مضيق "هرمز": حربٌ لا يريدها أحد!

09 : 54

نبذة-عن-مضيق-هرمز

يربط مضيق هرمز معظم سكان العالم المقيمين على طول شواطئ آسيا وشرق أفريقيا بقلب الشرق الأوسط. قبل اكتشاف النفط بفترة طويلة، كان يُعتبر الشريان النابض للعالم. بالتالي، يمكن أن يتكيف العالم مع قطع الإمدادات عنه في أي مكان آخر، لكنّ انقطاعها في هذه النقطة بالذات يكون قاتلاً، إذ يمرّ 90% من صادرات النفط الخليجية وحوالى 20% من إمدادات العالم في المضيق هذا الذي يقتصر عرضه على 21 ميلاً بحرياً في أضيق نقطة منه. كذلك، تبدو عمليات الشحن التي تمرّ فيه محفوفة بالمخاطر. في محافظة مسندم العمانية، على الجانب الجنوبي للمضيق، يمكننا سماع بث إذاعة فارسية من إيران بقدر ما نسمع العربية. ويبدو المناخ قاسياً في هذا المكان بسبب الحر والرطوبة والرياح الحارقة، ويبقى عدد كبير من سلاسل الجبال والوديان بالقرب من المضيق غير مأهول في معظمه.



حاول الفُرس المطالبة بمضيق هرمز، لكن لم تتمكن جماعة واحدة يوماً من السيطرة عليه كاملاً. في مسندم، حافظت جماعات "شيهوه" الجبلية وصيادو "داهوري" تاريخياً على استقلالية معينة عن العاصمة مسقط. وعلى الجانب الفارسي شمالاً، تبدو إيران معرّضة للاضطرابات بقدر السفن التي تمر في المضيق. افتتحت إيران محطتها النفطية على جزيرة لارك، بعدما هاجم العراق منشآتها السابقة في جزيرة خارج، على مساحة أعمق في الخليج.


في جزر لارك وهرمز وقشم وساحل الخليج الفارسي في إيران، يقيم مزيج من الفُرس والسُنة الناطقين باللغة العربية الذين هاجروا إلى هذه المنطقة من شبه الجزيرة العربية قبل ترسيم الحدود البحرية الدولية، علماً أنهم يختلفون عن معظم سكان إيران. لطالما واجهت إيران المشاكل في تلك التلال.

يقيم البلوشيون في الجبال المجاورة، وشنت حركة "مكران جند الله" البلوشية السُنية الانفصالية اعتداءات مميتة ضد إيران، فأودى بعضها بحياة 15 عنصراً من الحرس الثوري الإسلامي في العام 2009. وحدها أعداد السفن التي تعبر المضيق وأنواعها تتفوق بأهميتها على التنوع السائد في تلك الأراضي. وفي ظل غياب قوة مهيمنة واحدة في المنطقة، من مصلحة الولايات المتحدة، باعتبارها أهم قوة بحرية في العالم، ضمان سلامة العمليات التجارية عبر مضيق هرمز.

تاريخياً، كانت هذه الخطوة تمنع ترجيح الكفة لصالح طرف دون سواه. في العام 1987، تدخلت الولايات المتحدة في الحرب الإيرانية العراقية لمنع الاعتداءات على السفن الكويتية. وفي العام 1988، أغرقت الولايات المتحدة السفن الحربية وزوارق الدوريات الإيرانية خلال "حرب الناقلات". وبعد بضع سنوات، أطلقت الولايات المتحدة أول حرب في الخليج لمنع العراق من احتلال الكويت. استخلصت إيران الدروس من هذه الأحداث التاريخية وأدركت أن أفضل استراتيجية، في خضم محاولتها تحسين موقعها التفاوضي وإنهاء العقوبات القاسية، لا تقضي بخوض صراع مباشر بل بالتحايل على الوضع. لذا بدأت ترسل مراكب صغيرة وخفيفة الوزن لمضايقة الناقلات الضخمة وسفن الحاويات ومهاجمتها.



