لا يشمل كتاب Last Witnesses:Oral History of Children of WWII (آخر الشهود: تاريخ شفهي عن الأولاد في الحرب العالمية الثانية) أي مقدمة أو تمهيد أو خاتمة. بل يبدأ باقتباسَين قصيرَين، ثم يكتفي بعرض الذكريات، بدءاً من تجربة رجل روسي حين كان في السادسة من عمره وذهب والده إلى الحرب. يقول تشينيا بلكيفيتش: "كنت صغيراً جداً، لكني أتذكر كل شيء. الحرب تعني غياب الأب".
لا مفر من أن تؤثر بنا هذه القصص الحقيقية التي تبدأ بنبرة خفيفة نسبياً وتُركّز على غياب الأهل واحتراق البلدات والنزوح، لكن سرعان ما تتخذ منحىً مرعباً وتصبح في نهاية المطاف غير مقبولة بأي شكل.
بَنَت سفيتلانا أليكسيفيتش، الصحافية الوحيدة التي فازت بجائزة نوبل في الأدب، مسيرة مهنية مبهرة، فجمعت قصصاً شفهية ونقّحتها بكل براعة لتقديمها للروس العاديين. في كتبها السابقة، سردت قصصاً عن نساء خلال الحرب العالمية الثانية، وناجين من كارثة "تشيرنوبيل"، وفتيان أُجبروا على القتال في أفغانستان.
لكنّ كتابها الأخير Last Witnesses مُدمّر بكل معنى الكلمة! يتّسم هذا العمل بلغة بسيطة وفصول قصيرة، لكنّ قراءته معاناة حقيقية!
يتذكر إفيم فريدلاند الذي كان في التاسعة من عمره في العام 1941: "طفولتي انتهت... مع سماع طلقات الرصاص الأولى".
لا تتعلق هذه الذكريات بأسوأ معارك الحرب أو بحصار "لينينغراد" المريع، بل إنها قصص يومية من مختلف البلدات الروسية.
يتذكر فاليا يوركيفيتش حين كان في السابعة من عمره أن الألمان قَلَبوا مركباً فيه عائلة هاربة: "غرق الراشدون فوراً، لكن عاد الأولاد إلى سطح الماء بشكل متكرر. فضربهم الفاشيون بالمجاذيف وراحوا يضحكون. كانوا يضربونهم فيصعدون في مكان آخر. فيلحقونهم ويضربونهم مجدداً".
تتذكر فيرا زدان (كان عمرها 14 عاماً حينها) أنها سيقت إلى الغابة تحت تهديد السلاح مع عائلتها. أُجبِر والدها وشقيقها على حفر حفرة هناك ثم تعرّضا لإطلاق النار. بعد بضعة أيام، غداة هطول أمطار غزيرة، امتلأت الحفرة بالماء وأُعيدت فيرا ووالدتها إلى حيث عامت جثتا المغدورَين وطُلِب منهما حفر قبرهما. قال الجنود: "من يبكي سيموت. ابتسما"!
يتذكر البعض أحداثاً وحشية مريعة، كما حصل حين تجول الجنود الألمان في إحدى القرى وراحوا يطلقون النار على أي كلب ينبح.
عدّلت أليكسيفيتش المقابلات كثيراً، إذ يقتصر بعضها على أقل من صفحة ولا تتجاوز أطول مقابلة عتبة الصفحتَين. أعطاها هذا التنقيح زخماً قوياً: "وجدنا جدتنا مقتولة في شقتها... دفنّاها بأنفسنا... جدتنا المرحة والحكيمة التي كانت تحب الموسيقى الألمانية والأدب الألماني"!
أقامت طفلة في السادسة من عمرها محادثة ظريفة مع جندي ألماني. تتذكر أنه كان يضحك... لكنه عاد وأطلق النار عليها تسع مرات ورماها في حفرة: "استيقظتُ على صوت بكاء أمي. لم أكن أتمتع بالقوة الكافية لمناداتها، فاكتفيتُ بالنظر إليها".
بعد مرور عقود على تلك الأحداث، من المؤلم أن يسترجع هؤلاء الأشخاص الذكريات. تقول امرأة كانت في الثانية عشرة من عمرها حين بدأت الحرب: "لا أستطيع سرد كل شيء في أمسية واحدة... قلبي لن يتحمّل"!
إنها قصص عن الحرب... لا علاقة لها بالألمان والروس، بل بالبشر خلال الحرب! لا يمكن أن يقرأ أحد هذا الكتاب من دون أن يفكر بالأعمال الوحشية التي حصلت في تلك الفترة نفسها في ألمانيا وبولندا، وبأحداث اليوم.
لم تقرر أليكسيفيتش أن يخلو الكتاب من مقدمة سهواً، بل كان قرارها عبقرياً! لم يحصل هؤلاء الأطفال على أي تحذير مسبق، ولم يكن مسار الحرب يعني لهم شيئاً، بل انحصر اهتمامهم بالأحداث التي أصابتهم.
نُشِر كتاب Last Witnesses للمرة الأولى في روسيا في العام 1985. رحل معظم رواة هذه القصص الآن على الأرجح، لكنّ أصواتهم خالدة ولن تكفّ عن مطاردتنا...
* Last Witnesses (آخر الشهود) لسفيتلانا أليكسيفيتش ترجمه من اللغة الروسية ريتشارد بيفير ولاريسا فولوخونسكي. صدر عن دار نشر "راندوم هاوس".