أعلن الاستشاري المالي للدولة اللبنانية "لازار" أن 83 مليار دولار من الودائع اللبنانية لا وجود لها إلاّ رقمياً وأن أي خطة لإعادة هيكلة ديون الدولة اللبنانية يجب أن تأخذ بالاعتبار إلغاء نحو 60% من الودائع التي تتخطى عتبة المئة الف دولار وهي تشكل نحو 10% فقط من المودعين.
جوبه تقرير "لازار" بالكثير من الانتقادات، هذا ما دفع رئيس الحكومة الى المسارعة الى رفع سقف الـ"Bail-in" الى عتبة الـ500 الف دولار مما ينقذ 98% من المودعين من خسارة جزء من أموالهم. وبالرغم من أن صندوق النقد الدولي قد وافق على تقرير "لازار" كمنطلق لإعادة هيكلة الدين إلاّ أن المسيطرين على المنظومة الشعبية والإعلامية في البلد أكملوا هجومهم الديماغوجي على هذا التقرير وهددوا الحكومة ورئيسها في حال اعتمد هذا التقرير مدعين حرصهم على أموال المودعين. بينما الحقيقة هي أن كل لحظة ضائعة في عدم إقرار تقرير "لازار" والسير في المفاوضات مع الدائنين بإشراف صندوق النقد الدولي تضع جميع المودعين أمام احتمال خسارة نسب أكبر من ودائعهم.
هذا الإنهيار مرشح الى التزايد حيث من المقدر أن سعر صرف الدولار سيصل الى حدود الـ5 آلاف ليرة في غضون الأشهر المقبلة مما يلحق ضرراً جسيماً بصغار المودعين أيضاً وبموظفي القطاعين الخاص والعام الذين يتقاضون رواتبهم بالليرة اللبنانية.
وكأن ذلك لا يكفي ليأتي من يتذاكى على صغار المودعين باستبدال ودائعهم مقابل سعر صرف بحدود 2600 ليرة بينما سعر الصرف في السوق السوداء وصل الى 3300 ليرة. كما ذهب آخرون الى الدعوة الى أن تتحمل الدولة جزءاً من الخسارة عبر إنشاء ما سموه بالصندوق السيادي حيث تصفى فيه أملاك الدولة الخاصة ومرافقها العامة وقد جاء من يقدر قيمة هذه الممتلكات بـ200 مليار دولار!
للتذكير أنه من الخطأ بمكان تصفية أموال الدولة نتيجة إعادة هيكلة ديونها لأنها تشكل عملية سرقة لثروات الأجيال المقبلة. كما أن عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص لها أصولها وشروطها ولا يمكن أن تنطبق على جميع المرافق العامة ولا يجب أن يكون الهدف منها تغطية ديون عامة لأنها قد تتحول بذاتها الى ديون مستترة تتحملها الدولة أو الى ضرائب غير مباشرة يتحملها المواطنون. أضف الى أن الآلية المنصوص عليها في قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص معقدة جداً وتتطلب أكثر من توقيع وزير وفيها أكثر من عشرين مرحلة قبل أن تبدأ شركة الاستثمار بالعمل مما قد يستغرق سنوات في حين أننا بحاجة الى ضخ حوالى 30 مليار دولار في الإقتصاد اللبناني في الثلاث سنوات القادمة.
ويأتي من يدعو الى التمثل باليونان التي أنشأت صندوقاً شبيهاً لهذا الصندوق إلاّ أنه فاتهم أن الحكومة اليسارية - الشعبوية آنذاك برئاسة Alexis Tsipras لم تتمكن من إنشاء ذلك الصندوق إلاّ تحت إشراف الاتحاد الأوروبي فمن سيشرف على هذا الصندوق في لبنان كي نتجنب الإستيلاء على أمواله من نفس الطبقة المصرفية-السياسية الحاكمة منذ عقود؟ وكانت اليونان قد توقعت أن تحصل على 50 مليار دولار جراء بيع أصول الدولة بحدود 2 الى 3 مليار دولار سنوياً إلاّ أنه منذ عام 2011 لم تتمكن الحكومة اليونانية من بيع أكثر من 500 مليون دولار سنوياً ما يعني أنها بحاجة الى مئة عام لتبيع ممتلكات تصل قيمتها الى 50 مليار دولار. فهل لبنان سينجح حيث فشلت اليونان لا سيما في ظل أزمة اقتصادية عالمية مرتقبة لم نشهد مثيلها منذ العام 1929؟ إلا إذا كان من يدعو الى بيع ممتلكات الدولة بنيته الاستيلاء عليها بأبخس الأثمان بعدما نهب الخزينة على مدى عقود؟
أنا بالطبع ضد أن يدفع المودعون "الأبرياء" ثمن فشل وفساد من كان يدير دفة السياسة والاقتصاد منذ نهاية الحرب اللبنانية. كما أني من المدافعين عن قدسية الدستور اللبناني الذي اعتمد الاقتصاد الحر نهجاً وحافظ على الملكية الفردية. إلاّ أنه، وكما بات معلوماً هناك 83 مليار دولار أميركي قد تبخرت من إجمالي الودائع وعلينا شطبها من مجموع الدين العام. لذا لا يجب أن يغيب عن ذهن أحد أن المسؤول الأول عن هذه الأزمة هو من كان يدير دفة البلاد والأحزاب والشخصيات التي تحكمت بالسلطة وشاركت في عمليات نهب الدولة أو أدارت ظهرها على أقل تقدير لتلك السرقات. وحده الرأي العام قادر على معاقبة هؤلاء عبر عدم انتخاب أحزابهم أو الانتماء اليها ما دامت هذه الأحزاب لم تطلق بعد عملية إصلاحية ذاتية شفافة وفكت ارتباطها بأي تمويل خارجي مشبوه ومضر بالمصلحة اللبنانية. في المقابل، وحده القضاء المستقل قادر على معاقبة الفاسدين الذين استولوا على مقدرات الدولة وشرعوا استباحتها ودفعوها الى الاستدانة والهدر من دون حسيب أو رقيب. قرارات شجاعة وجذرية
هذا القضاء يجب أن يعمل على استرداد الأموال المنهوبة عبر تجزئة أموال المودعين لمعرفة أي جزء منها قد تم الحصول عليه بطريقة مشروعة وبالتالي الحفاظ عليه وعدم تحميله فاتورة الفاسدين، وأي جزء من هذه الودائع هو غير مشروع لكي تشمله عملية الـ"Bail-in" في حال ثبتت عدم شرعيته. هذا يتطلب اتخاذ قرارات شجاعة وجذرية لتتم دراسة ملفات كبار المودعين الذين يمثلون 2% من إجمالي عدد المودعين عبر انكباب كافة الجسم القضائي عليها بمؤازرة هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان التي يوضع بتصرفها المئات من موظفي المصارف لفرز هذه الملفات وتجميعها ودراسة مصادر هذه الودائع مع الحفاظ على سرية أصحابها وفرزها على الفئات التالية:
1 - أموال المودعين الأجانب والعرب وشطب ما تعود مصادره لأموال مشمولة بالعقوبات الدولية أو بمنظومة تبييض الأموال.
