شاراث سرينيفاسان

ثورة السودان تستحق الدعم بدل اتفاقيات السلام النخبوية

3 آب 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

تصاعد الدخان في جنوب الخرطوم مع استئناف القصف وإطلاق النار الذي استمر 24 ساعة | السودان، 12 حزيران ٢٠٢٣

تبدو صيغة صناعة السلام النموذجية منمّقة على نحو خادع، فهي تدعو بكل بساطة إلى فرض وقف إطلاق النار لإنهاء أعمال العنف، وترسيخ الوضع المستجد عبر تقاسم السلطة موقتاً بين الجهات المسلّحة، وتحديد جدول زمني للإصلاحات المؤسسية (على المستويات الأمنية، والاقتصادية، والدستورية)، ثم جمع الأطراف المدنية لتحقيق الهدف النهائي: إجراء انتخابات ديمقراطية. لكن تفشل هذه الصيغة بشكلٍ متكرر، وغالباً ما تكافئ مرتكبي العنف وتُضعِف قيمة السياسات المدنية. قد تكون اتفاقيات وقف إطلاق النار وتقاسم السلطة لإنهاء العنف مغرية، لكنها تحمل بُعداً شيطانياً. قد تُسكِت هذه الصفقات صوت الأسلحة لفترة، لكنها ترسّخ عموماً سطوة مثيري المشاكل على السلطة، وتفرّغ التزاماتهم بإحداث تغيير سياسي حقيقي من مضمونها. يبرع المقاتلون المخضرمون في التعامل مع خرائط الطريق وأطر العمل التي يطرحها صانعو السلام بطريقة تضمن عدم تضررهم وحفاظهم على أعلى المراتب.



السودان ليس استثناءً على هذه القاعدة. بعد أربع سنوات على إسقاط الدكتاتور عمر البشير من السلطة بفضل انتفاضة شعبية غير عنيفة، سمحت سلسلة من مخططات السلام المنمّقة بإبقاء الدولة تحت سيطرة جنرالَين (عبد الفتاح البرهان ومحمد «حميدتي» حمدان دقلو)، قبل أن يتقاتلا بعنف ويمزقا البلد كله.

اليوم، يكرر صانعو السلام الأخطاء نفسها. في ظل تصاعد أعمال العنف وتحمّل المدنيين معظم أعبائها بطرق مريعة ومستهدفة، تتلاحق اتفاقيات وقف إطلاق النار الفاشلة. يسمح التواصل مع المقاتلين لفرض السلام بمنحهم الشرعية، باعتبارهم الأكثر تأثيراً في تقرير مستقبل السودان، مع أنهم مسؤولون عن تدمير البلد بأكثر الطرق وحشية. لهذا السبب، يُفترض أن يُركّز الدبلوماسيون على الثوار في السودان. يحتاج البلد إلى تحركات دبلوماسية مختلفة بالكامل ومتماشية مع طموحات المواطنين الشجعان. تبدأ هذه الحملة بوقف التركيز على السلام والعمليات الانتقالية التي انشغل بها الدبلوماسيون في السنوات الأخيرة وإعطاء الأولوية للقوة الثورية التي نجحت في إسقاط البشير.

في السنوات الأخيرة، زاد تخبّط السودان بسبب إصرار الدبلوماسيين المؤثرين على إطلاق عملية انتقالية، منهم مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان، فولكر بيرتيس، ومساعدة وزير الخارجية الأميركي، مولي في. في تشرين الأول 2021، حين أصبح الانتقال إلى قيادة مدنية مرتقباً بعد شهر، تماشياً مع الجدول الزمني للعملية الانتقالية، أطلق البرهان وحميدتي وبعض الثوار السابقين انقلاباً. كان ذلك التحرك مجرّد انقلاب ضد الإعلان الدستوري الذي دعم الانتقال إلى سلطة مدنية في العام 2019. لكن تبخرت تلك العملية الانتقالية سريعاً.

