ياسمين غلسينان

الغرب... هل يستطيع  التخلّي عن الصين فعلاً؟

29 نيسان 2020

05 : 15

كانت دعوة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى "محاسبة الصين" جزءاً من حملة جمع التبرعات للانتخابات. وتعهد وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب بطرح "أسئلة صعبة" عن الأزمة القائمة وهدّد بإنهاء الأعمال مع بكين كما يحصل دوماً. أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فدعت الصين إلى الإفصاح بكل شفافية عن طريقة تعاملها مع انتشار الوباء. وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من جهته أن مقارنة طريقة تعامل الصين مع الأزمة بمقاربات الديموقراطيات الغربية نهج "ساذج"، ثم أكد على حصول "مسائل لا نعرف شيئاً عنها". إنها إشارة واضحة إلى الشكوك الدولية المتنامية بمزاعم بكين التي تدّعي أنها نجحت في احتواء الفيروس.

قد يكون الاستياء الغربي من أداء الصين في تعاملها مع فيروس كورونا كلامياً وغير ملموس بعد، لكنه ينذر بعدد من التغيرات على المدى الطويل، مع أن البلدان تبدو قلقة من مجرّد معاداة بكين بالكلام.

على غرار الولايات المتحدة، تتكل فرنسا بشدة على سلاسل الإمدادات الصينية، ولا تقتصر حاجتها إلى الصين على المعدات الطبية اللازمة للتكيف مع فيروس كورونا راهناً، بل تلجأ إليها أيضاً في مجالات الأدوية وصناعة السيارات. أعلن ماكرون حديثاً أن فرنسا ستبذل قصارى جهدها لترسيخ استقلاليتها الصناعية الكاملة من خلال تعزيز إنتاجها الخاص لأقنعة الوجه وأجهزة التنفس، لكن من المستبعد أن تجد حلاً سريعاً وغير مكلف (تعهد الرئيس بتحقيق هذا الهدف بحلول نهاية السنة). بسبب هذه الأزمة، يقول فيليب لو كور، باحث مرموق في برامج أوروبا وآسيا في "مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي"، إن "الشركات الفرنسية ستتعرض لضغوط هائلة كي تسترجع جزءاً من إنتاجاتها من بلدان أخرى، وتبدو الصين أوضح خيار في هذا المجال". يبدو أن جزءاً من تلك الشركات بدأ منذ الآن يتجاوب مع إعلان ماكرون. أعلنت شركة الأدوية الفرنسية "سانوفي" في الشهر الماضي عن إطلاق شركة جديدة، مقرها أوروبا، لتخفيف اتكالها على تصنيع الأدوية في الصين والهند اللتين تصنّعان معظم المكونات الدوائية الناشطة في العالم.

في بريطانيا، يبدو كلام راب حول التخلي عن الأعمال المشتركة مع الصين مشبوهاً. على غرار بلدان أخرى، لجأت بريطانيا إلى الصين للحصول على مواد حيوية لإنقاذ حياة الناس، مثل حزم الاختبارات وأجهزة التنفس. تكلم رئيس الحكومة بوريس جونسون مع نظيره الصيني شي جين بينغ حول معركة البلدَين المشتركة لاحتواء الوباء في أواخر شباط الماضي، قبل شهر فقط من إصابة جونسون بالفيروس.

صحيح أن بكين لا تُعتبر من أهم الشركاء التجاريين لبريطانيا، لكن من المستبعد أن يحاول البريطانيون التخلي عن هذه الروابط في المجالات المشتركة بين البلدين، مثل التكنولوجيا والقطاع المالي. يقول كيري براون، دبلوماسي بريطاني سابق في بكين ومدير "معهد لاو الصيني" في جامعة "كينغز كوليدج لندن": "فيما يواجه الاقتصاد البريطاني هذه الضربة الموجعة، يريد البلد أن يبذل قصارى جهده للحفاظ على نمو مقبول أو أي معدل من النمو في مجالات معينة".

