سامويل ماكيلهاغا

الجيل الرقمي وجد الكتاب الذي يناسبه من أعمال كارل ماركس

9 أيلول 2023

المصدر: Foreign Policy

02 : 00

تماثيل كارل ماركس للفنان أوتمار هويرل معروضة في ترير | ألمانيا، 5 أيار 2013

كانت إعادة اكتشاف كارل ماكس جزءاً من طقوس النضج التي مرّ بها جيل الألفية. سخّر عدد كبير من الحركات الشعبوية اليسارية، التي نشأت في أنحاء العالم الغربي بعد الركود العظيم في العام 2008، معظم طاقته الفكرية لاستكشاف أعمال المفكر الألماني من القرن التاسع عشر.



ساهمت الندرة الاقتصادية النسبية التي واجهها جيل الألفية بعد العام 2008 والأفكار التي طرحها ماركس في إبعاد معظم اليسار المعاصر عن النظرية اللغوية التي كانت رائجة سابقاً وطغت على الأوساط الأكاديمية الأميركية خلال التسعينات. تفوّقت الحاجة إلى تفسير تراجع مستوى المعيشة وانتشار البطالة على تحليلات النظرية الفرنسية المعقدة. تسلل هذا الموقف المادي إلى حركات سياسية مثل حملات جيريمي كوربين وبيرني ساندرز في بريطانيا والولايات المتحدة على التوالي، والأحزاب الجديدة في أوروبا القارية، مثل «سيريزا» في اليونان، و»بوديموس» في إسبانيا، و»فرنسا الأبيّة» في فرنسا.

لكن شَهِد العامان 2019 و2020 هزيمة انتخابية لمعظم هذه المشاريع وتلاشت في الوقت نفسه آمال ناشطين يساريين من جيل الألفية كانوا قد تدرّبوا على تحليل كتاب ماركس، Das Kapital (رأس المال). لكن حصلت تلك الهزيمة في الوقت المناسب كي يتبنى الجيل اللاحق نسخة ماركسية خاصة به. برأي عدد كبير من المحللين، عجزت الحركة اليسارية الشعبوية في جيل الألفية عن استيعاب الانحلال الاجتماعي المتزايد بسبب التكنولوجيا، فانتقلت إلى محور جديد ومتعدد الأقطاب يتمحور حول العلاقات الأميركية الصينية أو يتكلم بأسلوب مقنع عن تهديدات الأتمتة الآلية والانهيار البيئي.

لا يعني ذلك أن ماركس لا يستطيع مساعدة الجيل الجديد بعد أزمة كورونا على فهم أشكاله الخاصة من التفكك الاجتماعي والاقتصادي والطبيعي المتسارع، بل إن الجيل الرقمي سيستفيد من استبدال Das Kapital بكتاب ماركس المنسيّ Grundrisse (أسس نقد الاقتصاد السياسي). يملك هذا الجيل الآن دليلاً جديداً ومفيداً بعنوان A Companion to Marx’s Grundrisse (رفيق غروندريسة ماركس) بقلم ديفيد هارفي.

هارفي أستاذ بريطاني فصيح عمره 87 عاماً، وهو يعمل في جامعة مدينة نيويورك، وقد أثّر بشدة على استشكاف أعمال ماركس بعد العام 2008. حصد الدليل الذي نشره عن كتاب Das Kapital في العام 2010 شعبية واسعة، مع أن محتواه كان عبارة عن أطروحة اقتصادية ثقيلة ومبهمة وبالغة التعقيد.

قد يصبح كتاب Grundrisse والتفسير الذي يطرحه هارفي دليلاً لا غنى عنه لفهم وضعنا السياسي اليوم، لا سيما كيفية التعامل مع الذكاء الاصطناعي الذي يشهد تقدماً سريعاً وصعود الصين بوتيرة متواصلة وجارفة ظاهرياً.

كي لا يصبح الناس مساعِدين مثقلين بالأعباء وبأجور متدنية للآلات المتقدمة أو يتكلوا على إعانات الدولة بكل بساطة، دعا ماركس وأتباعه إلى تحرير التكنولوجيا من «شكل القيمة»، أي التقنية المستعملة لقياس الإنتاج والأسعار بناءً على مدة العمل البشري. برأي ماركس، يجب أن تُستعمَل الآلات لتقليص مدة العمل الضروري، وتحرير البشر من البحث عن أشكال أعلى مستوى من العمل. حتى أن ماركس كان معادياً للعمل، لكنه افترض أن الآلات يجب أن تصبح أدوات يسيطر عليها البشر بطريقة مبتكرة بدل أن تُصمَّم الأنظمة لتحقيق غاية معاكسة.

