نحن نعيش الآن في العصر الذهبي للتكنولوجيا، حيث أصبح الذكاء الاصطناعي ركيزة أساسية في نسيج حياتنا اليومية، يتم استخدامه في العديد من المجالات مثل التجارة الإلكترونية والروبوتات والنظم الذكية والطب والصحة والترفيه والتواصل الاجتماعي وغيرها. ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل القلق المتنامي بشأن الواقع المستقبلي حيث قد تتمكن الآلات من التحكم في البشرية بدلاً من خدمتها.
وفي هذا السياق، قد أعرب أيلون ماسك مؤسس شركة"سبايس أكس" ان أحد اهم أهدافه من استكشاف الفضاء هو حفظ الوعي البشري في حال خراب العالم جراء حرب كونية أو بفعل ارتقاء الذكاء الاصطناعي وفتكه بالبشر.
وفي سياق آخر، طالب مصطفى سليمان، الرئيس التنفيذي لشركة inflection AL ومؤسس deep mind المتخصصتين بتطوير برامج الذكاء الاصطناعي، واشنطن بتقييد مبيعات الرقائق الإلكترونية التي تصنعها الشركة الأمريكية انفيديا مُحذراً من أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ستفلت من السيطرة البشرية بمجرد أن تفهم صانعيها وهو ما يعرف بالذكاء الفائق.
ولعل أبرز العيوب التي بدأت بالظهور بشكل ملحوظ، تلك المتعلقة بدمج الذكاء الاصطناعي في منصات التواصل الاجتماعي كانتهاك الخصوصية والتحيزات الخوارزمية وتضخيم المعلومات الخاطئة وتآكل التفاعل البشري، لذا أصبح لا بد من التنبه للجانب المظلم للذكاء الاصطناعي المُدمج في منصات التواصل الإجتماعي ومناقشة الاعتبارات الأخلاقية المحيطة بتنفيذه، مع التركيز على الحاجة إلى ممارسات مسؤولة وأطر تنظيمية للتخفيف من الآثار السلبية وتحقيق التوازن بين الفوائد المحتملة لاستخدامه مع المحافظة على القيم الإنسانية.
تضخيم المعلومات المضللة
إن تضخيم المعلومات المضللة يجعل المستخدمون يشعرون بعدم الارتياح تجاه نطاق جمع البيانات واحتمالية إساءة استخدامها ،مما يؤدي إلى فقدان الثقة في مصداقية الأخبار المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي خصوصا وقد عمد بعض مستخدمو تلك المنصات مؤخرا الى زعزعة الثقة بالمنتج الصحفي وقد تراجع التفاعل معه بالفعل إضافة إلى عدد من الأسباب المحتملة جزئيا بسبب التغيرات الأوسع التي يستخدمها الناس في الشبكات الاجتماعية، كانخفاض استخدام فيسبوك بشكل عام وخاصة بين الجماهير الأصغر سنا إلى جانب ابتعاد ميتا عن التركيز في الأخبار، وحماية موقع أكس )تويتر( سابقا"، للحريات بشكل مفرط وغير مسؤول مع عدم فلترة المحتوى الضار وحجبه رغم إقرار أ يلون ماسك في وقت سابق إلى أن جميع شركات الذكاء الاصطناعي تستخدم بيانات تويتر العامة بطريقة غير مشروعة.
وهذا ما أكده أيضا تقرير المؤشر العربي للعام 2022، والصادر عن المركز العربي للأبحاث والدراسات، حيث أظهر أن نسبة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي لمتابعة الأخبار واستهلاكها عربيًا في الفضاء الرقمي لا تتجاوز السبعة في المئة.
