صناعة الأحذية في بنت جبيل نحو الإنقراض

من 300 مصنع إلى اثنين

تلفظ مصانع الأحذية في مدينة بنت جبيل أنفاسها الأخيرة، تعمل باللحم الحيّ، تحاول الصمود رغم التحديات. فكلفة التصنيع ارتفعت والإنتاج تراجع 80%، كل وعود وزراء الصناعة ذهبت أدراج الرياح. ليس مستغرباً أن تدخل صناعة الأحذية وغيرها من الصناعات المحلية الخفيفة غرفة الإنعاش. «كافأتها» الدولة برفع الرسوم الجمركية على المواد الأولية. انخفض عدد المصانع في بنت جبيل من 300 إلى مصنعين فقط! ومن يريد مواصلة الكفاح، يسعى للحفاظ على إرث الأجداد، فالمهنة متوارثة أباً عن جدّ، وتقتصر اليوم على الرعيل القديم، فيما الشباب لم يتحمّسوا لها.

بدأ وسام الحوراني عمله مع والده في مهنة صناعة الأحذية عام 1969 حين كانت المهنة في عزّها، تستخدم فيها الجلود الطبيعة المستوردة من الخارج، فيصنع منها الحرفيون أجود الأحذية التي تضاهي الأحذية الإيطالية. حتى ما قبل 2014، كانت هذه الصناعة مزدهرة، والطلب عليها كبير، إلى أن عصفت الأزمة الاقتصادية وبدأت تنحسر.

يقول رئيس نقابة عمال الأحذية والجلود في الجنوب خضر سرحان «الحرفة تحتضر»، مضيفاً أنّه «في كلّ دول العالم، تُفرض الضرائب على البضائع المستوردة وتعفى المواد الصناعية من الجمرك إلا في لبنان». ويشير إلى أنّ «صناعة الأحذية كانت من أهمّ الصناعات في لبنان، وجودتها تضاهي الجودة العالمية، إذ كان لبنان يحتلّ المرتبة الثانية بعد إيطاليا، أمّا اليوم فأصبح في الدرك الأخير».

في معمل الحوراني، يعمل حوالى تسعة عمّال في عمر الخمسين وما فوق بحرفية تامة، إذ تدخل صناعة الحذاء في مراحل عدّة، من التصميم إلى التنفيذ، مروراً بمعلّم «كندرجي» لتجميعها، ثمّ إلى «معلّم النعل»، وأخيراً الصبغة والألوان وغيرها، مراحل خبرها عمال المعمل عن ظهر قلب.

يجلس المعلم نادر بزي خلف طاولته، يُفصّل الحذاء، اعتاد هذا العمل منذ ثلاثين عاماً. لم يتخلّ عن حرفتة في أصعب الظروف، يرى في عمله «الفنّ اللامتناهي»، لأنّ صناعة الأحذية تعتمد على الفنّ والذوق، وتُسند إلى «الكندرجي» إخراج الحذاء بشكله النهائي.

إلى جانب مهنتهم، يعمل نادر وزملاؤه في مجال آخر لتحقيق متطلبات حياتهم، «بشقّ الأنفس» يواصلون صناعة الأحذية، يعملون على الطلبية، ما قلّص العمل من أسبوع إلى أربعة أيام.

تتعرض الصناعة التي يفترض أن تُشكّل العمود الفقري للإنتاج الوطني، منافسة شرسة. يُحاول الحوراني الصمود، يُقسّم يومياته بين التصنيع، والبحث عن أسواق لتصريف الإنتاج. في السابق كان يُسلّم نتاج معمله لسوق الجملة، كانت الأرباح وافرة. فيما اليوم يضطرّ إلى توزيعها بالمفرّق متنقّلاً بين سوق وأخرى.

«المنافسة ضربت الصناعة المحلية»، تكفي كلمته لتوصيف واقع الصناعة، مؤكّداً أنّ «الإنتاج تراجع والطلب أيضاً، فكلفة البضائع باهظة الثمن، الرسوم الجمركية قضت على الصناعة». تقلّص إنتاج الحوراني الشهري من 300 «سيري» إلى 70، وكل «سيري» عبارة عن 12 جوز أحذية، أي 70%. لم يقتصر التراجع على الكمية، بل شمل النوعية. بعدما كانت تضاهي المنتوجات العالمية، أصبحت اليوم شعبية، والسبب حسب حوراني أنّ «الناس تبحث عن السلع الرخيصة، وفي ظلّ المنافسة مع البضائع الصينية نضطرّ لمجاراتها». ويلفت إلى أن «تطوير الصّناعة توقّف منذ زمن لأنها تحتاج إلى أموال غير متوافرة».

ولا يخفي خضر سرحان أنّ «هذه الصناعة تنازع، جراء وضع رسوم جمركية على المواد الأولية الصناعية المستوردة»، مضيفاً أنّ «الدولة بدل حماية صناعتها تحمي السلع الخارجية المستوردة». وهو الذي دفعته الأزمة إلى التخلّي عن مصنعه، يشدّد على «أن دعم الصناعة اليوم يعني النهوض الإقتصادي وإلّا سيطال الإنهيار كلّ شيء».