اللقاح ليس إلا الخطوة الأولى!

02 : 00

لقد اتّضح اليوم أن العالم لا يستطيع أن يتجاوز بالكامل تدابير الإقفال التي فرضها فيروس كورونا الجديد قبل إيجاد لقاح فاعل. لم يسبق أن اتّكل هذا الكمّ من الأشخاص وسبل العيش والاقتصادات على حلّ صحي واحد. لكن فيما يتسابق العلماء لتطوير لقاحات محتملة، يجب أن يتذكر المجتمع الدولي أن الهدف النهائي لا يقتصر على إنتاج لقاح آمن وفاعل، بل يتعلق أيضاً بإنهاء الوباء. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف إلا بعد إنتاج مليارات الجرعات بكلفة مقبولة ووضعها في متناول جميع الناس، لا سيما في البلدان ذات الدخل المنخفض. في هذا الإطار، يجب أن تتبنى الجهات المعنية رؤية جديدة: على اللقاحات أن تصبح سلعاً عامة وعالمية. تعجز الأجندات أو الأرباح المحلية عن إطلاق الجهود المرتبطة بنشر اللقاح على أوسع نطاق. لذا يتعين على الحكومات وشركات الأدوية والمنظمات متعددة الجنسيات أن تتعاون في ما بينها لتطوير اللقاح وإنتاجه وتسليمه. يكون إنتاج وتوزيع مليارات الجرعات من أي لقاح جديد عملاً صعباً في أفضل الظروف. لذا تتطلب هذه المهمة جهوداً عالمية غير مسبوقة في زمن الوباء.

يكفي أن نفكّر في المقام الأول بالنقص العالمي في المعدات الشخصية الواقية وحزم الاختبارات حديثاً. ثمة حاجة كبرى إلى إطلاق جهود دولية منسّقة لتجنب أي نقص مماثل في اللقاح وضمان أن تتلقاه أعداد كبيرة من الناس. لكن لطالما طرح توزيع اللقاحات بطريقة متكافئة مشكلة في الماضي للأسف. أدى ارتفاع الطلب على لقاح فيروس الورم الحليمي البشري في البلدان المتقدمة مثلاً إلى منع وصوله حديثاً إلى المراهِقات المعرّضات له في البلدان النامية. وخلال جائحة إنفلونزا الخنازير في العام 2009، طلبت أعداد صغيرة من البلدان كميات كبيرة من اللقاح قبل أن يصبح متاحاً، فاشترت معظم الإمدادات العالمية ولم تترك إلا كميات محدودة لبقية دول العالم.

يجب ألا يكتفي العلماء بتطوير لقاح واحد. لكنّ وجود لقاحات فاعلة ومتعددة لن يمنع تخزين الإمدادات، إذ لا مفر من أن تبقى الكميات محدودة في البداية. من واجب كل حكومة أن تعطي الأولوية لمصلحة مواطنيها. لكن في زمن الوباء، يفرض عليها واجبها أيضاً أن تفكر وتتحرك على الساحة العالمية. إذا كانت اتفاقيات التصنيع أو ضوابط التصدير تعيق توزيع اللقاحـات وتسمـح للفيروس بالصمود في كل مكان، لن يكون أي بلد محصّناً ضد انتشار العدوى مجدداً.

