د. حبيب البدوي

إستراتيجية "السلمية الاستباقية" اليابانية

22 نيسان 2020

04 : 35

المادة 9 من الدستور الياباني:

إن الشعب الياباني، ومن خلال سعيه الصادق للسلام العالمي المبني على أساس القانون والعدالة يتخلى عن حقه السيادي بإعلان الحرب أو اللجوء إلى القوة العسكرية كوسيلة لفض النزاعات الدولية.

بناء على ذلك وفي سبيل تحقيق الهدف أعلاه فان اليابان تتخلى عن (إمتلاك - صيانة) تطوير القوات البرية أو البحرية أو الجوية أو أي قدرات عسكرية أخرى، وليس للدولة الحق بإعلان حالة الحرب.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية ووقوع اليابان تحت الإحتلال الأجنبي لأول مرة في تاريخها منذ الأزل، تم فرض وليس إصدار دستور العام 1945 بضغط واضح وتوجيه إنتدابي من "القيادة العليا لقوات الحلفاء Supreme Command of the Allied Powers – SCAP" بشخص الجنرال دوغلاس ماك آرثر، والذي كان الحاكم العسكري والآمر الفعلي في تنظيم وهيكلة ولادة اليابان الجديدة تحت الرعاية الأميركية.

في المقابل، وأمام حتمية الهزيمة، وخوفاً من فناء الأمة اليابانية، طبّقت القيادة اليابانية نموذج "الأيكيدو" الذي تربى عليه الشعب الياباني. والمغزى التكتيكي فيه هو "إستيعاب الخصم حتى تحقيق النصر".

وبالفعل أثمرت الإستراتيجية اليابانية نجاحاً جلياً. فمع اندلاع الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، ومن معاركها الحامية في الشرق الأقصى كانت الحرب الكورية (1950 – 1953) والحرب الفيتنامية (1955 – 1975)، بدأت اليابان تدريجياً تعود إلى كونها دولة كاملة السيادة، متحالفة مع الولايات المتحدة الأميركية والحلف الأطلسي، وتضطلع بدور "لوجستي" عسكرياً.

ومع نهاية القرن العشرين انهار الاتحاد السوفياتي، ليبدأ عصر القطب الواحد الأميركي. المنافس الأبرز حالياً للأحادية الأميركية، هو خصم اليابان التاريخي (إن لم نقل عدو)، ألا وهو الصين (من زمن الإمبراطورية، ثم اضمحلالها مع ثورة "البوكسرز"، وصولاً إلى جمهورية الصين الشعبية).

يعيش العالم اليوم رحى مواجهة طاحنة تتمثل في الحرب التجارية الأميركية – الصينية، في الوقت الذي تهيمن فيه الإستثمارات الصينية في الأسواق الأميركية نفسها. المؤشرات الأخرى تشير بقوة إلى أفضلية صينية في المبارزة المباشرة مع واشنطن، حتى الفترة الأخيرة. فبعد أزمة "هواوي" التي كان الإعلام أهم أسلحتها، نعيش التغطية الإعلامية الشاملة لتفشي وباء كورونا بشكل مبالغ فيه، وصل إلى حد "العنصرية" تجاه الشعب الصيني، ولم يستثنِ الجاليات الآسيوية الأخرى.

اليابان هي جارة هذا التنين الصيني، وفضلاً عن توابع التاريخ، هناك نزاع على جزر حدودية بين الدولتيَن. هذه الصخرات البحرية تتميّز بغناها بالموارد الطبيعية والثروات الدفينة. وبالتالي، فالخصم هنا هو "جيش التحرير الشعبي الصيني"، والذي قوامه مليونان ونصف جندي!!! مع قدرات نووية هائلة.

وإن كان هذا المارد يخضع لقيادة حكيمة، فإن جنون ومزاجية الرئيس الكوري الشمالي هما خطر قائم بحد ذاته، مستهدفاً اليابان، وكذلك السلم العالمي. ناهيك عن كوريا الجنوبية، والتي رغم أنها تدور في الفلك الرأسمالي وتحظى بحماية القواعد العسكرية الأميركية، فهي تُشهر عدائها العلني لليابان، وتنازعها على العديد من الجزر، وحتى ترغب وتنادي بتغيير إسم "بحر اليابان". بل ونعيش اليوم في خضَم حرب تجارية يابانية – كورية جنوبية تُلقي بظلالها على اقتصاد البلدين. وأخيراً، لا ننسى أن روسيا الإتحادية، وريثة السوفيات تحتل جزر الشمال الياباني، وحوَّلتها إلى محميات عسكرية بعد طرد سكانها اليابانيين.

