كازوتو سوزوكي

النموذج الياباني لمحاربة "كوفيد - 19"

6 أيار 2020

02 : 00

وفق إحصاءات وزارة الصحة والعمل والرعاية الاجتماعية، أصيب 11772 يابانياً بفيروس "كوفيد - 19" بدءاً من 23 نيسان وبلغت حصيلة الوفيات 287 شخصاً. تشهد هذه الأرقام تصاعداً مستمراً ومتسارعاً في الأسابيع الأخيرة. لكن رغم تسجيل أول حالة في اليابان منذ أكثر من ثلاثة أشهر، في منتصف كانون الثاني الماضي، تبقى الإصابات والوفيات المؤكدة أقل بكثير من بلدان أخرى.

وجد الخبراء ووسائل الإعلام الخارجية صعوبة في تفسير مظاهر الوباء في اليابان. تكلم البعض عن وجود مؤامرة وانتشرت ادعاءات مفادها أن الأرقام المسجلة هناك بقيت منخفضة عمداً للالتزام بجدول ألعاب طوكيو الأولمبية. عملياً، كان عدد اختبارات "تفاعل البلمرة المتسلسل" (PCR) صغيراً جداً وبقي أقل من 10 آلاف في اليوم حتى الآن. وأعلنت الحكومة أنها تنوي مضاعفة أعداد الاختبارات، ولو أن العدد المستهدف يبقى منخفضاً نسبياً. لا شك في أن عدداً كبيراً من المصابين لم يخضع للاختبار، لكنّ إخفاء أعداد الوفيات يطرح المزيد من التحديات الصعبة.

في مطلق الأحوال، يمكن اعتبار هذا العدد المنخفض نسبياً من الوفيات دليلاً على نجاح "النموذج الياباني" في محاربة وباء "كوفيد - 19"، حتى هذه المرحلة على الأقل. لكن لم يفهم الكثيرون تفاصيل هذا النموذج الياباني جيداً، فقد كانت النتائج التي نقلتها تقارير وسائل الإعلام الخارجية خاطئة ونشأ نوع من سوء التفاهم في هذا المجال.





ما هو النموذج الياباني إذاً؟ في المقام الأول، إنه "نهج عنقودي" مشتق من فرضية طرحتها دراسة وبائية ترتكز على بيانات صينية وجرت على متن السفينة السياحية "دايموند برنسيس" التي دخلت إلى ميناء "يوكوهامــــــا" في 3 شباط 2020. تأخذ هذه الفرضية بالاعتبار عدد الركاب غير المصابين بفيروس كورونا رغم احتكاكهم بالمصابين. هي تفترض أن الزيادة الهائلة في عدد المصابين تنجم عن سهولة انتقال العدوى من مرضى يحملون المواصفات نفسها. يبدو أن المصابين القادرين على نقل العدوى أكثر من غيرهم يشكّلون جماعات متشابهة إضافية ويصيبون عدداً كبيراً من الناس الآخرين. بناءً على هذه الفرضية وبحسب النهج العنقودي، يتم تعقب كل جماعة وصولاً إلى مصدر العدوى الأصلية ويُعزَل أكثر الأفراد قدرة على نقل العدوى منعاً لانتشار الوباء. لهذا السبب، تحصل الاختبارات المستهدفة ولا حاجة إلى اختبار عامة الناس على نطاق واسع. هذه الطريقة تتناقض مع المقاربات المعتمدة في بلدان أخرى.

يتوقف هذا النهج العنقودي على بيئة تشمل عدداً قليلاً من المصابين ويرصد الجماعات المستهدفة في مرحلة مبكرة. في شباط 2020، عند رصد انتشار العدوى في "هوكايدو"، استُعمِل هذا النهج نفسه. نتيجةً لذلك، نجحت هذه المنطقة في احتواء تفشي الوباء.

لضمان فعالية هذه المقاربة، تحتل التدابير الواقية في المطارات والموانئ أهمية كبرى. استفادت "هوكايدو" من طبيعتها كجزيرة، فكان التحكم بتدفق المصابين إليها سهلاً نسبياً. تبرز الحاجة أيضاً إلى فرض تغيرات سلوكية. في 28 شباط 2020، لم يتكل حاكم "هوكايدو"، ناوميتشي سوزوكي، على أي أساس قانوني حين أعلن حال الطوارئ ودعا السكان إلى ملازمة منازلهم. أخذ السكان تلك الدعوة على محمل الجد وكانوا مسؤولين عن نجاح النهج العنقودي. وبعد نجاح هذه المقاربة في "هوكايدو"، تبنّاها البلد كله في المرحلة اللاحقة. في 25 شباط 2020، نشأ "فريق الاستجابة العنقودية" في وزراة الصحة والعمل والرعاية الاجتماعية.

يتعلق جانب أساسي آخر من النموذج الياباني بطريقة تطبيق التباعد الاجتماعي التي ترتكز على تجنب ثلاثة عناصر: المساحات المغلقة وقليلة التهوئة، والأماكن المكتظة التي يكثر الناس في جوارها، وظروف الاحتكاك المباشر على غرار المحادثات على مسافة قريبة. حاولت مدينة "ووهان" الصينية احتواء انتشار فيروس كورونا، ففرضت الحكومة هناك إقفالاً تاماً للحد من حركة الناس قسراً. طبّقت إيطاليا بدورها هذه المقاربة بعدما خرج الوباء فيها عن السيطرة، ثم أصبحت هذه الطريقة ممارسة نموذجية في البلدان الغربية. كذلك، أصبح الحفاظ على مسافة مترَين بين الناس معياراً اجتماعياً ثابتاً لمنع انتشار الوباء عن طريق قطرات الرذاذ. لكن في اليابان، يُعتبر هذا النوع من التباعد الاجتماعي تدبيراً ثانوياً.