تعزيز الفقر الرقمي:
قد يتساءل البعض لماذا نرى انخفاضات في المشاركة المفتوحة والنشطة مقابل ارتفاعات في الاستهلاك السلبي خاصة في عالمنا العربي؟
تثير زيادة الفقر الرقمي استفسارات حول تراجع المشاركة الفعّالة على الإنترنت وتصاعد الاستهلاك السلبي في الواقع العربي. يعود هذا الأمر جزئياً إلى الاتجاه الذكي للمحتوى الذي يميل إلى تفضيل المحتوى الشعبي على حساب الأنواع التعليمية والمفيدة التي تساعد في تنمية مهارات البحث والتفكير النقدي للمستخدمين.
إضافة إلى عدم توفر التكنولوجيا الحديثة بشكل متساوي في مختلف أنحاء المجتمع، حيث تعرقل القيود المالية والمصرفية في بعض البلدان الوصول إلى العملات الصعبة وسحب الأموال من البنوك كما يحصل حاليا في لبنان نتيجة الأزمة الاقتصادية والمالية العصيبة، مما يجعل من الصعب على المواطنين اللبنانيين استقبال الأموال من منصات التواصل الاجتماعي، وربما هذه احدى اهم الأسباب التي دفعت شركة "ميتا ،"واحدة من أبرز شركات التكنولوجيا، إلى حجب خاصية الحصول على بدل مادي جراء البث المباشر على فيسبوك وانستغرام في لبنان في حين أن هذه الخاصية متاحة للمقيمين في الولايات المتحدة التي تُظهر إطارًا تشريعيًا وقانونيًا يدعم الاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية, إضافة إلى وجود قواعد تحكم الدفعات المالية والإيرادات المتحققة من البث المباشر على فيسبوك وغيره من مواقع التواصل النشطة مما يشجع بعض العاطلين عن العمل في الخارج على إنشاء محتوى جدلي أو ترفيهي بهدف زيادة المشاهدات وتحقيق إيرادات رقمية أعلا، في حين يهدر المتابع العربي وقته دون الاستفادة الكاملة من الإنترنت كمصدر للتعلم والتطوير الشخصي أو الربح المادي.
الفلترة الإيديولوجية:
يستخدم الذكاء الاصطناعي على مواقع التواصل الاجتماعي خوارزميات لتقديم المحتوى المناسب على أساس اهتمامات المستخدمين مما يؤدي إلى تعزيز الفلترة الإيديولوجية حيث يتم عرض الآراء والمعلومات التي تتناسب مع اهتمامات المستخدم الحالية ،وبالتالي يساهم في انتشار المعلومات المضللة وخطاب الكراهية والأيديولوجيات المثيرة للخلاف.
مثال على ذلك، إذا قمت في البحث عن موضوع معين على الويب ستلحظ مع الوقت أن المواضيع ذات صلة ستظهر لك تباعا وهذا ما يحصل على مواقع التواصل مما يعزز الانغلاق في دوائر معلوماتية ضيقة. كما قد تعطي الخوارزميات المصممة لتحقيق أقصى قدر من مشاركة المستخدم الأولوية للمحتوى المثير للجدل ،وذلك للحصول على مزيد من التفاعل مما يؤدي إلى مزيد من التشنج وقد يكون لذلك عواقب وخيمة على الخطاب العام، والثقة في المؤسسات، والعمليات الديمقراطية، وقد تحدثت الكاتبة الأميركية شوشانا زوبوف في كتابها الشهير the age of surveillance capitalism عن مدى التأثير السلبي للذكاء الاصطناعي على مواقع التواصل الاجتماعي إذ اعتبرته واحدًا من أوجه "رأسمالية المراقبة " في العصر الرقمي الحديث حيث يتم استخدام الذكاء الاصطناعي وتقنيات التعلم الآلي عبر الشبكات الاجتماعية ومنصات التواصل لجمع كمية ضخمة من البيانات الشخصية للمستخدمين، مثل التفضيلات والإعجابات والتفاعلات والسلوكيات على الإنترنت وتحليل هذه البيانات وتفسيرها لأغراض مراقبة أكثر تعقيدًا و لإنشاء ملفات تعريف مفصلة عن المستخدمين، مما يمكنّ الشركات والمعلنين من توجيه الإعلانات والمحتوى وفقًا لاهتماماتهم كما قد يتم استخدام هذه المعلومات بطرق غير أخلاقية أو غير قانونية، مثل بيع البيانات الشخصية لأطراف ثالثة أو استخدامها للتلاعب بالمعتقدات والسلوكيات الشخصية للأفراد.