لم يكن صانعو السلام الأجانب يحملون أي أفكار، باستثناء التواصل مع مطلقي الانقلاب العسكري لاستئناف العملية الانتقالية التي يفضلونها بأي ثمن. لم تنجح هذه المساعي إلا عبر إبرام صفقة مع صانعي الانقلاب لإعادة تعيين رئيس الوزراء التكنوقراطي عبدالله حمدوك الذي أصبح مسؤولاً صُوَرياً. تلك الصفقة منحت الشرعية للجنرالات الذين يتخذون اليوم أهم القرارات.

في غضون ذلك، كثّف الناشطون السودانيون هتافاتهم في الشوارع: «لا للتفاوض. لا للشراكة. لا للشرعية». حاول أمين عام الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إقناع المحتجين منطقياً بإعطاء فرصة لإطلاق «عملية انتقالية سلمية تمهيداً لإرساء ديمقراطية حقيقية». لكنّ صانعي الانقلاب أحبطوا هذه العملية السلمية بالذات.

حاولت لجان المقاومة رفض إصرار صانعي السلام على عملية انتقالية تكنوقراطية محورها النخبة الحاكمة ونزعتهم غير المنطقية إلى استرضاء أمراء الحرب في السودان، وسرعان ما تبيّن أنها محقة في موقفها. لكن نشأت خطة انتقالية أخرى في أواخر العام 2022، ثم انهارت بعنف في شهر نيسان الماضي، حين كان يُفترض أن يبدأ الجنرالات مجدداً بالتنازل عن جزء من السلطة لبعضهم البعض (عبر دمج قواهم) وللقيادة المدنية.

طرحت الخطة الرامية إلى دمج «قوات الدعم السريع» بقيادة حميدتي مع جيش سوداني موحّد تهديداً وجودياً بقدر التهديد الذي واجهته روسيا بسبب «مجموعة فاغنر» بقيادة يفغيني بريغوجين. رفض حميدتي فكرة البرهان الذي اقترح تنفيذ هذه الخطة خلال سنتين بدل عشر سنوات. كما أنه طالب بأن تستلم «قوات الدعم السريع» جزءاً كبيراً من صلاحيات القيادة والتحكم داخل قواته الموحّدة. سعى صانعو السلام إلى إيجاد حل وسط، لكن تبيّن أن هذا الحل يقوم على خوض الحرب.

منذ بداية الثورة، مروراً بالمرحلة التي تلت الانقلاب في العام 2021، وصولاً إلى الزمن الحاضر، زادت قوة لجان المقاومة المدنية في أحياء السودان وأصبحت آخر خط دفاع عن الثورة.

تعرضت لجان المقاومة للتهميش خلال المرحلة الانتقالية وعبّرت عن تشكيكها بهذه العملية. تكمن قوتها الحقيقية في تنسيق الاجتماعات السرية والتحركات الشعبية. بعد الانقلاب، شاركت لجان المقاومة في أنحاء البلد في عملية تمتد من أعلى المراتب إلى أدناها للتوصل إلى إجماع حول مستقبل السودان.

أنتجت هذه العملية ميثاقَين. كانت لجان المقاومة حديثة العهد، وحيوية، وتعددية، ولامركزية، ولا تتكل على زعيم واحد، وهي تمثّل شكلاً من السياسة الحيوية التي تزعج الدبلوماسيين المعتادين على إبرام الصفقات والتكنوقراط المشاركين في العمليات الانتقالية.

في ظل تجدّد العنف الوحشي اليوم، لا تزال المقاومة وروح الثورة حية بطريقة بطولية وسط السودانيين. حين كان الدبلوماسيون منشغلين بإجلاء أنفسهم ومواطنيهم وتركوا السودانيين لمصيرهم الدموي الذي أصبح ممكناً بسبب عمليتهم الانتقالية الفاشلة، تولى السودانيون، بما في ذلك لجان المقاومة، تنسيق المسارات الآمنة، وتنظيم حملات تأمين الطعام والمياه، وابتكار خدمات صحية مرتجلة.