2 - أموال المغتربين اللبنانيين في دول أفريقيا والخليج والدول الغربية ومعرفة أي منها لم تحوّل تهرباً من دفع الضرائب وذلك عبر مراسلة الدول التي يقيمون بالاستناد الى الاتفاقات الدولية التي تجيز لنا تبادل المعلومات الضريبية. وحدها الأموال التي يتبين أنها حولت بطريقة مشروعة وفقاً لقوانين الدول التي يقيم فيها أولئك المغتربون تعفى من عمليات الـ"Bail-in". يمكن الاتفاق مع هؤلاء المودعين لشطب قسم من أموالهم قبل تبادل المعلومات مع الدول التي يقيمون فيها.
3 - أموال السياسيين والموظفين والأشخاص الذين حصلوا على مشاريع من الدولة اللبنانية تفوق مبالغ معينة والتدقيق بمصادرها وشطب كل الأموال التي لا مبرر لمصادرها.
4 - أموال الشركات ومالكيها ومعرفة مدى احترامهم للقوانين الضريبية وشطب ما يعادل قيمة التهرب الضريبي في حال ثبوته.
5 - الودائع المجمدة وشطب نسب الفوائد الفاحشة التي استفاد منها أصحاب هذه الودائع طوال الفترة الزمنية الأخيرة أقله منذ العام 2016.
6 - شطب ودائع الأحزاب التي يكون مصدرها من جهات خارجية.
7 - عدم المس بأموال صناديق التعاضد والتقاعد وأموال الأوقاف.
8 - شطب أصول المصارف بالنسب التي شاركت فيها في شراء سندات الخزينة واليوروبوند.
في نهاية هذه العملية الحسابية سيتبين لنا أن نسبة لا يستهان بها من مجموع مبلغ الـ83 مليار دولار المطلوب شطبها، تعود الى ودائع مصادر أموالها غير مشروعة وتجوز بذلك عملية شطبها للأسباب المبينة أعلاه. ونكون بذلك قد أنقذنا أموال المودعين المشروعة حتى ولو فاقت عتبة الـ500 الف دولار ولهؤلاء وحدهم يحق التعويض عنهم من خلال إعطائهم أسهماً في المصارف التي يعاد هيكلتها وزيادة رأسمالها ويكون لتلك الأسهم قيمة حقيقية وفعلية معادلة للجزء المطروح من ودائعهم.
أما إذا استسلمت الحكومة لضغط المافيا المصرفية - السياسية وسمحت ببيع ممتلكاتها بأبخس الأثمان ومن دون رقيب لنفس الأشخاص الذين تسببوا بإفلاسها ونهبها فعندها على الدولة اللبنانية والاقتصاد الحر السلام وترقبوا اضطرابات طائفية واجتماعية وأمنية لا يمكن السيطرة عليها وسيدخل لبنان منظومة الدول الفقيرة وسيتخطى الدولار عتبة الـ10 آلاف ليرة ولن يعود للرواتب، خاصة رواتب الموظفين والعسكريين، أي قيمة!
يبقى أن الحل ما زال ممكناً، فبإمكان الدولة اللبنانية أن تنقذ ما تبقى من هيبتها ومصيرها باعتماد جزء كبير من تقرير "لازار" بعد تعديله وتطويره بناء على داتا معلومات شاملة وصحيحة، وبقبول اللجوء الى صندوق النقد الدولي وإجراء الإصلاحات البنيوية الضرورية للإدارة اللبنانية ومكافحة جميع الفاسدين من دون تمييز ومهما علا شأنهم. علّنا بذلك نقتنص الفرصة لبناء اقتصاد حقيقي قائم على الانتاجية والعمل، بعد إقرار منظومة من القوانين لمكافحة الفساد وتبييض الأموال وعلى رأسها إلغاء السرية المصرفية.
قبل أن نطلب من اللبنانيين المزيد من التضحيات على الدولة بسلطاتها الثلاث ابتكار الحلول العادلة والتحلي بشجاعة وتجرد في تطبيقها. أما الاستمرار في اعتماد نهج الشعبوية والدجل والجبن والارتهان فلن يؤدي إلا الى انهيار الدولة وإفقار اللبنانيين وهذا ما لا يجب أن نسمح به!