عالم ما قبل الوباء هو الذي كان وهمياً

04 : 20

منذ سنوات، بدأتُ أكتب قصة قصيرة ترتكز على الفكرة التالية: جميع ساعات العالم تتعطل دفعةً واحدة. لن يقف الزمن بهذه الطريقة، بل سينهار مفهوم الوقت. نتيجةً لذلك، تتجمد الحياة وتقف في مكانها. يعمل بطل القصة في مبنى شاهق في وسط مانهاتن، فيستعمل المصعد يوماً للنزول إلى الردهة ويخرج إلى الشارع كي يكتشف أن العالم أصبح في حالة جمود وأن جميع الإيقاعات الاجتماعية والنشاطات التجاربة عُلّقت. توحي الأجواء بانتشار فوضى وشيكة. حين وصلتُ إلى نصف الصفحة الثالثة من القصة، توقفتُ عن الكتابة لأني لم أعد أعرف معنى ما أكتبه.

تتكرر أمامي في الفترة الأخيرة عبارة "ما يحصل لا يُصدَّق"! حتى أنني أقولها بنفسي لأنني لم أغادر منزلي منذ شهر. لكني أسمعها أيضاً من أصدقائي وفي نشرات الأخبار على التلفزيون وشبكة الإنترنت.

يصعب تصديق الكارثة التي تجتاج العالم راهناً في ظل تفشي فيروس كورونا. أدت اضطرابات سوق الأسهم خلال أيام قليلة إلى تدمير الموارد المتراكمة على مر عقود، وقدّم أكثر من 16 مليون شخص في الولايات المتحدة طلباً لتلقي مخصصات البطالة خلال ثلاثة أسابيع فقط، وتزداد أعداد الإصابات والوفيات مع مرور كل يوم.




مع ذلك، يجد الكثيرون صعوبة في تقبّل هذه المصائب كواقع ملموس. ما معنى أن يشعر الناس بأن الأحداث المحيطة بهم غير حقيقية؟ يشتق هذا الشعور على ما يبدو من الافتراض القائل إن الحياة "الطبيعية" قبل الوباء كانت حقيقية، وقد انتقلنا الآن من تلك الحقيقة إلى وضع غريب. لكن ماذا لو كان العكس صحيحاً؟

لم تُذكّرنا الأزمة الراهنة وطريقة التعامل معها، فردياً أو مؤسسياً، بجوانب الوباء غير القابلة للتصديق، بل بالأوهام التي كنا نعيشها. يتعلق أكبر وهم مشترك بين الناس بانفصالنا عن الطبيعة واستقرار الحياة على كوكب الأرض.

ورغم ما نعرفه من السجلات التاريخية والجيولوجية والبيولوجية والحضارة البشرية (بفضل التقدم الحاصل في العلوم والطب والبنى الاجتماعية والحكومية)، نحن مقتنعون بأننا نعيش داخل فقاعة كبيرة، ما يعني أننا محصّنون ضد أي نوع من الأحداث الكارثية التي نواجهها راهناً. لكن تكشف تطورات الأسابيع الأخيرة أن تلك الفقاعة التكنولوجية المزعومة كانت مجرّد طبقة رقيقة يسهل اختراقها.

أما أقوى فقاعة محيطة بنا، فهي نفسية بطبيعتها. حتى لو اتّضحت معالم واقعنا الجديد والصادم، سيصعب علينا أن نصدّق أن الحياة التي اعتبرناها "طبيعية" كانت وهمية. نحتاج إلى بعض الوقت للتخلي عن الفرضيات القديمة التي اعتبرناها بديهية عن حياتنا اليومية، أي الفكرة القائلة إن الغد سيكون مشابهاً للأمس والسنة المقبلة مشابهة للسنة السابقة.

تُعتبر هذه الفرضيات جزءاً من رفاهية حياتنا المعاصرة. أدى التعايش مع هذه الأفكار لوقتٍ طويل إلى نشوء توقعات معينة حول مسار الحياة وضرورة أن تتخذ الأحداث منحىً منطقياً دوماً.

