كينيث م. بولاك

تغيير جذري في استراتيجية إيران الكبرى

28 آب 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي خلال الدورة السابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك | 21 أيلول 2022

منذ اندلاع الثورة في العام 1979، حاول قادة إيران السيطرة على الشرق الأوسط وطرد الولايات المتحدة وإسرائيل من المنطقة. على مرّ هذه الفترة، اتّكلت طهران بشكلٍ أساسي على الأساليب العدائية، فسعت إلى إضعاف الدول العربية عن طريق الابتزاز أو حركات التمرّد مقابل إطلاق حملة إرهابية متواصلة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل.

لم تتغير تلك الأهداف، لكن يبدو أن الإيرانيين غيّروا استراتيجيتهم الكبرى بطريقة جذرية. لا يمكن التأكيد على ما يحصل لأن صناعة القرار في إيران تبقى عملية غامضة، لكن اكتشفت إيران فجأةً على ما يبدو أن المكافآت قد تكون أداة مفيدة أيضاً في مجال السياسة الخارجية. تعمد طهران راهناً إلى تقديم حوافز إيجابية في كل مكان، فتدعو الجميع إلى التعاون وتتخلى عن معظم تكتيكاتها العدائية. نتيجةً لذلك، يجب أن تُحدد الولايات المتحدة الآن أفضل طريقة لتعديل سياستها بما يتماشى مع هذا التغيير.

تتعدّد الأمثلة التي تؤكد على التحوّل الحاصل في استراتيجية إيران، فقد عقدت اتفاقاً مع المملكة العربية السعودية، بوساطة من الصين، حيث تحصد الرياض المنافع أكثر من طهران. نتيجةً لذلك، استأنفت الدولتان علاقاتهما الدبلوماسية بعد مقاطعة دامت لعقد من الزمن. حتى أنهما تتطرقان إلى أهمية التعاون لمنع تفاقم الحرب الأهلية في السودان.

كذلك، استأنف الإيرانيون علاقاتهم الدبلوماسية مع الإمارات العربية المتحدة، وتسعى طهران إلى التعاون مع أبو ظبي في مجال النقل الجوي ومشاريع البنية التحتية أيضاً. ذهبت الإمارات إلى حدّ الانسحاب من التحالف البحري الذي تقوده الولايات المتحدة في الخليج العربي ووافقت على الانضمام إلى تحالف منافِس مع إيران.

حتى أن الإيرانيين أطلقوا نقاشات ضمنية مع البحرين، حيث ترفض الحكومة حتى الآن مسامحة إيران على محاولاتها المتنوعة لإطلاق ثورة على يد الأغلبية الشيعية في البلد. في الوقت نفسه، عقدت إيران اتفاقاً تنموياً جديداً مع سلطنة عمان وبدأت تُطبّع علاقاتها مع مصر.

في غضون ذلك، استأنف الإيرانيون المحادثات مع تركيا (وروسيا ونظام الأسد في سوريا) بهدف إيجاد حل للمشاكل المشتركة في العراق وسوريا. كذلك، توصّلت إيران إلى اتفاق جديد لمقايضة النفط بالغاز مع العراق، حيث يطغى حلفاؤها على الحكومة أكثر من أي وقت مضى.

أكثر ما يثير الصدمة هو اقتراح إيران إنشاء منتدى إقليمي من دون مشاركة الولايات المتحدة أو إسرائيل، وقد بدأ هذا الاقتراح يحصد الدعم بطريقة بدت مستحيلة منذ عشر سنوات. أنهى وزير الخارجية الإيراني للتوّ جولة في أربعة بلدان خليجية، ولاقت هذه الخطوة ترحيباً غير مسبوق من الإيرانيين.

لكن لا يعني ذلك أن الأجواء أصبحت إيجابية بالكامل بين الإيرانيين والعرب. يصعب أن تتجنّب طهران خلافاتها المعتادة مع الكويت بسبب حقل غاز مشترك، أو مع الإمارات بسبب ثلاث جزر كان الشاه الإيراني قد استولى عليها قبل سقوطه، أو مع السعودية بسبب إصرارها على تزويد الحوثيين في اليمن بالأسلحة. مع ذلك، تبقى المبادرات المستجدّة ودّية نسبةً إلى المعايير الإيرانية المألوفة.