بعيداً عن الجيران الأقرب، فإن اليابان دولة فاعلة ومؤثرة على المستوى العالمي، وبالتالي فهي تأثَّرَت بحرب القراصنة الصوماليين وتتخوّف من إغلاق مضيق هرمز، في حال تفاقم الصراع في الشرق الأوسط. إن الإقتصاد الياباني يرتكز على إمدادات النفط من منطقتنا العربية، وما زالت تجربة "الحظر النفطي العربي" خلال حرب العام 1973 بقرار شجاع من الملك فيصل بن عبدالعزيز تُلقي بظلالها على صانع القرار في اليابان حتى عصرنا الحالي.

وسط قتامة الأوضاع العالمية والخطر المباشر الذي يتهدد اليابان، من المنطقي والطبيعي أن تنادي فئة بضرورة التخفيف من "السلمية" المبالغ فيها، بينما يشهد التاريخ الإنساني منذ بدء الخليقة بأن "البقاء للأقوى"، مع عوامل "الذكاء والتكيّف".

هنا برز "الحزب الديموقراطي الليبرالي" الياباني، بقيادته الريادية منذ الإستقلال ورموزه التاريخية، متمثلة برئيس الوزراء شينزو آبي (حفيد رئيس الوزراء "نوبوسكه كيشي")، والذي طرح التغيير الإستراتيجي التدريجي خلال ولايته الثانية.

عندما تولى رئيس الوزراء آبي رئاسة الوزراء للمرة الثانية خلال كانون أول 2012، بدأ عهد الصقور في الحكومة اليابانية. في تموز من العام نفسه دعا بصفته زعيم الأغلبية البرلمانية لإعادة تفسير المادة التاسعة. ليتم بمقتضى ذلك إمكانية "الدفاع الجماعي عن النفس" Collective self-defense لحماية السلم العالمي. وما لبث أن أعلن من منبر الأمم المتحدة كونه رئيساً للحكومة أن "اليابان سترفع الراية لتأمين السلم الإستباقي في العالم" (في شهر أيلول). لتجد "قوات الدفاع الذاتي اليابانية" نفسها في تحديات جسيمة خارج نطاقها المحلي وحفظ الأمن الداخلي.

من هنا كان مُصطلح "السلمية الإستباقية" Proactive Pacifism، والتي ارتكزت على تراكم تاريخي في بنى القوات المسلحة اليابانية بطريقة إحترافية، براً وبحراً وجواً، ليصبح الجيش الخامس على مستوى العالم، والذي شرع مؤخراً ببناء وتجهيز "قوات دفاع فضائية" أسوة بالعملاقَين الأميركي والروسي.

إن دراسة التسلسل الزمني الذي أدى إلى إشهار وولادة "السلمية الإستباقية" يشير بوضوح إلى أن الإعداد لحصد الثمار على الصعيد القومي، يكون بزرع البذور الصالحة ورعاية نموّها واشتداد عودها، بانتظار اللحظة الزمنية الملائمة للإعتداد بها والإعتماد عليها. من هنا كان البناء الجدي للجيش الياباني عبر العقود التالية للهزيمة. فبوجود الهيكل الرصين والتراتبية المتينة، كان العام 2012 هو لحظة القرار الملائمة لزيادة ميزانية قوات الدفاع الذاتية اليابانية وتوسيع دورها الإقليمي والدولي، للمساهمة في بناء السلام العالمي. النتيجة الحتمية كانت التعديلات الدستورية التي هي النتيجة المرتقبة لسياق تاريخي متصل، كان يبني لمرحلة يعود فيها الدور المحوري لليابان إقليمياً ودولياً. وفي الوقت ذاته كان المسعى ليكون لليابان المسالمة، يد حديدية تحمي أرضها ومياهها وأجواءها، وتحفظ "حق المطالبة" بالجزر المتنازع عليها أو المحتلة.

وها هي طوكيو ترسل وحدة تابعة لقوة الدفاع الذاتي البحرية اليابانية بقيادة المدمرة "تاكانامي" إلى بحر العرب والخليج العربي. وتخطط وزارة الدفاع لتناوب المدمرات في جولات تستمر من ثلاثة إلى أربعة أشهر خلال بعثة الشرق الأوسط التي تستغرق عاماً، وقد يتم تمديدها بموافقة مجلس الوزراء اليابانى. وكانت حكومة رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبي، قررت استخدام نحو 506 ملايين ين (4.6 ملايين دولار) من إحتياطى الموازنة لهذا العام للإنفاق على قواتها في المنطقة العربية.


MISS 3