تطور التكنولوجيا الخبيثة:
أيضا يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي بشكل خبيث لإنشاء تلاعبات متقدمة مثل "الوجه العميق "و"الصوت المزيف"، هذه التقنيات يمكن استخدامها لخداع المستخدمين والتأثير على الوعي البشري ونشر المعلومات الزائفة بشكل أكبر وأوسع مما يجعل الحقيقة يتيمة عاجزة عن الولوج الى الأذهان والعقول.
فقد صرحت صحيفة "واشنطن بوست" عن استخدام المحتالين نماذج الذكاء الاصطناعي المصممة لمحاكاة صوت الإنسان في تقليد أصوات الأقارب والأصدقاء لعدد من الأشخاص وطلب المساعدة منهم ومن ثمَ الاحتيال عليهم وسرقة آلاف الدولارات ،وآخر ين استعملوا تقليد الأصوات بغية بث الأكاذيب والادعاءات الباطلة لإيهام من يسمعها على أنها حقيقية مسربة, والحري بالذكر انه يصعب اكتشاف ما إذا كان الصوت حقيقيا أو صناعيا، حتى عندما يبدو الظرف الطارئ الذي يصفه المحتال بعيدا عن المنطق القابل للتصديق, ويتم ذلك بمساعدة روبوتات بشرية او عبر استخدام حسابات وهمية قد تبدو وكأنها حقيقية.
وتشير تقديرات اي سي سي 2 وهي أكبر رابطة في العالم لمحترفي الأمن السيبراني، انه لا يزال هنالك حوالي ٤.٧ مليون وظيفة شاغرة في هذا المجال، وتصرح روسو، الرئيسة التنفيذية، ان الفجوة هائلة وهناك نقص في المواهب والمهارات في مجال حماية الأمان والخصوصية يقابله ازدياد في نسبة القرصنة وتهديدات الاختراق.
في حين حقق الذكاء الاصطناعي تطورات ملحوظة في وسائل التواصل الاجتماعي، لا بد من الاعت راف بالتحديات والعيوب المحتملة المرتبطة بتنفيذه والحاجة الماسة لوضع معايير أخلاقية صارمة إزاء استخدامه ,وللتمكن من التصدي لهذه التحديات, يجب على الدول والمنظمات والشركات والحكومات التعاون من أجل وضع معايير دولية وتنفيذ القوانين الضرورية لمنع سوء الاستخدام وحماية البيانات الشخصية والخصوصية ومكافحة التجاوزات والحفاظ على الشفافية ومكافحة الاستغلال, كما يجب تعزيز التعليم حول مفهوم الذكاء الاصطناعي وأثره على المجتمع والاقتصاد من خلال تضمين مكونات تعليمية في المناهج الدراسية حول الوعي الرقمي والاستدلال الصحفي وتشجيع المشاركة المدنية ودعم الجهود التي تهدف إلى الحفاظ على الديمقراطية وحرية الصحافة عبر الإنترنت مما يعطي المستخدمين فرصًا أوسع للتعرف على وجهات نظر متعددة والوصول إلى معلومات متنوعة.
لذا ينبغي التعامل بجدية مع هذه التحديات كمجتمع عالمي وتشجيع التوعية على التحليل النقدي للمعلومات والتحقق من مصداقية المصادر للكشف عن المحتوى الضار والتصدي له وإعطاء الأولوية للقيم الإنسانية وتعزيز المجتمعات عبر الإنترنت في عصر التكنولوجيا المتقدمة.
يبقى السؤال، هل سيستطيع الإنسان التغلب على شهواته وتسخير التطور التكنولوجي الحاصل في الخير للحد من الشر؟