طوال أكثر من ثلاثة عقود، كانت هيمنة الجيش الأميركي على العالم الركيزة الأساسية لاستراتيجية الولايات المتحدة وسياستها الأمنية. لكن تلاشى التفوق العسكري الأميركي على الصين لاحقاً بسبب انتشار التكنولوجيا، وتنامي التحديات العالمية، ومظاهر القوة البالية، وقد تستغل بكين موقعها الجغرافي وقدراتها المتطورة للفوز في أي حرب إقليمية ضد تايوان. من دون التأكد من استمرار الهيمنة العسكرية التي منحت واشنطن حتى الآن القدرة على منع الأعمال العدوانية وقمعها في شرق آسيا، سيحتاج القادة الأميركيون الباحثون عن نظام ردع تقليدي إلى تصميم استراتيجية مختلفة.
رغم الخطاب السائد في أجزاء من واشنطن، لا تبدو الحرب مع الصين وشيكة، ويحمل أي غزو محتمل لتايوان مخاطر عدة على الحزب الشيوعي الصيني الذي يواجه أصلاً تحديات متزايدة على المستويات الاقتصادية، والديمغرافية، والدبلوماسية. لثني بكين عن إطلاق غزو مماثل، قد يحتاج الجيش الأميركي بكل بساطة إلى تكرار الفكرة الصينية التي تتوقع أن يكون أي صراع طويلاً ومكلفاً جداً. بدل تحسين الجيش الأميركي استباقاً لغزو قد لا يحصل يوماً، يجب أن تطلق واشنطن حملة طويلة الأمد لإضعاف ثقة بكين بمجموعة من المسارات العنيفة التي تفكر بها لتحقيق طموحاتها في تايوان والمنطقة. يُفترض أن تشمل هذه الحملة وسائل عسكرية وغير عسكرية لتقريب الصين من خيارات مسؤولة وسلمية ومساعدتها على بلوغ أهداف سياستها الخارجية.
برأي مؤيدي استمرار استراتيجية الردع المبنية على منع تحركات الطرف الآخر، تقضي أفضل طريقة لردع بكين بجعل غزو تايوان مستحيلاً عبر جمع قدرات هجومية كافية في المنطقة لإقناع الرئيس الصيني شي جين بينغ بفشل أي هجوم محتمل. وبما أن الصين تدير اليوم أكبر قوات بحرية، وجيش، وقاعدة صناعية، وقوة صاروخية، وأسطول مدني في العالم، أصبحت هذه الخطة غير واقعية على المدى الطويل. كذلك، قد يستحيل منع سيناريوات معينة مثل الحصار الصيني، أو الحجر الصحي، أو إطلاق عمليات ضد جزر تايوان الأصغر حجماً.
يعني منع العمليات في هذه الظروف المستجدة نشر الشكوك وسط القادة الصينيين، فلا يثقون بنجاح خططهم بالشروط التي ترضي بكين. يسهل أن يخسر الغزو الدعم الذي يحظى به إذا بدأ يستنزف الموارد على غرار الحرب الروسية في أوكرانيا، أو إذا أدى إلى تدهور اقتصاد الصين المتخبط أصلاً، وسيصبح أي انتصار في هذه الحالة مكلفاً أكثر من اللزوم. لكن لا تزال الخطط الدفاعية والقرارات الأميركية تركّز على نسبة نجاح العمليات أو الأنظمة في ساحات المعارك في شرق آسيا، بدل تقييم قدرة النتيجة النهائية على جعل شي جين بينغ وقادة صينيين آخرين يترددون قبل شن أي عدوان محتمل.
لفهم هذه المقاربة وتجديد الدور الاستراتيجي في التخطيط الدفاعي، يجب أن تبدأ وزارة الدفاع الأميركية بتنفيذ توجيهاتها الخاصة. يُعتبر مفهوم إطلاق الحملات من أهم عناصر استراتيجية الدفاع الوطني للعام 2022، وهو يشير في العقائد العسكرية إلى سلسلة منظّمة من التحركات العسكرية وغير العسكرية لتحقيق أهداف محددة. لكن أصبح عنصر إطلاق الحملات في الاستراتيجية الأميركية التي يطبقها البنتاغون عملياً مجرّد بند على صلة بالميزانية والجهوزية العسكرية، وهو يدخل بسهولة في خانة النقاط الأخرى التي تتألف منها الاستراتيجية الدفاعية.
بدل استعمال الحملات إذاً لتبرير الميزانية وإطلاق مجموعة متنوعة من برامج التدريب، والصيانة، والانتشار العسكري، والعمليات، يجب أن تتعامل وزارة الدفاع الأميركية بجدّية مع مفهومها الخاص عن الحملات، فتبني استراتيجية كفيلة بتوجيه آراء القادة الصينيين.
تنشغل الصين منذ الآن بحملتها الخاصة، وهي تتضح عبر التدخلات البحرية والجوية المتواصلة في مياه تايوان ومجالها الجوي، فضلاً عن تنفيذ تدريبات أخرى لتنفيذ الغزو. تبقى أعداد القوات العسكرية، والسفن، والطائرات، والصواريخ، والمركبات المستعملة أقل بكثير مما يحتاج إليه البلد لغزو جزيرة فيها 23 مليون نسمة، لكن لا تهدف هذه العمليات أصلاً إلى اختبار جيش التحرير الشعبي الصيني أو القوات التايوانية، بل تُعتبر هذه التطورات جزءاً من حملة هدفها توجيه الآراء محلياً وخارجياً.
لا يعني ذلك أن وزارة الدفاع الأميركية لم تحرك ساكناً لتوجيه عملية صناعة القرار في الصين. في آخر سنتين، تلاشت ثقة القادة الصينيين بقوتهم بعد إبرام الميثاق الأمني «أوكوس» بين أستراليا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، وتكثيف التعاون العسكري مع الفيلبين واليابان، ومتابعة دعم أوكرانيا.
