نيكول بلوز بايكر وإيلي طوني الياس

التحرير للإصلاح

27 نيسان 2020

03 : 40

عندما نتكلم في الاقتصاد والمال نتكلم في العلم، فكيف اذا كان موضوع اقتصاد لبنان وماليته مرتبطاً بمفهوم السيادة؟

من احدث النظريات الاقتصادية في العالم تلك التي تربط بين الامن القومي والازدهار الاقتصادي وتشدّد على ان اهم مقومات الاقتصاد الحر المتطور هي سيادة وطنية مصانة وانتظام عام لمؤسسات الدولة والحوكمة الفاعلة، علماً ان كل التحليلات المطروحة اليوم في لبنان لم تتطرق الى جوهر المشكلة الحقيقية وراء التدهور الاقتصادي الا وهي المعادلة التي أخضعت لبنان لاكثر من 30 عاماً: النهب مقابل الاستقرار. بالعودة الى الطروحات والتحاليل المعطوفة على ورقة الحكومة الاقتصادية، يهمنا توضيح التالي ولسنا هنا في وارد الدفاع عن مصرف لبنان أو عن المصارف اللبنانية فالإقتصاد علم وفلسفة في تطور دائم. رغم الاقتناع بمبدأ الفصل بين السياسة المالية والسياسة النقدية والتأكيد على مفهوم استقلالية المصرف المركزي منذ الثمانينات، برهنت الأحداث والدراسات لا سيما بعد التدهور المالي العالمي عام 2008 (crise financière)، وبعد ما حصل في اليونان عندما اضطر المصرف المركزي الأوروبي الى كسر القاعدة النقدية التي يلتزم بها، برهنت الاحداث أن التعاون بين الحكومة والمصرف المركزي مطلوب بخاصة عندما يتخطى الدّين العام حدود عدم القدرة على سداده (soutenabilité de la dette). هذا التعاون لا يناقض مفهوم استقلالية المصرف المركزي الملحوظ في المادة 91 من قانون النقد والتسليف في لبنان. انعدام الثقة في دولة تراكم فيها العجز وتخطى الدين العام الـ150 بالمئة من الناتج المحلي نتيجة اللااستقرار السياسي والامني منذ 1975، وتدهور كل المؤسسات الخدماتية للدولة بسبب الزبائنية والتوظيف العشوائي وانتفاخ عدد العاملين في القطاع العام والتهرب الضريبي والجمركي والهدر في قطاع الكهرباء و...الخ لا يسمح لها بالإستدانة من الأسواق المالية الخارجية، فلا طلب على سندات خزينة لا يأمل الشاري بقدرتها على التعافي. الحل جاء دائماً موقتاً بالإستدانة من المصرف المركزي أو المصارف التجارية اللبنانية، الى أن يجد المسؤولون في الحكومة حلّاً لتخفيض العجز.

ولكن ضخ السيولة من قبل المركزي مرّة تلو الأخرى لسد العجز، رافقه تضخم نجم عنه تزايد الطلب على العملة الصعبة للحفاظ على القدرة الشرائية مما ورّط المصرف المركزي بمشكلة ثانية تتعلق بقدرته على المحافظة على قيمة الليرة اللبنانية في ظل سعر صرف ثابت. الطلب المتزايد على الدولار من جهة، ومحاولة محافظة البنك المركزي على سعر صرف ثابت من جهة أخرى، نتج عنه انخفاض احتياطي الدولار عند مصرف لبنان، ما أدى بالتالي الى نقصه في الأسواق ما ادخل النظام في دائرة مفرغة ادت الى ازدياد الطلب مجدداً على الدولار والوقوع في دوامة لا خلاص منها الّا بإصلاحات مالية جدية وجذرية، خصوصاً أن تراكم الدين ناجم عن الفساد والهدر في الإدارات الرسمية الذي تغطيه قوى أمر الواقع والسلطة المتحكّمة. مصرف لبنان هو "المقرض الأخير" (le prêteur en dernier recours) لتأمين الأجور في القطاع العام ومستلزمات أساسية. ولكن خطأه يكمن في طمأنة اللبنانيين جزافاً بشكل متكرر من جهة وانعدام الشفافية من جهة اخرى، ما أدى الى انعدام ثقة المودعين والمواطنين بالمصرف المركزي.

ومن جهة أخرى ادى انقطاع الدولار من الأسواق الى خسارة الثقة بالمصارف لا سيما بعد الـ Capital Control العشوائي الذي لم يعتمد معايير موحدة، علماً أنه يمكن استخدامه وطرحه في ظروف معينة، إضافة الى تهريب الاموال "بالواسطة".

وتجدر الإشارة على سبيل المثال انه في حال قرر المصرف المركزي تخفيض الفوائد وضخ السيولة في الأسواق لتحفيز الإستثمار، يتقلص الفارق بين الفائدة على الدولار والفائدة على الليرة اللبنانية ويزداد الطلب على الدولار. فيضطر المصرف المركزي الى عرض الدولار وشراء الليرة اللبنانية للحفاظ على سعر الصرف، أي ان السيولة التي ضُخت لتحفيز الاستثمار يعود سحبها من الاسواق. من هنا يقال، إن السياسة النقدية عندما يكون سعر الصرف ثابتاً لا معنى لها. ولكن هذا غير صحيح فالثقة بالاقتصاد تلعب دورها، اذ ان تأثير انخفاض الفائدة على الاستثمار قد يكون أعلى من تأثيره على طلب الدولار.

وبالتالي لكي ينجح تخفيض الفائدة في تحفيز الاستثمار، يمكن أيضاً التخفيف من طلب الدولار باستخدام capital control المباشر على معاملات المضاربة مع استثناء معاملات المودعين الاضطرارية والمعاملات المتعلقة بالقطاع الصحّي والصناعي وغيرها، أو غير المباشر المتعلق بزيادة العمولات والرسوم على التحويلات. ان سياسات القطاع المصرفي النقدية هي نتيجة تجاهل الإصلاحات المطلوبة لمعالجة العجز من قبل السلطات المالية المؤتمِرة من طبقة سياسية أمعنت في الفساد والهدر وساومت على السيادة اللبنانية تارة مع السلاح الفلسطيني وتارة مع الاحتلال السوري واخيراً مع الاحتلال الايراني. لذا فان معالجة الأزمة الاقتصادية تتطلب حلاً سياسياً يقضي بالتخلص من الطبقة السياسية - الامنية الحاكمة.