جولي مراد

حيّنا والكورونا - برج حمود

14 نيسان 2020

02 : 05

شارع أرمينيا- برج حمود

"أخيراً ذقتِ مرارةً أُعانيها. قدماك مكبّلتان في بقعةٍ خانقة وخطواتك لا تسرح أبعد من مرمى حجر. ومهما جنحتْ أفكارُك بعيداً يبقى جسدُك ساكِناً وأجنحتُك هامدةً جامدة وروحك في أسرٍ أزليّ".

وكأني بتُّ أشاطره مسكنه، في قفصه الأبيض، وقد اشتريته بنفسي لتزاوجٍ أُشبع به نهمي للمشاركة في "بدعة الخلق". وشهدتُ ولادته فيه بفرحٍ عارمٍ وابتسامةٍ عريضة. ولطالما راودتني أحلامٌ بخلع بابه على مصراعيه كي يطير نحو آفاقٍ من اختياره لأعود وأتردّد بعد حين خوفاً عليه من محيطٍ ليس من طينته.

وها أنا مثله اليوم، عصفوري الأسير، أقضي أيامي الرتيبة مراقبةً من علياء "قفصي" القسريّ أحشاءَ مدينتي وقد كتم حسّها فيروسٌ مجهريّ، خانقاً بهجتها بضربةٍ قاصمة، وبات من المستحيل أن تطأ قدماي أزقّتها المتشعّبة متى طاب لي ذلك ومن دون حسيبٍ أو رقيب.

وحيّنا هذا، الذي حتى في عزّ أيام الحرب لم يعرف يوماً الاستكانة، بهُتت ألوانه وخفّت ضوضاؤه بسكونٍ مرعب، فلا جلبة لمطرقة الحدادين، ولا صراخ لباعةٍ متجوّلين، ولا صيحات لمعلّمين يحرّكون عجلة الحياة بسواعد مفتولة وأصابع متّشحة بسواد البنزين وزيوت السيارات، ولا تنافس محموماً على بقعةٍ لركن السيارات. حيّنا أشبهُ بجسدٍ مرميّ على سريرٍ بارد في لحظات وداع أخيرة، تلفّه وحدةٌ موحشة، فيما يتكبّد قمرٌ هانئ السماء، والهواء صافٍ عليل، ولا شيء ينذر بالفناء سوى ما يختلج بداخلك من حزنٍ شديد تصارعه بكل جوارحك.

لم يجد "هلع" الكورونا إليّ سبيلاً قبل الحجر. كنت هازئةً به، مستخفةً من شأنه. وما لبث أن تلاشى تفلّتي من سطوته حين مررتُ ذات يوم بشارع أرمينيا الذي لا ينامُ بنبضٍ لا يعرف الوهن. كنت عائدةً أدراجي من الجريدة في ختام يوم عملٍ مرهق. نالت منّي فداحة المشهد: "جبور"- الذي ما هدأ يوماً، سواء في عملٍ أو عيد، في سرّاءٍ أو ضرّاء، بفيضانٍ هادرٍ من البشر، في ساعاتٍ متواترةٍ ليلاً ونهاراً- أوصد أبوابه بإحكامٍ. صعقني المشهد. فعل فيّ فعلته، اللّعين! أوغل الحزنَ في أعماقي، أنا من تغلّبَت ببسالةٍ على تلاوين القهر والفواجع المختلفة من حروبٍ وانفجاراتٍ وكوارث اجتماعية وبيئيةٍ ومالية. أيعقل بعد هذه الانتصارات كلّها أن أقع فريسة غياب مشهد المُتلذّذين بالشاورما؟ أيحرّك فيّ غيابُ طوابير تلتهم السندويشات بنهمٍ لافتٍ، حتى مع انبلاج ساعات الفجر الأولى، فيضاً من المشاعر؟ و"مخلوف" ما باله أغلق بابه بوجهي هو الآخر؟ لماذا لم ينتظرني لأشتري منه قطعة "حلوم" و"باغيت" خبزٍ شهيّ كما أفعل دوماً؟ ولماذا أتوق الآن وبشدّة الى مسامرة موظفيه؟ أين "آني" لنضحك معاً عالياً لفوزي بقطعة "بريوش بالشوكولا"، والتي لندرة توافرها لشدّة الاقبال عليها، أرقص بها بابتهاجٍ بالغ كمن ظفر بالجائزة الكبرى؟ كيف أتخطى محنتي الجديدة بالتباعد عن أمثال هؤلاء، عن بائع الخضار والحلويات وأدوات التجميل، "بوطتي" المتكاتفة لليّ ذراع الحياة بقساوتها الشديدة؟