تكمن عوامل أخرى وراء النموذج الياباني، منها عادة وضع الأقنعة على الوجه. تنتشر هذه العادة على نطاق واسع في اليابان، حيث يصاب الكثيرون بحمى القش، وهذا ما يجعل احتمال التقاط العدوى عبر قطرات الرذاذ صغيراً نسبياً. كذلك، لا تُعتبر سلوكيات مثل المصافحة والعناق والتقبيل وأشكال أخرى من الاحتكاك الجسدي جزءاً من مظاهر إلقاء التحية التقليدية في اليابان. ربما يتعلق عامل آخر باعتبار التحادث في القطارات المكتظة، حيث يجلس الناس على مسافات قريبة من بعضهم، سلوكاً غير لائق. هذا الجانب ساهم أيضاً في الحد من نقل العدوى بين الناس عبر قطرات الرذاذ. في المقابل، تُعتبر قاعات الكارايوكي والحانات اليابانية النموذجية، حيث تُقام المحادثات بصوت مرتفع، مصادر معروفة للعدوى وبؤرة للمصابين المحتملين. لذا سيكون تجنب العناصر الثلاثة الواردة في خطة التباعد الاجتماعي أساسياً في النهج العنقودي.

قد تبدو هذه المقاربة والعناصر الثلاثة المذكورة غريبة في البلدان التي فرضت تدابير الإقفال التام، حتى أنها قد تُعتبر رهاناً خطيراً بنظر البعض. يشهد عدد المصابين اليابانيين ارتفاعاً متزايداً، وقد أعلنت الحكومة حالة الطوارئ في 7 نيسان 2020 في سبع محافظات، بما في ذلك طوكيو، قبل أن يشمل هذا التدبير البلد كله لاحقاً. لكن على عكس تدابير الإقفال التام المفروضة في البلدان الأجنبية، يسمح هذا التوجّه بتشغيل المصانع ومتابعة بعض النشاطات الاقتصادية الأخرى. قد تبدو هذه الاستراتيجية متساهلة بنظر البلدان الخارجية، لكنّ سياسة إغلاق مصادر العدوى المحتملة وكبح مسارات الفيروس عبر الجمع بين النهج العنقودي وتدابير التباعد الاجتماعي نجحت في احتواء انتشار الوباء حتى الآن.

في الأيام الأخيرة، انتشرت تقارير مفادها أن عدداً من المستشفيات اليابانية في المدن الكبرى بدأ يفتقر إلى المعدات الواقية الشخصية. إنه فشل في السياسات المعتمدة وليس فشلاً في النهج العنقودي. ونظراً إلى نجاح هذا النهج، شعرت الحكومة بالرضى على نفسها ولم تُخزّن المعدات.





لكن ماذا عن إعلان حال الطوارئ في اليابان؟ هل تعني أن النهج العنقودي بحد ذاته فاشل؟ بل إن العكس صحيح! لطالما افترض هذا النهج أن زيادة الإصابات غير المعلن عنها تتطلب تدابير حكومية أكثر تشدداً. ثم يجب أن تهدف هذه التدابير إلى تقليص حالات دخول المستشفى الجديدة بدرجة تسمح بإعادة تنشيط النهج العنقودي. تراجع عدد الحالات المؤكدة الجديدة في طوكيو من 197 في 11 نيسان إلى 132 في 22 نيسان. لا يزال الوقت مبكراً لربط هذا الوضع بحال الطوارئ، لكن يبدو أن دعوة حاكمة طوكيو، يوريكو كويكي، الناس إلى ملازمة منازلهم قبل إعلان الحكومة الوطنية لحال الطوارئ تعطي أثراً معيناً في هذا الإطار.

يرتكز النموذج الياباني على الظروف الجغرافية والاجتماعية داخل البلد ولا يمكن تطبيقه في بلدان أخرى. لم يتأكد أحد بعد من إمكانية أن يتابع هذا النموذج سجله الناجح. تطبّق كوريا الجنوبية وسنغافورة مقاربات مشابهة عبر استخدام نظام تعقب شخصي أكثر تطوراً، ما يطرح مشاكل على مستوى الخصوصية. بدأت اليابان تنشر نظامها الخاص، ولو أنه أقل تدخلاً بشؤون الناس. لكن يمكن اعتبار تراجع الوفيات بسبب فيروس "كوفيد-19" في اليابان دليلاً على نجاح النموذج الياباني حتى هذه اللحظة. يسمح هذا النموذج بالقيام بدرجة معينة من النشاطات الاقتصادية ويحافظ على حرية الناس بالتنقل، ويمكن التمسك بهذا النهج على المدى الطويل أكثر من النماذج الصارمة على غرار الإقفال التام. يبدو أنها استراتيجية قابلة للاستمرار إذاً لخوض المعركة الطويلة ضد "كوفيد - 19".


MISS 3