يطرح برنامج ChatGPT اليوم معضلة بارزة بالنسبة إلى الجيل الرقمي: كيف يمكن تسخير تقنية قادرة على مضاعفة الإنتاج لكنها لا تضمن في المقابل أي زيادة في الأجور، أو أوقات الفراغ، أو فرص العمل الجديدة. لا يذكر تحليل هارفي شيئاً عن ChatGPT (ظهر روبوت الدردشة في نهاية السنة الماضية)، لكنه يناقش الذكاء الاصطناعي المرتبط بنماذج اللغة، فيكتب أنه يشكك بنزعة المؤسسات إلى تقبّله بلا مشكلة: «يجب أن نوضح أن الرأسماليين الفرديين لا يستخدمون الذكاء الاصطناعي لأنهم يفضلونه، بل لأن المنافسة تجبرهم على استخدامه بغض النظر عن ما يفضلونه».

مع ذلك، كان ماركس يأمل في أن يسمح التقدم للبشر باستعمال تلك الأدوات لتحرير أنفسهم. كانت هذه القناعة المرتبطة بقدرة التكنولوجيا على تحرير الناس جزءاً من عقيدة الاتحاد السوفياتي الذي انتقل إلى حقبة التصنيع سريعاً، ثم وصلت هذه الفكرة إلى محبّي التكنولوجيا التحرريين ومهندسي البرمجيات ذات المصادر المفتوحة في منطقة «سيليكون فالي» خلال التسعينات. بين أواخر التسعينات وبداية الألفية الثالثة، بدأ اليسار يشكك بقدرات التكنولوجيا ويفضّل نزعات بدائية فوضوية ومعادية للمؤسسات والتكنولوجيا والعولمة خلال احتجاجات منظمة التجارة العالمية في العام 1999. بدأ اليسار المعاصر في الولايات المتحدة يعود إلى موقفه الداعم للتكنولوجيا حديثاً، فقد اقترح السيناتور بيرني ساندرز والنائبة ألكسندريا أوكاسيو كورتيز «الصفقة الجديدة الخضراء».

لم تكن منطقة «سيليكون فالي» الجهة الوحيدة التي تقبّلت تطوّر التكنولوجيا كشكلٍ من التحرر خلال التسعينات، بل أدركت القيادة الصينية أيضاً أن الجمود التكنولوجي للاتحاد السوفياتي سهّل انهياره. كي تحافظ الصين على نظامها الشيوعي في القرن الواحد والعشرين، انطلقت حملة ابتكار رأسمالية محدودة لتكثيف النمو التكنولوجي. اليوم، في العام 2023، تكاد بكين تنافس واشنطن كقوة رائدة في الأبحاث والتنمية، كما فعلت موسكو خلال الأربعينات والخمسينات.

كان النجاح الاقتصادي الهائل للصين منذ إصلاحات الزعيم دنغ شياو بينغ في السبعينات والثمانينات لتثير اهتمام ماركس أو تفاجئه على الأرجح. هو يكتب في Grundrisse عن أساليب إنتاج قديمة، بما في ذلك الأسلوب «الآسيوي» الذي كان يغطّي الشرق الأقصى وروسيا أحياناً. يذكر ماركس أن المجتمعات الآسيوية القديمة كانت تجمع بين الزراعة والصناعة ضمن مجتمعات مكتفية ذاتياً يُشرِف عليها حاكم إمبريالي فردي، حيث يكون المجتمع كله مُلكاً لذلك الحاكم. اعتبر ماركس بريطانيا وألمانيا، لا روسيا أو الصين، معاقل محتملة للثورة، بعدما بدت ألمانيا متأخرة على مستوى التنمية أو خارج النظام الرأسمالي الأوروبي كله.

كذلك، ظنّ ماركس أن التنمية الاقتصادية المنبثقة من النظام الإقطاعي السائد في أوروبا الغربية خلال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر ستُحدد على الأرجح مسار بقية دول العالم. لكنه كان محقاً ومخطئاً في آن. تبنّت الصين معظم جوانب هذه النزعة الرأسمالية، لكن يثبت استمرار التوتر بين بكين وواشنطن أن التطور السياسي الصيني يبقى مختلفاً عن الأنواع التي انبثقت من الثورة الصناعية البريطانية خلال القرن التاسع عشر.