لكنّ هذه المبادرات القائمة على السلام والحب والصداقة مع الدول المجاورة لم تصل إلى الولايات المتحدة وإسرائيل. يتابع الإيرانيون أسلوبهم العدائي مع هذين البلدين قدر المستطاع. تُصِرّ القوات البحرية الإيرانية على مضايقة السفن الأميركية في منطقة الخليج، وهاجمت إيران الناقلات المرتبطة بالولايات المتحدة وإسرائيل أو استولت عليها خمس مرات على الأقل في آخر ستة أشهر. كذلك، كثّف الإيرانيون دعمهم لجماعات إرهابية فلسطينية متنوعة، وزاد حلفاؤهم وعملاؤهم وسط الميليشيات الشيعية في العراق مضايقاتهم للقوات الأميركية هناك. يقوم الإيرانيون بالمثل في سوريا المجاورة، بالتعاون مع حلفائهم السوريين والروس. وحتى صفقة إطلاق الأسرى بين الولايات المتحدة وإيران حديثاً ترتبط على ما يبدو بحاجة إيران المُلحّة إلى الأموال النقدية أكثر من اهتمامها بإحداث انفراج حقيقي في العلاقات الثنائية.

يحصل أمر مريب حتماً، لكن لم تتّضح طبيعته بعد. في مطلق الأحوال، حصلت طهران على فرصة قيّمة على ما يبدو بسبب إصرار الولايات المتحدة على إبعاد نفسها عن شؤون الشرق الأوسط (خلال عهود الرؤساء باراك أوباما، ودونالد ترامب، وأخيراً جو بايدن ولو بدرجة أقل).

يشعر جميع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بالرعب من امتناع واشنطن عن حمايتهم من مساعي إيران التخريبية أو حتى عدوانها المباشر. كان أداء بايدن أفضل من غيره في هذا المجال، لكن لم ينسَ أحد سخرية ترامب من فكرة الدفاع عن السعودية والإمارات ضد أي هجوم إيراني مباشر في العام 2019، فانقلب بذلك على السياسة الأميركية المعتمدة منذ 40 سنة (أو حتى 75 سنة) من دون أن يفهم على الأرجح حقيقة ما يفعله.

نتيجةً لذلك، شعر حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، خلال السنوات القليلة الماضية، بضرورة أن يخفّفوا اتكالهم على واشنطن ويبحثوا عن أصدقاء جدد وداعمين محتملين. هذه النزعة كانت سبباً لتقرّب دول الشرق الأوسط حديثاً من الصين، وروسيا، والهند، وبعض الدول الأوروبية.

ربما تهدف سياسات إيران الخارجية الجديدة إلى الاستفادة من هذا الوضع. بعد أربعين سنة من حملات التخريب والعدوان، تدرك الدول العربية جيداً ما تستطيع إيران فعله، لا سيما في غياب الولايات المتحدة. يبدو أن طهران تضيف حافزاً إيجابياً إلى هذا التهديد الواقعي لتحسين العلاقات مع الآخرين، شرط أن يتخلى العالم العربي عن اتكاله على الولايات المتحدة ويتقبّل هيمنة إيران.

وبما أن الأميركيين أصبحوا أقل اهتماماً بشؤون الشرق الأوسط على ما يبدو، وباتت روسيا عالقة في حرب أوكرانيا، ولا تزال الصين تفتقر إلى القوة العسكرية الكافية لفرض نفسها كأقوى زعيمة في المنطقة، تبدو النسخة اللطيفة والمعدّلة من إيران أكثر جذباً للدول العربية المرعوبة. إنه السبب الذي يفسّر فاعلية الحملة الإيرانية الجديدة، ولو بدرجة محدودة حتى الآن.

في غضون ذلك، يبدو أن عدائية طهران المستمرّة تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل تأتي لتستكمل استراتيجيتها مع العرب. تظنّ إيران على الأرجح أن اعتداءاتها المستمرّة ضد الأميركيين ومصالحهم الإقليمية قد تُسرّع رحيل الولايات المتحدة من المنطقة.

