ستيفن بيدل

التكنولوجيا الجديدة... لم تُحدث ثورة في حرب أوكرانيا

5 أيلول 2023

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

جنود أوكرانيون على خط المواجهة في ضواحي كريمينا | أوكرانيا، 16 آب 2023

بدأت الحرب في أوكرانيا باستعمال مجموعة من التقنيات المتقدّمة، بدءاً من الطائرات المسيّرة العاملة عن بُعد وصولاً إلى تقنيات المراقبة الفضائية، والأسلحة الدقيقة، وصواريخ تفوق سرعة الصوت، وأجهزة التشويش المحمولة، والذكاء الاصطناعي، والاتّصالات المتّصلة بالشبكة. يظنّ البعض أن هذه المعدّات بدأت تغيّر وجه الحرب، إذ تجتمع تقنيات المراقبة الواسعة الانتشار مع أسلحة فتاكة جديدة لتحويل أنظمة قديمة مثل الدبابات والمعدّات التقليدية إلى خيارات بالية وجعل عمليات الهجوم الواسعة غير عملية. يظنّ الخبير الاستراتيجي توماس هامس أن الطائرات المسيّرة، والذكاء الاصطناعي، والتكيّف السريع مع التقنيات التجارية في أوكرانيا، بدأت تُحدِث ثورة عسكرية حقيقية. وبرأي المدير التنفيذي السابق في شركة «غوغل» ومستشار البنتاغون، إيريك شميت، تثبت أوكرانيا اليوم أن «الطائرات المسيّرة ستطلق الحروب المستقبلية وتحدّد مصيرها».



لكن تبدو هذه الحرب مألوفة على مستويات عدة، فهي تشمل جنوداً مشاة يشقّون طريقهم عبر الخنادق الموحلة في مشاهد قد تكون أقرب إلى الحرب العالمية الأولى. تعجّ ساحات المعارك بحقول ألغام تشبه تلك المستعملة في الحرب العالمية الثانية. أطلقت المدفعيات التقليدية ملايين القذائف غير الموجّهة لدرجة أن تستنزف سعة الإنتاج في القواعد الصناعية في روسيا والغرب. وتتزامن صور مصمّمي الأنظمة المشفّرة والبرمجيات العسكرية مع صور مصانع فيها كمية هائلة من الذخائر التقليدية.

هذه المظاهر تُجدّد التساؤلات حول اختلاف هذه الحرب عن غيرها. كيف يمكن أن تتعايش هذه التكنولوجيا المتطوّرة مع أصداء الماضي الغابر؟ قد تكون الأدوات المستعملة في أوكرانيا حديثة أحياناً، لكنّ النتائج التي تُحقّقها ليست كذلك. تتكيّف الجيوش عموماً مع التهديدات الجديدة، وقد أدّت التدابير المضادة التي يتبنّاها الطرفان في أوكرانيا إلى تراجع آثار الأسلحة والمعدات الجديدة بطريقة جذرية، فأصبحت الحرب على مستويات عدة مشابهة لصراعات الماضي بدل أن تعكس مستقبلاً متطوّراً من الناحية التكنولوجية. يجب أن يدرك المخططون الدفاعيون الأميركيون أن الحرب في أوكرانيا لا تنذر بثورة في الشؤون العسكرية كتلك التي يتوقّعها الكثيرون، بل إن تلك الثورة لن تتحقّق في أي ظرف. يُفترض أن يدرس صانعو السياسة والمحللون حقيقة ما يحصل ميدانياً في أوكرانيا، لكن يجب ألا يتوقّعوا أن تُحدِث نتائجهم تغييراً جذرياً في الاستراتيجية العسكرية الأميركية. كما حصل في معظم الحالات في الماضي، من المتوقّع أن ترتكز المراحل المقبلة على التكيّف التدريجي مع المستجدّات بدل فرض تحوّلات فائقة.

بين الجمود والإنجازات

يبقى عدد الضحايا عنصراً مؤثراً في الحروب، لكن تسعى الجيوش أيضاً إلى فرض سيطرتها ميدانياً. يظنّ بعض الثوريين أن المعدّات الجديدة غيّرت أنماط التقدم والتراجع في أوكرانيا مقارنةً بالتجارب التاريخية. وفق هذا الرأي، أصبحت المناورات الهجومية مكلفة جداً اليوم بسبب الأسلحة الفتّاكة الجديدة، ما يعني بدء حقبة الهيمنة الدفاعية حيث تبدو سيطرة المعتدين على الأراضي أصعب ممّا كانت عليه في حقبة الحروب السابقة.

