ضد "الدولة الإسلامية في العراق والشام".

حتى في العام 1958، كانت أنماط التدخل العسكري التي أصبحت مألوفة اليوم في الشرق الأوسط واضحة. كان دولز يدافع عن نشر القوات العسكرية في لبنان مثلاً، لكنه لفت إلى أن الولايات المتحدة "سيسهل عليها التورط في الصراعات لكن سيصعب عليها الخروج منها" في مرحلة معينة. كان الجمود العسكري في تلك الفترة، كما في الوقت الراهن، يعني تخلي الولايات المتحدة عن مصالحها في المنطقة. قال أيزنهاور لمساعديه: "يجب أن نتحرك في لبنان أو نخرج من الشرق الأوسط بالكامل". فطرح بذلك خياراً صعباً يعرفه ترامب جيداً اليوم. تناقش البيت الأبيض حينها، كما يفعل اليوم، حول حاجته إلى موافقة الكونغرس لتنفيذ عملياته القتالية. وقدّم القادة الأميركيون حينها، كما اليوم، حججاً علنية مُضلِّلة لتبرير استعمال القوة. ضخّم أيزنهاور الوضع في لبنان وأعلن أن العملية تهدف إلى تجنب حرب عالمية جديدة عبر رفض استرضاء الاتحاد السوفياتي، مع أن ذلك التدخل كان يتعلق فعلياً بالسياسة اللبنانية الداخلية.



إنزال القوّات البحرية الأميركية على شواطئ لبنان في 15 تموز 1958



رغم خطاب أيزنهاور القوي، كان الهدف الأميركي الفعلي ضيّق النطاق ويقتصر على دعم حكومة صديقة. تحقّق ذلك الهدف بسهولة مفاجئة. توقّع دولز أن يُسبّب التدخل العسكري ردة فعل سلبية، على غرار أزمة النفط حين هاجمت مصر وحليفتها سوريا البنى التحتية التجارية، أو نشوء "موجة من المشاعر المعادية للغرب في العالم العربي". لكن حين وصل مئات العناصر من مشاة البحرية الأميركية إلى شواطئ بيروت في 15 تموز 1958، بدعمٍ من ثلاث حاملات طائرات وعشرات السفن الحربية في البحر الأبيض المتوسط، فضلاً عن توجيه تهديد أميركي بإرسال أسلحة نووية من ألمانيا، استقبلهم بكل بساطة المستجمون والباعة على الشاطئ. بعد فترة قصيرة، تفاوض الديبلوماسيون الأميركيون حول تسوية سياسية سهّلت خروج شمعون من السلطة. وصلت أعداد القوات الأميركية في نهاية المطاف إلى آلاف العناصر هناك، ثم غادرت البلد في شهر تشرين الأول بعد سقوط عنصر واحد منها تحت نيران القنّاصة خلال عملية انتشار عسكري دامت ثلاثة أشهر. هكذا دخل الأميركيون بسهولة وجدّدوا استقرار البلد ثم خرجوا بالسهولة نفسها.

بعد مرور أكثر من نصف قرن على تلك الأحداث، أصبح مستقبل الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط محط جدل مجدداً، إذ يدعو العراق الولايات المتحدة إلى إنهاء وجودها العسكري المؤلف من 5 آلاف عنصر، ويجد ترامب صعوبة في سحب القوات الأميركية من سوريا وأفغانستان أيضاً. بدأ السياسيون الأميركيون اليوم يفكرون باحتمال أن تنشأ حقبة ما بعد الوجود الأميركي في المنطقة.

لم يعرف أيزنهاور ومستشاروه في الماضي أن عمليتهم السريعة والناجحة كانت استثناءً على القاعدة وليست القاعدة بحد ذاتها. في هذا السياق، يكتب بروس ريدل، خبير في شؤون الشرق الأوسط في مؤسسة "بروكينغز": "لن تكون المهام القتالية الأميركية اللاحقة في الشرق الأوسط إيجابية أو خالية من التكاليف بهذا الشكل. تبدو الحروب في العراق اليوم لامتناهية".

خلال السنوات التي تلت الحملة العسكرية في لبنان، شهدت إيران ثورة إسلامية، وأقدم الاتحاد السوفياتي على غزو أفغانستان، ونشأت حركات إسلامية سُنّية عنيفة. هذه التطورات المزلزلة كلها شجّعت الولايات المتحدة على مضاعفة التزاماتها في الشرق الأوسط. بحلول فترة الثمانينات، أنشأت واشنطن قيادة مقاتلة خاصة بالمنطقة كلها وكشفت عن "عقيدة كارتر" للدفاع عن شركائها في الخليج العربي. سرعان ما اعتبرت الولايات المتحدة نظام صدام حسين في العراق أكبر تهديد لها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وعكست العمليات العسكرية المدروسة ومتعددة الجنسيات التي أطلقها جورج بوش الأب لكبح الغزو العراقي للكويت في العام 1990 أعلى درجات الكفاءة العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط.





لكن في غضون عشر سنوات وعهدَين برئاسة بوش، واجهت الولايات المتحدة هزيمة كبرى في العراق. في دراسة من العام 2016، ذكر جيمس جيفري، ممثل ترامب الخاص في سوريا اليوم، أن جورج بوش الإبن قرر، غداة اعتداءات 11 أيلول، عدم معالجة التحديات المطروحة على المصالح الأميركية في المنطقة، كما فعل أسلافه في العقود الثلاثة السابقة، بل أراد أن يحاول القضاء على تلك التحديات بالكامل. وفي خضم الحروب الأميركية في أفغانستان والعراق بعد اعتداءات 11 أيلول، حاولت إدارة بوش استئصال الأنظمة العدائية، فضلاً عن تغيير معالم المنطقة بما يتماشى مع المصالح والقيم الأميركية.

كان فشل بوش في تحقيق ذلك التحوّل ذريعاً. ترشّح باراك أوباما للرئاسة لمعالجة تلك الإخفاقات جزئياً، فحافظ بشكل عام على الهندسة الأمنية الأميركية في المنطقة وسعى إلى تغيير الدور الأميركي في الشرق الأوسط من دون استعمال القوة العسكرية (لكن فشلت معظم محاولاته). في المقابل، كان ترامب مستعداً لاستعمال القوة العسكرية المحدودة، لكنه أثبت أيضاً أنه لا يهتم كثيراً بإحداث أي تغيير في المنطقة، باستثناء إنهاء دور الولايات المتحدة كضامنة للأمن. هو يريد الانسحاب في نهاية المطاف.

وحتى لو لم يحقق ترامب أهدافه بالشكل المطلوب، إلا أنه سيقتنص حتماً أي فرص إضافية لتقليص الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، فيما يدعو الأميركيون المستاؤون والمرشحون التقدميون للرئاسة إلى اتخاذ هذا الاتجاه نفسه. حين قرر أيزنهاور فتح "أبواب الجحيم" في العام 1958، برّر موقفه قائلاً إن "عدم التحرك سيكون كارثياً". لا شيء يوضح معالم حقبة ما بعد الوجود الأميركي في الشرق الأوسط بقدر مخاوف القادة الأميركيين اليوم من العواقب الكارثية المحتملة لترك تلك الأبواب مفتوحة!


MISS 3