لتوفير الإمدادات المناسبة وتوزيع اللقاحات بطريقة متكافئة، تقضي إحدى الطرق بإزالة جزء من العوائق التي تفرضها قوانين الملكية الفكرية ونقل التكنولوجيا وتشجيع المصنّعين والجماعات البحثية على التعاون معاً لتحقيق هدف مشترك. عند ظهور أول لقاح آمن وفاعل، تستطيع شركات تصنيع متعددة أن تبدأ بإنتاجها بشكلٍ فوري ومتزامن. سبق وأبدى قطاع الأدوية استعداده لاتخاذ هذه الخطوة: أعلن معهد "سيروم" الهندي أنه لن يحتفظ بحق الملكية الفكرية للقاح "كوفيد - 19" الذي يُصنّعه، وعقدت شركتا الأدوية العملاقتان GSK و Sanofi شراكة غير مسبوقة لجمع مواردهما، واتفقت شركات تصنيع متعددة على عدم جني الأرباح من لقاحات "كوفيد - 19". إنها مؤشرات إيجابية لتفعيل مبادرة "مُسرّع الوصول إلى أدوات كوفيد - 19" الجديدة التي أطلقها قادة العالم ومنظمة الصحة العالمية، لتسريع تطوير وإنتاج وتوزيع أدوات جديدة لتشخيص "كوفيد - 19" ومعالجته وابتكار لقاحات ضده.

لكن يترافق تصنيع أي لقاح فور تطويره مع تحديات كبرى. تتولى منظمات تفتقر إلى قدرات تصنيعية واسعة تطوير عدد كبير من أبرز لقاحات "كوفيد - 19" الواعدة. وبما أن عدداً من هذه المنظمات سيفشل حتماً في اكتشاف لقاح فاعل، لا بد من وضع آليات عملية لتقليص مخاطر الاستثمار في قدرات التطوير والتصنيع. تسمح هذه الآليات بإنتاج كميات كبيرة من أفضل اللقاحـات المحتملة سريعاً ووضعها في متناول كل من يحتاجون إليها، بغض النظر عن أماكن إقامتهم.

مقاربة جديدة ومختلفة

قد تبدو هذه المقاربة صعبة التنفيذ، لكنها طُبّقت في السابق: أطلقت منظمة Gavi (شراكة صحية عالمية تُعنى بتسهيل الحصول على اللقاحات) نسختها التجريبية من "التزام السوق المسبق" في العام 2009. سبق وساهمت آلية التمويل المبتكرة هذه في تسريع طرح اللقاحات. قبل ظهور هذه الآلية، كان تخفيض سعر اللقاحات الجديدة كي تصبح مقبولة الكلفة في البلدان الأكثر فقراً يحتاج إلى أكثر من عشر سنوات. هذا ما حصل مثلاً مع لقاح المكورات الرئوية المقترن. لكن جاء "التزام السوق المسبق" ليغيّر قواعد اللعبة، فجعل اللقاحات مقبولة الكلفة في تلك البلدان عبر تقديم الحوافز لشركات التصنيع، ما أدى إلى نشوء سوق لم يكن موجوداً في السابق. نجحت هذه المقاربة بناءً على مبدأ إلزام الصناديق بتأمين ثمن اللقاحات بعد ترخيصها، ما ساهم في إزالة جزء من المخاطر المرتبطة بالاستثمار في قدرات التصنيع المتزايدة، فتأكدت صناديق التمويل حينها من وجود سوق لدعمها في حال اتخذت هذه المبادرات. طبّقت منظمة Gavi مقاربة مشابهة لتسريع إنتاج لقاح إيبولا وطرحه في الوقت المناسب، منعاً لخروج أحدث وباء في جمهورية الكونغو الديموقراطية عن السيطرة. قد يكون "كوفيد - 19" مرضاً مختلفاً جداً، لكن تسمح آليات التمويل نفسها بتوفير اللقاح بوتيرة سريعة. وبما أن هذه الآليات تتطلب اتفاقيات مُلزِمة قانوناً مع المصنّعين، لا شك في أنها ستسهم في منع تخزين اللقاحات وتضمن توزيعها بالتساوي.

ثم تبرز مشكلة تسليم اللقاحات. لن تكون هذه المهمة مباشرة أيضاً. حتى في الظروف الطبيعية، يسهل أن تتعطل طرق تسليم اللقاحات بسبب مشاكل النقل وسلاسل الإمدادات، والجهات التنظيمية، والاضطرابات المدنية، والصراعات، والكوارث الطبيعية. لكن في ظل أزمة عالمية شاملة، تصبح العوائق اللوجستية أكثر صعوبة، لا سيما في أفقر بلدان العالم.