لكن لا تزال حرب أوكرانيا حتى الآن بعيدة عن الجمود الدفاعي الموحّد. فشلت الاعتداءات أحياناً في احتلال الأراضي أو حقّقت هدفها بكلفة باهظة. نجح الهجوم الروسي في بخموت، لكن لم يتحقّق هذا النجاح إلا بعد عشرة أشهر من القتال وسقوط بين 60 و100 ألف جندي روسي. كذلك، لم تكسب العمليات الهجومية الروسية في ربيع العام 2022 مساحات واسعة، ودام الهجوم الروسي على ماريوبول في جنوب أوكرانيا ثلاثة أشهر تقريباً قبل التفوّق على الدفاع واحتلال الروس المدينة. في المقابل، بدأ الهجوم الأوكراني المضاد في خيرسون بعد أسابيع من حرب استنزاف بطيئة ومكلفة في آب وأيلول 2022.

لكن تطوّرت اعتداءات أخرى بوتيرة أسرع ووصلت إلى مسافات أبعد. كان تنفيذ الغزو الروسي الأولي في شباط 2022 سيئاً على مستويات عدة، لكنه سمح رغم كل شيء باحتلال أكثر من 41 ألف ميل مربّع من الأراضي خلال أقل من شهر واحد. ثم استرجع الهجوم الأوكراني المضاد في كييف أكثر من 19 ألف ميل مربّع في آذار وبداية نيسان، وسمح الهجوم الأوكراني المضاد في خيرسون، في أيلول 2022، باستعادة 2300 ميل مربّع. هكذا أصبحت الحرب خليطاً من الهجوم الناجح والدفاع الناجح، بدل أن تعكس نمطاً من الإحباط الهجومي المتواصل. حصلت هذه الإنجازات وحالات الجمود كلها رغم وجود أسلحة ومعدّات جديدة. في المقابل، كان دور أنظمة قديمة مثل الدبابات بارزاً في الانتصارات والإخفاقات الهجومية. يصعب أن تتماشى هذه التقلّبات مع معايير أي حقبة جديدة تقوم على التكنولوجيا الحديثة في عالم الحروب.

هذا الجانب يكرّر جزءاً مهماً من مظاهر الماضي أيضاً. يضع الكثيرون الحرب العالمية الأولى في خانة الجمود الدفاعي القائم على قوّة التكنولوجيا أو يعتبرونها نوعاً من حروب المناورات الهجومية بقيادة الدبابات، والطائرات، والراديو. هذه الفكرة تُشجّع المراقبين اليوم على البحث عن تحوّل جذري آخر من هذا النوع في أوكرانيا. لكن على أرض الواقع، لم تتبع أي حرب عالمية نمطاً موحّداً وقائماً على التكنولوجيا، بل أنتجت التقنيات نفسها العمليات الهجومية التي احتلّت الأراضي سريعاً وكانت مسؤولة عن الجمود الدفاعي الذي ترافق مع ثبات خطوط المعارك بشكلٍ شبه دائم. شهدت الحربان العالميتان إذاً مجموعة متنوّعة من الانتصارات الهجومية التي لا ترتبط فعلياً بتنوّع المعدّات المستعملة.

في المقابل، شهدت الحرب في أوكرانيا استعمال كمّ هائل من المعدّات الجديدة، لكن لم يحقّق استخدامها أي نتائج ثورية حتى الآن. لم يصل عدد القتلى في أوكرانيا إلى مستويات قياسية غير مألوفة مقارنةً بالمعدّلات التاريخية. تمكّن المهاجمون في أوكرانيا من التقدّم حيناً وعجزوا عن ذلك أحياناً. ولم تترافق التطوّرات مع نمط من الجمود الدفاعي الموحّد لأن المقاتلين في أوكرانيا تعاملوا مع الأسلحة الفتّاكة الجديدة كما فعل أسلافهم، فتكيّفوا مع خليط من التدابير التقنية المضادة وفضّلوا اللجوء إلى نزعات شائعة منذ زمن بعيد، أبرزها التشتيت، والتغطية، والتخفّي، وإطلاق النار لإضعاف أداء العدو، ما أدّى إلى تراجع تعرّض الطرفَين لنيران معادية.

لا تزال الخسائر ثقيلة، كما يحصل في معظم الحروب الكبرى، لكنها لم تمنع المقاتلين في أوكرانيا من تحقيق مكاسب ميدانية هائلة خلال العمليات الهجومية في كييف، وخاركيف، وخيرسون. يصعب تحقيق النجاح في خط الهجوم، وغالباً ما تتطلّب هذه العمليات خليطاً من المهارات الهجومية والأخطاء الدفاعية، كما حصل طوال أجيال سابقة. في أوكرانيا، كما في الماضي، تستطيع الدفاعات غير الجاهزة والمزوّدة باحتياطيات غير مناسبة أو دعم لوجستي شائب تحقيق اختراق معيّن إذا أخفق المهاجمون الماهرون. لكن عندما تغيب هذه المعادلة في أوكرانيا، يصل الوضع عموماً إلى طريق مسدود، كما حصل في الماضي. لا ينجم ذلك عن استعمال الطائرات المسيّرة أو الاتصال بشبكة إنترنت ذات نطاق عريض، ولا يمكن إحداث تحوّلات جذرية بهذه الطريقة. إنه امتداد هامشيّ لنزعات وعلاقات قديمة بين التكنولوجيا وقدرة البشر على التكيّف.