تبدو المخاطر المطروحة في المضيق اليوم أكبر بكثير مما كانت عليه خلال الثمانينات والتسعينات، فقد تؤدي المواجهات المرتبطة بعمليات الشحن إلى حرب شاملة بين إيران والولايات المتحدة، حتى أنّها قد تتخذ منحىً نووياً! لكن بدل أن تضمن الولايات المتحدة أمن المنطقة، سعت إلى تحقيق مصالح قصيرة الأمد، فباعت الأسلحة إلى شركائها في الخليج، وانحازت إلى أطراف معينة في خلافات واهية داخل الخليج، ودفعت شركاء مثل قطر إلى التقرب من إيران، وسمحت للسعوديين بأخذ مجازفات مفرطة، على غرار التدخل في الحرب الأهلية اليمنية.



ربما تشتق هذه الانتهازية الكفيلة بزعزعة الاستقرار من افتراض أميركي خاطئ مفاده أن "عقيدة كارتر"، التي تعهدت الولايات المتحدة بموجبها باستعمال القوة العسكرية لحماية مصالحها في الخليج، لم تعد تنطبق على الوضع الراهن. مع تراجع كميات النفط التي تأخذها الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، من المنطقي وفق هذه النظرية أن تتراجع حاجتها إلى ضمان أمن المنطقة أيضاً. لكن تعكس هذه المقاربة رؤية مغلوطة عن المعطيات التاريخية والجيوسياسية. لا تتّكل الولايات المتحدة على أمن الخليج للاستفادة من النفط فحسب.


أولاً، تغيّرت الدينامية الأمنية في المنطقة نظراً إلى زيادة احتمال نشوء صراع نووي، فقد بدأت إيران تُخصّب اليورانيوم بوتيرةٍ متسارعة بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. اليوم، زاد اهتمام المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة باكتساب تكنولوجيا نووية وتحسنت قدرتهما على الحصول عليها لأن الولايات المتحدة بنفسها قدّمت لهما مواد ومهارات نووية دقيقة. على صعيد آخر، زادت أهمية تعزيز الأمن في مضيق هرمز راهناً، لا بسبب التجارة فيه فحسب، بل لأن أي صراع هناك قد يُسبب دماراً قادراً على تجاوز حدود الخليج في وقت قصير. ثانياً، زادت العمليات التجارية التي تمرّ بمضيق هرمز سريعاً مع نشوء الدول النفطية الغنية على طول الخليج. أخيراً، قامت الولايات المتحدة باستثمارات هائلة في القواعد البحرية في البحرين وقطر ومناطق أخرى لا يمكن الوصول إليها بحراً إلا عن طريق مضيق هرمز. لذا سيبقى هذا المضيق أهم نقطة اختناق بحرية وتجارية قيّمة وهشة في العالم، مهما تراجعت أسعار النفط.

وبغض النظر عن كمية النفط التي يستخرجها المنتجون الأميركيون والكنديون، ستبقى الولايات المتحدة مسؤولة عن أمن الخليج. لا يمكن أن ينجح نظام التجارة العالمي الذي يتوقف عليه الازدهار الأميركي من دون وجود ممر آمن للسفن عبر مضيق هرمز ومنع التصعيد النووي في المنطقة. لذا لا تزال "عقيدة كارتر" ضرورية، لكنها ليست مثالية. صحيح أن الولايات المتحدة تملك أقوى جيش في المنطقة، لكنها لا تراعي في معظم الأوقات الجغرافيا البشرية المعقدة في المضيق. على عكس بريطانيا التي ضمنت أمن طرق التجارة في الخليج بين العامين 1820 و1970، لا ترتبط الولايات المتحدة بعلاقات وثيقة مع الجهات النافذة غير الحكومية.