لكن ماذا لو كان الواقع مختلفاً؟ قد يقدم قطاع ميكانيكا الكم مقارنة مفيدة لكن صعبة. عملياً، يتحدى الواقع الفيزيائي أهم مفاهيمنا الفطرية عن الأسباب والمواقع، أي الزمان والمكان. لقد تطورت حواسنا وأفكارنا كي نتمكن من تجنب الحيوانات المفترسة وجمع الطعام ولم نكن نفهم خصائص الفوتونات والجسيمات دون الذرية. ورغم بذل جهود كبرى من جانب كبار علماء الفيزياء والفلاسفة حول العالم على مر أكثر من مئة سنة، لا يزال عالم الكم غريباً وغير مفهوم حتى الآن. تبيّن أن الخيال العلمي يعجز عن اختراع قصص أغرب من الواقع القاسي في هذا الكون. نحن لا نفهم أنه شكل من عدم التطابق البيئي.

قد نواجه مشاكل مشابهة في استيعاب المفاهيم المرتبطة بالأوبئة. وقد لا تكون أدمغتنا مُصمّمة طبيعياً للتعامل مع اضطرابات بهذا الحجم أو مع الطبيعة. حتى اللغات والمفاهيم التي نعرفها تدخل في خانة الأدوات الشائبة، فهي وليدة واقعنا السابق. نحن نعتبر جميع الأحداث الجديدة والقاتمة تاريخية وغير مسبوقة، وكأن الأحداث التاريخية السابقة تؤثر على فيروس يحاول أن ينسخ نفسه بأعلى مستويات ممكنة.

يتّضح هذا الوضع حين نقول إن الأضرار والانهيارات وسرعة تلاحق الأحداث تبدو "غير قابلة للتصديق". إنها عبارة أساسية وتحمل جوانب صائبة وخاطئة في آن. نحن "نتخيل" هذا النوع من الكوارث طوال الوقت في الروايات البائسة والمسلسلات القصيرة التي ندمن عليها، وفي الأفلام الصيفية الناجحة التي تتناول كوارث عالمية. تأخذ هذه الأعمال المألوفة جوانبها الممتعة والمرعبة من المصدر نفسه: تخيّل الأسوأ! نحن ندخل إلى دور عرض مظلمة وباردة في منتصف شهر تموز ونتعرف على عوالم أخرى مبنية على سيناريوات كارثية متنوعة. لكننا نبقى طوال الوقت وراء ستار آمن أو حاجز يفصل بين الأفكار التي نعتبرها ممكنة أو مستحيلة. نحن نشاهد هذه الأفلام وكأننا سيّاح في واقع بديل، فنعرف أن جولتنا ستدوم لساعتين ونصف ثم سنعود إلى منازلنا الآمنة التي تقع في العالم الواقعي الممل. فيروس كورونا الذي نعتبره "جديداً" موجود بشكلٍ معيّن منذ آلاف السنين أو أكثر. لكنه جديد على البشر فقط، وتحديداً فصيلة الإنسان العاقل الذي يعتبر صموده ونجاحه محور قصة هذا الكوكب. لهذه القصة بداية ووسط ونهاية، وهي تشمل بنية واضحة وقواعد محددة وتحمل معنىً مهماً.

في هذا الفصل من القصة، ثمة شخصيات شريرة ظاهرياً: كان عدد من أعضاء إدارة ترامب (بما في ذلك الرئيس شخصياً) والمسؤولين في الدولة متهوراً أو غير كفوء أو قصير النظر أو لا يهتم إلا بمصالحه الخاصة، أو جميع الخيارات الآنف ذكرها. لكن ظهر أبطال في هذه القصة أيضاً: بعض الحكام ورؤساء البلديات، والمستشارين العلميين، وخبراء الرعاية الصحية، وأفراد أثبتوا شجاعتهم وخبرتهم واستعدادهم لأداء واجباتهم والتضحية بأنفسهم في هذه المرحلة الشائكة.