يذكر تقرير جديد صادر عن «معهد هادسون» أن الاستراتيجية المناسبة لإطلاق حملات فاعلة يجب أن ترتكز على هذا النوع من المبادرات. لا يمكن تكرار خطوات كبرى مثل اتفاق «أوكوس» في أي لحظة أو تحديد التوقيت المثالي لعقد اتفاقيات مماثلة وضمان أفضل نتيجة ممكنة، وهذا ما يُضعِف منافعها كشكل من الإنذار الموجّه إلى الطرف الآخر. لكن قد تسمح تحركات بسيطة مثل تغيير تركيبة القوات العسكرية، وقدراتها، وتكتيكاتها، ومواقعها، والعمليات المشتركة مع الحلفاء، باستخلاص إشارات متنوعة ومتكررة من طريقة تجاوب الصين مع هذه المستجدات، واختبار الفرضيات المتعلقة بالمجالات التي تثير قلق الصين أو تؤثر على ثقتها بنفسها، وتحسين فرص تغيير القناعات الصينية.
خلال الحرب الباردة، طبّق قادة الأمن القومي الأميركيون مقاربة مشابهة لفضح مشاكل السوفيات واستغلالها على مستوى الدفاع الصاروخي المحلي ونقاط ضعف الغواصات. أما اليوم، فتستطيع تكنولوجيا المعلومات الجديدة أن تدعم هذه العملية وتسرّع وتيرتها، بدءاً من صور الأقمار الاصطناعية مفتوحة المصدر وصولاً إلى تحليل أنظمة الحلول الحسابية. بدل استخدام التكنولوجيا بطريقة تقليدية لوضع خطط تمهيدية للعمليات المرتقبة، يُفترض أن تُستعمل لتصميم وتنظيم خطط على صلة بإطلاق حملات مستهدفة.
تحتاج الحملات الأميركية إلى عنصر المفاجأة لاستخلاص معلومات مفيدة عن جيش التحرير الشعبي وقوات أمنية صينية أخرى. تطلق التحركات المتوقعة، مثل العمليات القائمة على مبدأ حرية الملاحة، ردود أفعال رسمية معروفة لا تكشف شيئاً عن مخاوف القادة الصينيين أو مستوى ثقتهم بقدراتهم. في المقابل، قد تنتج أي تدريبات غير متوقعة ومتعددة الأطراف أو أي قدرات عسكرية جديدة كانت تجريبية سابقاً في شرق آسيا أفكاراً مختلفة انطلاقاً من مواقف وتحركات المؤسسات الأمنية الصينية.
يحمل الجيش الأميركي منذ الآن جوانب مفاجئة عدة ميدانياً، وعلى رفوف مختبرات البنتاغون، وفي المراكز الحربية، والوكالات. تطرح التركيبات الجديدة في الوحدات أو الأنظمة الأميركية القديمة والناشئة، وتلك المشتركة مع الحلفاء، وحتى المفاهيم المرافقة للعمليات، خيارات لامتناهية لرصد إشارات وتفاعلات جديدة وغير متوقعة من الصين. كانت مبادرة «القيادة والسيطرة المشتركة في جميع المجالات» التي أطلقها البنتاغون تهدف في الأساس إلى تسهيل هذا النوع من التبادلات، لكن لم تحقق تلك الجهود هدفها. في المقابل، تبدو المساعي التي بذلها الكونغرس الأميركي حديثاً لمساعدة القادة العسكريين الأميركيين على الجمع بين أجهزة الاستشعار، وأنظمة التشغيل، والأسلحة من جميع الفئات، واعدة بدرجة إضافية.
لزيادة تأثير هذه التحركات على قناعات القادة الصينيين، يجب أن تُحقق المفاجآت المرافقة للحملات الناشئة هدفَين أساسيَين: إضعاف استراتيجية جيش التحرير الشعبي المرتبطة بمهاجمة أنظمة الاتصالات الأميركية المعروفة ونقاط الضعف اللوجستية، وإخماد آمال الصينيين بتحقيق انتصار سريع أو غير مكلف عبر إثبات جهوزية الولايات المتحدة وحلفائها لخوض صراع مطوّل. من خلال هزم استراتيجية جيش التحرير الشعبي وإثبات استعداد خصوم الصين للمواجهة على المدى الطويل، قد تنجح الحملات الأميركية في إقناع بكين بأن أي هجوم محتمل ضد تايوان أو أحد حلفاء واشنطن قد يصبح فوضوياً ومكلفاً ومعقداً بقدر المغامرة الروسية الشائبة في أوكرانيا.
تهدف استراتيجية واشنطن العسكرية في الوقت الراهن إلى إقناع الرئيس شي جين بينغ بفشل أي غزو محتمل في ساحة المعركة، علماً أن هذه الفكرة تفترض مسبقاً استمرار الهيمنة العسكرية الأميركية في المنطقة. لهذا السبب، يجب أن تُركّز الحملات المرتقبة على كبح نزعته إلى تفضيل التحركات العدائية منذ البداية، ما يجعل المسارات الأخرى أكثر جذباً بالنسبة إليه. يتطلب هذا النوع من استراتيجيات الردع أن يتقبل القادة الأميركيون استمرار القوة الصينية وعدم تخلي الرئيس الصيني عن أهدافه، وأن يقتنعوا بأن شيئاً لم يعد يضمن الهيمنة العسكرية الأميركية. لكنّ التركيز على حملة الردع قد يكون المسار الوحيد لضمان تعايش سلمي في عالمٍ لم تعد الولايات المتحدة تطغى عليه.