ينطبق هذا الواقع على جانبَي المضيق. جنوباً، شكّلت سلطنة عمان، أو "سويسرا الخليج"، وسيطاً أساسياً بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران. لكن يبلغ السلطان قابوس بن سعيد 78 عاماً اليوم، وما من خلف واضح له حتى الآن. على صعيد آخر، احتفظت بريطانيا بمحطة تلغراف في شبه جزيرة مسندم، ولا تزال مركز تنصّت لسلطنة عمان التي تتقاسم المعلومات على الأرجح مع حلفائها، بما في ذلك الولايات المتحدة. لذا من مصلحة واشنطن أن تفهم الديناميات السياسية والاجتماعية المعقدة في مسندم تحسباً لأي اضطرابات خلال المرحلة الانتقالية بعد رحيل السلطان قابوس. من المستبعد اذاً أن تبدأ الفصائل والجماعات داخل سلطنة عمان ومسندم اكتساب نوع من الاستقلالية إذا أدت المرحلة الانتقالية إلى اضطراب الوضع، لكن يبقى هذا الاحتمال وارداً. قد تستعد واشنطن إذاً لحقبة ما بعد قابوس عبر دعم شركاء محتملين آخرين في المفاوضات، على غرار الكويت، وتأييد خلف قابوس إذا قرر متابعة السياسات التي يتبناها السلطان راهناً في المضيق. لن يكون استبدال قيادة قابوس المتّزنة والحكيمة عملاً سهلاً، ويجب ألا تستخف واشنطن بالوضع مهما حصل.



شمالاً، على الجانب الإيراني من المضيق، يجب أن تتعرف الولايات المتحدة بدرجة إضافية على الفصائل والمسائل التي تُقَسّم إيران. قد تدفع السياسات الأميركية الصارمة بالشعب الإيراني المعارض للنظام إلى دعم طهران. تتعدّد التهديدات الخارجية التي ساهمت في تقوية حكم آية الله، مثل الحرب الإيرانية العراقية، إذ يتوحد الإيرانيون رغم اختلافهم ضد المعتدي الخارجي في هذه الظروف. بالتالي، قد يتحوّل المعارضون المحتملون في المناطق الساحلية إلى داعمين لطهران عند مهاجمة إيران على طول شاطئ الخليج، أو في القاعدة العسكرية ومحطة النفط في جزيرة لارك، حيث توافد عدد كبير من العمانيين في الماضي، وحيث يقيم ويعمل مزيج من الإيرانيين العرب والفُرس.



لن تستفيد الولايات المتحدة من تكرار دور الإمبراطورية البريطانية أو فرض الوصاية على الدول الخليجية، كما حصل بدءاً من العام 1853 وصولاً إلى السبعينات. بل من مصلحتها أن تتابع، مع شركائها، أداء دور الحَكَم. نظراً إلى العلاقات المتوترة تاريخياً بين الولايات المتحدة وإيران، لن تعتبر جميع الأطراف في المنطقة واشنطن حَكَماً محايداً.

لكن لا تستطيع أي قوة أخرى منع التدخل في مضيق هرمز، ولا أحد سواها قادر على منع اللعبة من الخروج عن السيطرة. ومن دون حَكَم مناسب، يسهل أن تتحول المناورات إلى حروب لا يريدها أحد. يرغب معظم اللاعبين في الخليج، بدءاً من قطر وصولاً إلى المملكة العربية السعودية وإيران، في ضبط اللعبة القائمة. تدرك إيران، رغم العقوبات الساحقة، أنها لن تستفيد من الحرب. لذا أصرّت على إنكار مسؤوليتها عن الاعتداءات الأخيرة على سفن الشحن الغربية في المضيق. لكن لا يكفي تجنب تصعيد الوضع في اللحظة الأخيرة، كما فعل ترامب حين ألغى الهجوم على إيران رداً على إسقاط طائرة أميركية بلا طيار. بل يحتاج مضيق هرمز إلى جهة مستقرة لضمان أمنه، حتى لو لم تكن تلك الجهة مثالية!


MISS 3