لكن عند التدقيق بالوضع على أرض الواقع، سنفهم أن محاربة الوباء بفعالية تتطلب منا اتخاذ خطوات تتعارض مع غرائزنا الفطرية وحدسنا الاعتيادي والمسائل التي أصبحنا بارعين فيها على مر مراحل التطور البشري. التعاون المبني على التحرك الاستراتيجي والمنسّق وبعيد النظر مطلوب لهزم أي خصم يتكل على تماسكنا الجسدي. يمكننا أن نجد المعنى الذي نبحث عنه من خلال طريقة قتالنا. في المقابل، سيكون الاتكال على أوهامنا القديمة والافتراض القائل إن البشر يفوزون دوماً في النهاية نهجاً خطيراً. تتعلق الحياة بالنسبة إلى البشر والفيروسات معاً بقدرة الحمض النووي على التكاثر، ولا يمكن أن يغيّر أي تفكير سحري أو حملات هجومية أو براعة في الأداء هذه الحقيقة.




فيما نسمع التقارير عن بلوغ حالات الوفاة ذروتها وتسطيح منحنى الإصابات، لا مفر من أن تعلو التساؤلات حول موعد عودة الحياة إلى طبيعتها مع مرور كل يوم جديد. وفي ظل تنامي التهامس والنقاشات حول هذا الموضوع، يجب ألا ننسى أن الوضع قد لا يُعالَج بالشكل الذي يناسبنا أو يناسب اقتصادنا، ولا بالشكل الذي يلائم أنظمة محددة أو أسلوب حياة واحداً. بعبارة أخرى، لن يعود الوضع إلى مساره السليم بالضرورة خلال فترة زمنية منطقية لمجرّد أننا نرغب في ذلك. أي رأي آخر يعني تصديق أفكار خيالية ووهمية والتمسك بعقلية مُحصّنة وغنية بالموارد (لا يتقاسم مليارات البشر هذه العقلية على الأرجح إذا كانوا يعيشون منذ وقت طويل في ظروف متقلّبة، وبالتالي لا يحملون أي أوهام مماثلة).

منذ 500 سنة، غيّر كوبرنيكوس محور الكون وأبعده عن البشر ووجّهه نحو الخارج. ويأتي فيروس "كوفيد - 19" اليوم ليذكّرنا بأن العالم ليس مُلكاً لنا، بل إننا مجرّد جزء منه. نحن لسنا أبطال هذا الفيلم، ولا وجود لأي فيلم أصلاً. بعد انحسار جميع مظاهر المعاناة والدمار، سنستفيد من تغيير طرق تفكيرنا واسترجاع مستوى من التواضع لضمان صمودنا على المدى الطويل.

التواضع أساسي في هذه الظروف لأن ميلنا إلى عدم تصديق هذا النوع من الأحداث الكارثية يعبّر عن حدود مخيلتنا أكثر من الواقع نفسه. حين نقول إن هذا الوباء "لا يُصدَّق"، نعني بذلك أننا لم نتخيل حصوله. لكن مثلما تستطيع المخيلة أن تُضلّلنا، قد تساعدنا المخيلة العلمية والمدنية والأخلاقية على إيجاد طرق جديدة لتدبير شؤوننا، حتى أنها قد تُذكّرنا بأن الجنس البشري يحتاج إلى تحقيق تقدّم هائل بعد. ما زلنا لا نفهم الكثير عن موقعنا في هذا العالم الذي اتخذ في الوقت الراهن منحىً مرعباً ومريعاً. تنتظرنا اكتشافات كبرى إذاً! لقد اتّضحت مدى هشاشة هياكلنا المنظّمة وأفكارنا الخيالية، لكن ظهرت قيمتها أيضاً وفهمنا هذه المرة ضرورة أن نعيد بناء تلك الهياكل ونزيد قوتها خلال الأزمات المقبلة.

* تشارلز يو هو مؤلف أربعة كتب، منها How to Live Safely in a Science Fictional Universe (كيف نعيش بأمان في عالم الخيال العلمي) وInterior Chinatown (الحي الصيني الداخلي).