في ما يخص إسرائيل، يسمح احتدام الصراع هناك لإيران بطرح معضلة أكثر خطورة على الدول العربية: إما أن تنضمّ إليها وتنعم بالسلام والتجارة المربحة، أو تنضم إلى إسرائيل وتخوض الحرب. نظراً إلى إصرار الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة على التحرّك ضد الفلسطينيين بأساليب مقيتة حتى بالنسبة إلى العرب الذين سئموا من هذه القضية، قد تستفيد مجموعة كبيرة من الأنظمة العربية من إبعاد نفسها عن إسرائيل. لهذا السبب، قد تهدف المقاربة المزدوجة القائمة على التقرّب من الدول العربية مقابل تكثيف الهجوم على الولايات المتحدة وإسرائيل إلى إحداث شرخ واسع بين الدول العربية وعدوة إيران اللدودة.

أكثر ما تخشاه إيران هو تصالح الولايات المتحدة مع حلفائها العرب أو حصول تقارب متزايد بين العرب وإسرائيل. عملياً، تكشف هذه المقاربة الاستراتيجية الجديدة أن إيران اقتنعت أخيراً بأن مضايقاتها تُقرّب خصومها من بعضهم البعض، وهذا ما يفسّر تشديدها المستجدّ على تفريقهم لفرض سيطرتها.

حتى الآن، تشتق القوة الدافعة لاتفاقيات أبراهام ومبادرات أخرى لتعزيز التقارب بين الدول العربية وإسرائيل من رغبة هذه الأطراف في التكاتف بسبب خوفها المشترك من إيران وحلفائها وأتباعها.

مجدداً، كانت إدارة بايدن محقة حين اعتبرت أي مصالحة سعودية إسرائيلية أو أي تحالف محتمل بين الطرفين، سواء كان رسمياً أم غير رسمي، تطوراً خطيراً لإيران ومفيداً للولايات المتحدة. قد يطرح الجمع بين أقوى جيش إقليمي وأقوى اقتصاد عربي عائقاً مخيفاً أمام أي عدوان إيراني آخر. لهذا السبب، يبذل الإيرانيون قصارى جهدهم للتقرّب من السعوديين والدول العربية الأخرى ويحاولون إبعادهم عن الإسرائيليين والولايات المتحدة.

تستحق إدارة بايدن الإشادة لأنها اعترفت بأهم جانبَين من الإنجاز السعودي الإسرائيلي وتبذل الجهود اللازمة لتنفيذه بأفضل طريقة. لكن ثمة خطر كامن وراء هذه التطوّرات كلها. يطرح أي تحالف بين إسرائيل والسعودية تهديداً على إيران طبعاً، لكن تتوقّف منافعه بالنسبة إلى الولايات المتحدة على دور واشنطن في ذلك التحالف. لا يحترم الإيرانيون القدرات العسكرية السعودية (أو حتى الإسرائيلية) بقدر ما يحترمون القوة العسكرية الأميركية، لذا لم تشكّل تلك القدرات رادعاً لهم بقدر الإمكانات الأميركية يوماً.

يدرك الإسرائيليون والعرب هذا الواقع ويفتقرون إلى قدرات الولايات المتحدة في مجال جمع المعلومات الاستخبارية، وهذا ما دفعهم في حالات كثيرة إلى إبداء ردود أفعال مبالغ فيها على أي تحركات إيرانية مشبوهة، وكانت تلك الردود لتفجّر الوضع أحياناً لولا تدخّل واشنطن لتهدئة مخاوفهم وردع خصمهم.

في ظل غياب أي دور أميركي ناشط في المنطقة وفي التحالفات الناشئة، تعني هذه التطوّرات كلها أن أي تحالف جديد بين إسرائيل والسعودية قد ينتج عدواناً إيرانياً متزايداً، ويُصعّد الوضع، ويمهّد لنشوء صراع أوسع قد يُسبّب نتائج كارثية في المنطقة، والولايات المتحدة، والعالم، إذا تأثرت تدفقات الطاقة من الشرق الأوسط.

لهذا السبب، يجب أن يُعتبر أي تحالف إسرائيلي سعودي جزءاً من الالتزام الأميركي في الشرق الأوسط بدل أن يكون بديلاً عن ذلك الالتزام. يبدو أن إيران تعلّمت خدعة جديدة. هل تستطيع الولايات المتحدة القيام بالمثل؟