لكن ما معنى أن تكون حرب أوكرانيا تطوّرية أكثر ممّا هي ثورية على مستوى التخطيط الدفاعي والسياسات المعتمدة؟ هل يجب أن تتخلّى الدول الغربية عن مساعيها لاقتناء أسلحة ومعدّات حديثة وتوقف تطوير العقائد؟ طبعاً لا. يبقى التغيير التطوّري شكلاً من التغيير، ويهدف التكيّف في الأساس إلى نشر مقاربات ومعدّات جديدة وسط الجيوش. لا تستطيع دبابة من العام 1916 أن تُحقّق شيئاً في أي ساحة معركة في العام 2023، إذ تنجم معدلات الاستنزاف الثابتة في الحروب منذ الحرب العالمية الأولى عن تكيّف طرفَي الصراع مع المستجدّات بوتيرة متواصلة، حيث يسعى المقاتلون دوماً إلى منع الخصوم من التفوّق.

لكن ترتكز نظرية الثورة في جوهرها على فكرة مرتبطة بإيقاع وطبيعة التغيير المطلوب. إذا كانت المساعي العامة تتّجه إلى إحداث ثورة في مجال الحروب، لن يكون تحديث الأفكار والمعدّات بطريقة تقليدية وتدريجية كافياً، بل تبرز الحاجة إلى مفاهيم أكثر تأثيراً. يُفترض أن يتوقّف استعمال الدبابات مثلاً بدل تحديثها. ويجب أن تصبح الأنظمة الآلية بديلة عن البشر في أسرع وقت وتُستبدَل الاستعدادات لشنّ تحرّك هجومي واسع النطاق بتشديد متزايد على الدفاع وأوامر القادة للتصدي للهجوم في جميع الظروف إلا في الحالات الاستثنائية.

لكن لا تدعم الحرب في أوكرانيا هذا النوع من الأفكار، حتى الآن على الأقل. هي تشهد تطوّرات متواصلة، وتبدو الأدلة المرتبطة بها شائبة، وقد يتّخذ مسار القتال منحىً مختلفاً في المستقبل. لكن تَقِلّ حتى الآن النتائج الواضحة التي تتماشى مع توقّعات التغيير الثوري من حيث النتائج المُحقّقة أو الحاجة إلى تجديد المعدّات أو تغيير العقائد المعتمدة بطريقة جذرية. لقد مرّت حوالى 110 سنوات منذ ظهور الدبابات في العام 1916. اعتبر البعض الدبابة من المعدّات البالية نظراً إلى التقدّم التكنولوجي الحاصل في الأسلحة المضادة للدبابات. انتشرت هذه الفكرة على نطاق واسع طوال أكثر من خمسين سنة. لكن يتابع طرفا الصراع في أوكرانيا الاتّكال على الدبابات في العام 2023 ويبذلان قصارى جهدهما للاستيلاء على عدد إضافي منها.

أعاد سلاح الجو الأميركي تصميم بنيته خلال الخمسينات بناءً على الفرضية القائلة إن الثورة النووية أصبحت بديلة عن الحرب التقليدية وأن الطائرات المستقبلية ستكون ضرورية لتسليم الأسلحة النووية. بدأت الحرب غير النووية في فيتنام حين كان سلاح الجوّ مُصمّماً لإطلاق تحوّلات مستقبلية جذرية لم تتحقّق يوماً وتبيّن أنها لا تتماشى مع الحرب القائمة. وحتى عقيدة الجيش الأميركي أُعيد تشكيلها في العام 1976 كي تعكس فكرة مفادها أن الأسلحة دقيقة التوجيه جعلت العمليات الهجومية مكلفة بدرجة مفرطة في معظم الظروف، فشدّدت مجدّداً على أهمية الدفاع الجامد انطلاقاً من مواقع جاهزة مسبقاً. كانت عقيدة «الدفاع الناشط» مبتكرة، لكن لم يفهمها المعنيون بالشكل المناسب وسرعان ما تخلّوا عنها وفضلوا مفهوم «معركة الجو والبر» التقليدي، وقد استعمله الجيش الأميركي لإطلاق تحرّكات هجومية ناجحة في الكويت في العام 1991.

لطالما كانت الدعوات إلى الثورة والتغيير شائعة في النقاشات المرتبطة بالدفاع خلال الأجيال التي تلت حقبة الحرب العالمية الثانية. لكنها لم تُحقق الهدف المنشود نظراً إلى التجارب الحاصلة في ذلك العصر. وبعد مرور سنة ونصف على بدء الحرب في أوكرانيا، لا شيء يثبت أن تلك الدعوات ستعطي ثمارها اليوم.