كان تنامي الاتكال على الصين سبباً لزيادة الاستياء في بريطانيا، حتى قبل ظهور فيروس كورونا. في وقتٍ سابق من هذه السنة، منح جونسون الإذن لشركة الاتصالات الصينية العملاقة "هواوي" لبناء جزء من شبكة الجيل الخامس في بريطانيا، رغم المخاوف المرتبطة بوجود مخاطر استخبارية محتملة وزيادة اتكال بريطانيا على الصين في القطاع التكنولوجي. ثم ظهر الوباء ليؤجج هذا الجدل مجدداً، فدعا عدد من كبار المشرّعين الحكومة إلى إعادة النظر بموقفها.

صحيح أن بكين لا تُعتبر من أهم أربعة شركاء تجاريين لبريطانيا، لكنها حليفة اقتصادية أساسية لها، وقد "زادت أهميتها في السنوات القليلة الماضية" بحسب قول سايمون ماكدونالد، رئيس الخدمات الديبلوماسية البريطانية، أمام المشرّعين هذا الأسبوع.

تبرز أيضاً مشكلة خطة "بريكست"، إذ من المنتظر أن يسري مفعولها بحلول نهاية السنة. تعليقاً على الموضوع، يقول براون: "ستبدأ بريطانيا البحث عن فرص اقتصادية جديدة وضخمة خارج إطار شراكاتها التقليدية في أوروبا. وسيكون غريباً ألا يصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم جزءاً من هذه الخطط".

سبق وابتكرت مجموعة بلدان طرقاً للابتعاد عن الصين عبر تشديد القواعد بشأن الاستثمارات الخارجية. تظن الحكومات في الهند وألمانيا وأستراليا أنها تستطيع بهذه الطريقة تقوية قدراتها المحلية على إنتاج مواد أساسية من دون أن تخشى شراءها من جانب مستثمرين أجانب. لم تستهدف هذه الضوابط الجديدة الصين صراحةً، لكن أعلن متحدث باسم السفارة الصينية في نيودلهي في بيانٍ له أن "أثر هذه السياسة على المستثمرين الصينيين واضح".





لكن تشكّل الولايــات المتحدة خير مثال على صعوبة تنفيذ هذا النوع من الجهود.

وصل ترامب إلى سدة الرئاسة وهو ينوي قطع جزء من أعمق العلاقات التجارية الأميركية مع الصين، فراح يلومها على خسارة الوظائف الأميركية في قطاع التصنيع لصالح اليد العاملة الرخيصة في الخارج. لكن رغم بدء الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين منذ سنتين وفرض رسوم جمركية متبادلة بقيمة مليارات الدولارات على السلع، أوضح فيروس كورونا المستجد مدى تداخل الاقتصادَين وصعوبة فصلهما. نقل البيت الأبيض عن طريق الجو أطناناً من الإمدادات الطبية من الصين مع أنه يتعهد بمحاسـبة المسـؤولين عما يحصل في الوقت نفسه. وحتى ترامب شخصياً يجد صعوبة في التخلي عن الصين نهائياً.

في مرحلة معينة من السنة الماضية، ذهب إلى حد مطالبة الشركات الأميركية، في إحدى تغريداته على تويتر، بإيجاد بدائل عن العمل في الصين. هو لا يستطيع إجبار الشركات على الرضوخ لهذا المطلب، لكن حاول بعضها أصلاً تنفيذ هذه الخطة قبل موقف ترامب.