وقفت متسمّرة في مكاني كمن يراقب المحلّة لنيّةٍ مبيتة. "ما بك جامدة هنا؟"، صاح بي الشرطيّ. كمامته حالت دون تعرّفي إلى ملامحه، أنا من حفظت فرداً فرداً وجوه رجال الشرطة في حيّنا الذي شبّت فيه قامتي حتى استحال كلّ ركن من أركانه وكأنه ضلعٌ من أضلعي.

"أين كمامتك؟ ارتديها الآن واحترمي المسافة المطلوبة. لن تجدي دكاناً مفتوحاً. عبثاً تحاولين. واظبي السير وعودي الى بيتك"، قال لي بلهجةٍ آمرةٍ. رضختُ على مضض. سيّارات البلدية تجوب الشوارع بحثاً عن تجمّعاتٍ مخالفة لأوامر الحجر. سررتُ لوجودها كمن وقع على آدميّ آخر في صحراء مقفرة. الأرمن "خليّة نحل" منذ حلّ الوباء ضيفاً ثقيلاً على لبنان، وهم خبراء في ترويض المآسي و"القيامة". إجراءات بلدية برج حمود استثنائية: تنظيمٌ محكم، ومؤازرة للسكان جميعاً، سواء كانوا معدمين أم لا، بمساعداتٍ عينيّة وتوزيع مؤنٍ من دون "ضجّة" إعلامية أو "تربيح جميلة".

سرتُ قدماً. لم ترأف بي الدكاكين المقبلة. بخلت عليّ بما يواسيني. كلّها في سكون من أقفل بابه في وجهك عنوةً. حتى "سوبرماركت خباز" رفض مدّي ببارقة رجاء، فعبارة 24/24 المكتوبة "بالبنط العريض" على واجهته المغلقة، ما عادت تعبّر عن واقع الأمور.

لماذا لم أشعر بهول المأساة في مناطق أخرى عبرتُ فيها في اليوم نفسه؟ ألأنني اعتدت العودة الى شوارع مكتظة تقهر الظروف مهما اشتدّت الأهوال؟ أكنت استأنس دوماً بحضن برج حمود الدافئ وبوجوهٍ لا أعرفها يربطني بها خيطٌ خفيّ يهدّئ من روعي مطمئناً بالي؟

أبيتُ عودة أدراجي. سرتُ هائمةً على وجهي كأنني أبحث في شرايين أزقتها عمّا تاه مني. قادتني خطواتي الى "مرعش". اخترق صوتُ غيتارٍ شجيّ صمت المكان. التفتُّ الى مصدر الصوت. إنّه طوروس يبدّد كآبة الوباء بعزفٍ يبثّ الروح. الناس كلّها على البلاكين تصفّق بحماسةٍ وقد تملكها فرحٌ لا يوصف. أدركتُ لحظتها أنّ حيّنا لا يجيدُ الموت. ها هم أهل برج حمود يناجونها عزفاً وغناءً بأن تنفض عنها غبار السقم. سنرضى لها بأن تستكين برهةً كمن يلتقط أنفاسه هنيهةً ليعود بعد حينٍ من معركته أصلب عوداً وأشدّ عزماً!


MISS 3