في هذا السياق، يكتب هارفي: «تأثرت النظرية التي طرحها ماركس بطريقة عمل الرساميل في منطقة اعتبرها ماركس بنفسه «زاويته الصغيرة من العالم». هو شعر في معظم مراحل حياته الفكرية الناشطة بأن دراسة الرأسمالية الصناعية البريطانية كانت تقدّم للعالم صورة عن مستقبله. لكن مع اقتراب نهاية حياته، بدأ يشكك بصوابية تلك الفرضية. لهذا السبب، يُعتبر التساؤل عن ارتباط شكل مستقبلنا اليوم بالصين نسخة معاصرة ومثيرة للاهتمام من ذلك السؤال، وهي مسألة مفتوحة للنقاش».

قد نحصل إذاً على لمحة عن مستقبلنا المرتبط بالتغير المناخي بفضل النمو الحضري المتسارع في الصين وتوغل البلد المفرط في المساحات البرّية، وهو سبب محتمل لتفشّي فيروس «كوفيد-19». في غضون ذلك، قد تكون سياسة الصين الخارجية التوسعية تجاه تايوان مسؤولة عن تراجع القدرات الصناعية والتكنولوجية في العالم تزامناً مع احتدام الاضطرابات والعقوبات بسبب تصنيع الرقائق. كان هارفي محقاً حين قال إن الأشكال الأوروبية من الرأسمالية قد لا تكون النماذج الاقتصادية الأكثر تأثيراً على المستوى العالمي أو البيئي على المدى الطويل عند مقارنتها بالخليط الصيني الاستثنائي الذي يجمع بين الماركسية، والنزعة التنموية، والرأسمالية.

على غرار جيل الطفرة السكانية اليساري الجديد الذي انبثق من انتفاضات أيار 1968 وكان معادياً للاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في آن، قد يختار الجيل الرقمي التخلي عن الرأسمالية الغربية أو الصينية ويفضّل النزعة الدولية التي تُعبّر عنها الحلول التكنوقراطية على المستوى العالمي أو الاحتجاجات الشعبوية والمعادية للرأسمالية محلياً. لكن على عكس جيل الألفية الأكبر سناً، لن يستفيد هذا الجيل من دولٍ قوية لطرح مطالبه الشعبوية. من المتوقع أن تتشتت الحكومات الوطنية، التي ضَعُفت أصلاً بسبب سياسات التقشف المُطبّقة منذ العام 2008، نتيجة تجدّد الصراع بين القوى العظمى، وهشاشة سلاسل الإمدادات، والانهيار البيئي. من المستبعد أن يحصد كتاب Grundrisse رواجاً واسعاً على المستويَين الدولي والتكنوقراطي، مع أن البعض لا يعتبر ماركس نبيّاً بل مُحللاً براغماتياً.


مع ذلك، قد يُوجّه هذا الكتاب الجهود الشعبية في الولايات المتحدة، ويسمح بمقاومة التغير المناخي والأتمتة، ويُسهّل التفكير بالتحديات التي تطرحها الصين في عصرنا الذي أصبح متعدد الأقطاب اليوم. لم يكن ماركس مُخوّلاً لتحليل تعدد الأقطاب على الأرجح. توقّع كتابه The Communist Manifesto (البيان الشيوعي) نهاية محددة لتاريخ جميع المجتمعات، وهي نهاية كان يُفترض أن يُمثّلها الاتحاد السوفياتي قبل أن يأتي فشله ويُضعِف ذلك الادعاء. كانت تلك اللحظة بمثابة انتكاسة كبرى لحركة غطّت نصف العالم قبل بضعة عقود. في هذا السياق، كتب المؤرخ الألماني الأميركي والتر لاكور في صحيفة «نيويورك تايمز»، بعد أشهر قليلة على سقوط الاتحاد السوفياتي: «عصر الشيوعية انتهى بهدوء في الوقت الراهن. لكنّ الضربة الكبرى قد تأتي في أي لحظة». ها قد وصلت تلك الضربة الآن، وهي تعصف بعالمنا الفوضوي والمليء بتقنيات وإمبراطوريات جديدة، وتتراجع التجارب التاريخية المثبتة التي تسمح بتوجيه المسؤولين في المراحل المقبلة. لهذا السبب، يُعتبر كتاب Grundrisse الدليل المثالي لمساعدتنا على فهم الأزمات المتداخلة والمضطربة في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين كونه يقدّم أفكاراً أقل حتمية من كتاب ماركس الأكثر رواجاً.