كانت الأنظمة الصحية في تلك البلدان ضعيفة قبل ظهور فيروس كورونا، وهي تتعرض اليوم لضغوط هائلة ولا يقتصر السبب على الوباء المستجد. أدى ظهور فيروس "كوفيد-19" إلى زيادة احتمال تفشي أمراض قاتلة أخرى مثل الحصبة وشلل الأطفال والحمى الصفراء. دعت منظمة الصحة العالمية إلى استكمال برامج التلقيح الاعتيادية إذا أمكن في زمن الوباء، لكنها أوصت أيضاً بتعليق حملات التلقيح ضد بعض الأمراض في بلدان عدة لتقليص مخاطر انتشار "كوفيد - 19" والحفاظ على موارد الصحـــــة العامة الشحيحة.

هذا الوضع مقلق جداً. قد يؤدي تعليق برامج تلقيح أخرى إلى حالات وفاة هائلة كان يمكن تجنبها، حتى أنه قد يعيق قدرة العالم على إنهاء وباء فيروس كورونا. ومن المتوقع أن تزيد أعباء الأنظمة الصحية الوطنية الضعيفة بسبب موجات تفشي الفيروس الكبرى تزامناً مع تدابير الإقفال التام أو بعدها مباشرةً.

وبسبب العوائق التي فرضها فيروس كورونا، حُرِم 13.5 مليون شخص على الأقل من اللقاح في البلدان التي تدعمها منظمة Gavi. من الضروري أن تستأنف البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط حملات التلقيح في أسرع وقت ممكن وأن تلتزم ببرامج التلقيح الاعتيادية طوال فترة انتشار الوباء الجديد. سرعان ما تتحول سلاسل الإمدادات، ومعدات سلسلة التبريد، والعاملون المدرّبون في قطاع الرعاية الصحية، وأنظمة البيانات، وجهود مراقبة الأمراض التي تتألف منها هذه البرامج، إلى ركيزة داعمة للشبكة التي تسلّم لقاحات "كوفيد-19" إلى من يحتاجون إليها.

لتحقيق هذه الغاية، تتعاون منظمة Gavi مع البلدان لتدعيم أنظمتها الصحية ومتابعة برامج التلقيح الاعتيادية. لقد وفرت أول دفعة بقيمة 200 مليون دولار لحماية العاملين في مجال الرعاية الصحية وتزويدهم بالمعدات الشخصية الواقية ومراقبتهم وتدريبهم وتمويل الاختبارات التشخيصية. لكن يبقى هذا المبلغ ضئيلاً مقارنةً بالأموال اللازمة لتطوير وتسليم لقاح واحد أو لقاحات عدة تضمن إنهاء الوباء وتصل قيمتها إلى مليارات الدولارات. هذه اللقاحات هي من حق جميع البشر. لا يعني ذلك أن تصبح بمتناول الجميع فحسب، بل يجب أن يتم اختبارها وتصنيعها في أنحاء العالم.

لن ينال أي لقاح فاعل ترخيصاً رسمياً قبل 12 شهراً على الأقل. لكن يجب أن يتحول التركيز اليوم من التسابق على تطوير لقاح إلى الاستعداد لظهوره (أو حتى محاولة إيجاد علاجات فاعلة إلى أن يصبح اللقاح جاهزاً). في السنوات الأخيرة، تعرضت مفاهيم التعددية والعولمة للهجوم. لذا تُعتبر هذه الأزمة الآن فرصة لتشجيع المجتمعات على التكيف مع الوضع المستجد والانتقال من رأسمالية المساهمين إلى رأسمالية أصحاب المصلحة، ما يعني تعبئة جميع الشركاء لتحقيق هدف مشترك: عالم آمن واحد! لن يكون أحد آمناً ما لم يصبح جميع البشر بأمان!