في الكونغرس الأميركي، وجد الجمهوريون المعادون للصين فرصة استثنائية لإثبات رأيهم واعتبار بكين جهة لا يمكن الوثوق بها، ما يعني ضرورة أن تنتج الولايات المتحدة أعداداً أكبر بكثير من إمداداتها الطبية الخاصة كجزءٍ من خطط أمنها القومي. عبّر الديموقراطيون بدورهم عن قلقهم من اتكال الولايات المتحدة المفرط على الصين لتلقي الإمدادات الطبية منذ الخريف الماضي. ويحاول المشرّعون من الحزبَين اليوم طرح اقتراحات لتشجيع الشركات الأميركية على تصنيع كميات إضافية من الإمدادات الطبية. لكن رغم هذه المبادرات كلها، قد يحتاج أي نوع من التحول الحقيقي في العلاقة الثنائية إلى سنوات طويلة، ومن الواضح أن الوباء يتقدم بوتيرة أسرع بكثير من إيقاع إعادة بناء صناعات كاملة. في هذا السياق، ذكر السيناتور توم كوتون في افتتاحية صحفية مع النائب الجمهوري مايك غالاغير: "بعد سنوات قليلة على منح الولايات المتحدة امتيازات تجارية خاصة للصين في العام 2000، أقفل آخر مصنع للبنسلين في الولايات المتحدة أبوابه. ثم أقفلت المصانع الأميركية التي تُصنّع الأسبرين والفيتامين C وأدوية أساسية أخرى نتيجة سياسة التسعير الافتراسي التي تتبعها الصين".

هذا الوضع أضعف موقف الولايات المتحدة حين أمرت الحكومة الصينية شركات تصنيع المعدات الطبية في شباط الماضي بحصر الإنتاج بالاستعمال المحلي في خضم مساعيها لاحتواء الوباء داخلياً. وفق معطيات "خدمة أبحاث الكونغرس"، "قد تسمح الحكومة الصينية بتسليم جزء من الإمدادات الطبية إلى الخارج بطريقة انتقائية، بعد تجاوز ذروة انتشار فيروس "كوفيد - 19" على ما يبدو، فتختار بنفسها البلدان التي ترسل إليها المواد بناءً على حساباتها السياسية".

تتعلق مجازفة كبيرة أخرى باحتمال أن تحوّل الصين الأدوية التي تحتاج إليها البلدان الأخرى إلى أسلحة فعلية. قدّمت روزماري غيبسون، التي أصدرت كتاباً عن اتكال الولايات المتحدة على الصين في القطاع الطبي، شهادتها أمام لجنة المراجعة الاقتصادية والأمنية بين الولايات المتحدة والصين في الصيف الماضي، فقالت: "قد تتحول الأدوية إلى ملوثات قاتلة أو تُباع من دون أدوية حقيقية فيها، ما يجعلها غير فاعلة. يمكن توزيع هذه المنتجات على دول مستهدفة".

سبق ولاحظ عدد من البلدان وجود عيوب في المنتجات: دفعت التقارير المرتبطة بالمعدات الطبية الشائبة التي تم استيرادها من الصين بالحكومات في إسبانيا وتركيا وهولندا إلى رفض المعدات الصينية. استقدمت بريطانيا من جهتها ملايين الحزم لاختبار فيروس كورونا من شركتَين صينيتَين وأنفقت عليها 20 مليون دولار قبل أن تكتشف أنها غير نافعة.

لا تقتصر المشكلة على الصين وحدها، لكنّ الصين استفادت من ارتفاع الطلب في الولايات المتحدة ومن بنية قطاعها الصناعي. يؤدي ارتفاع الطلب المفاجئ على الإمدادات الطبية، كما يحصل في الوقت الراهن، إلى نقص في المعدات بغض النظر عن مكان إنتاجها. يقول ديفيد سيمشي ليفي، أستاذ في معهد "ماساتشوستس" للتكنولوجيا وباحث في مجال سلاسل الإمدادات: "يخطئ من يحصر تركيزه بالصين دون سواها"! تتعلق المشكلة المحورية بإصرار الصناعات على تخفيض التكاليف وغياب فرص تدعيم النظام القائم للتعامل مع هذا النوع من الأزمات. تكلّف الاستثمارات في سلاسل الإمدادات المرنة أموالاً طائلة من دون حصد منافع فورية، ولا تقع أي أزمات فعلية في معظم الأوقات. في مطلق الأحوال، يحتفظ المصنّعون بسلع أعلى كلفة على المدى القصير ويقرر المستهلكون في نهاية المطاف مدى استعدادهم لدفع ثمنها.


MISS 3