يحمل أعضاء لجان المقاومة قناعة راسخة مفادها أن مستقبل السودان يجب أن يبدأ عاجلاً وليس آجلاً. يرفض صانعو السلام من جهتهم هذا النوع من الاستعجال ويعتبرونه نهجاً متسرعاً ومثالياً أكثر من اللزوم. بعد تصاعد أعمال العنف في شهر نيسان، عبّرت الناشطة والكاتبة السودانية، موزان النيل، عن إحباط الشعب حين صرّحت لموقع PBS NewsHour، بعد عشرة أيام على تجدّد الأزمة: «طُلِب منا أن نكون واقعيين بعد وقوع مذبحة وأن نتقبّل مجرمي الحرب. وطُلِب منا أن نكون واقعيين بعد حصول انقلاب. وأتوقع أن يُطلَب منا أيضاً أن نكون واقعيين بعد الحرب. بانتظار المحادثات التي أثبتت فشلها الآن لوقف إطلاق النار بقيادة الأميركيين والسعوديين في جدة، بدأتُ أسمع أخباراً عن شكل من التفاوض الذي يطالب به الدبلوماسيون لإعادة إقرار الاتفاق القديم الذي أوصلنا إلى ما نمرّ به في الوقت الراهن».

لا تستطيع الدول الغربية والقوى الإقليمية اليوم أن تعيد تدوير المقاربات الاعتيادية في صناعة السلام، كتلك التي أطلقت ثورة شعبية خلال عملية انتقالية شائبة ومهّدت لبدء هذه الحرب. يُفترض أن تكون الثورة، لا العملية الانتقالية، محور الجهود الدبلوماسية هذه المرة.

ما من صيغة منمّقة لتطبيق هذا النهج. تكشف تحليلات مقاربات السلام في السودان طوال عشرين سنة أن خطط العمل والنماذج الجاهزة تُسبب مشاكل مضاعفة. يمكن البدء بتغيير العقلية السائدة عبر طرح السؤال التالي: كيف يستطيع العالم الخارجي أن يدعم القوة السيادية الهائلة للمقاومة السودانية؟

في الحد الأدنى، تعجز أي مبادرة سلام عن إضعاف السياسة المدنية في خضم مساعيها لإنهاء العنف. دائماً ما تعطي هذه المقاربة نتائج عكسية. لا يستطيع الجنرالات أن ينتزعوا جزءاً من السلطة السياسية من أي اتفاق سلام. كذلك، يُفترض أن تتماشى أي مبادرة محتملة مع تطلعات المقاومة المدنية في السودان، ما يعني أن تحافظ على طابعها السيادي. على صعيد آخر، يجب أن تتوسع المساحة السياسية المخصصة للنشاطات المدنية. قبل بدء هذه الأزمة، كانت هذه الخطوة تعني على الأقل التمسك بحق التجمّع في الشوارع. لكن سَحَق القادة العسكريون هذا الحق عن طريق العنف ومن دون مواجهة أي محاسبة. اليوم، يجب أن تساعد القوى الخارجية الناشطين المدنيين على التجمّع في مساحات افتراضية أو أماكن آمنة.

أخيراً، يسلتزم الوضع الراهن عقلية جديدة بالكامل لدعم لجان المقاومة باعتبارها بالغة الأهمية لرسم مستقبل السودان. تبرز دوماً مخاطر تُهدد نفوذ أي حركة اجتماعية وشرعيتها عند محاولة منحها الدعم اللازم. يجب أن يتجنب المعنيون هذا النوع من الأضرار. عملياً، يتطلب الدعم الحقيقي الإصغاء إلى أفكار لجان المقاومة ومطالبها، ومنطقها، وكسب ثقتها مع مرور الوقت. في المقابل، يُفترض أن تقرر هذه اللجان، وليس صانعي السلام الأجانب، مكانتها في أي مبادرة تهدف إلى تقرير مستقبل السودان.

إذا كان هؤلاء المقاوِمون لا يثقون بالسياسة التي تعتمدها النُخَب الحاكمة، يُفترض ألا تُقابَل مواقفهم بقلة الصبر. هم يعرفون طبيعة سلطتهم في الشبكات الأفقية وفي منتديات النقاش والشوارع. هم وحدهم أنقذوا السودان حين فشلت جميع الأطراف الأخرى. لهذه الأسباب كلها، يُفترض أن يتجاوب صانعو السلام مستقبلاً مع المقاومة المدنية في السودان ويتعرضوا للمساءلة أمامها. باختصار، يجب أن تكون الكلمة الأخيرة للثورة.