منذ عقود، إعتاد صانعو السياسة الأميركية عند زيارة الهند على الإشادة بجمال السياسة الهندية، وتنوع البلد، والقيم المشتركة التي تربط بين «أقدم ديمقراطية» و»أكبر ديمقراطية» في العالم. قد يبدو هذا الموقف مبالغاً فيه، لكن لا تعتبره واشنطن فارغ المضمون. برأي صانعي السياسة الأميركية، ستكون المبادئ الديمقراطية المشتركة ركيزة لأي علاقة متواصلة ومهمّة استراتيجياً بين الولايات المتحدة والهند. هم يعتبرون المصالح المشتركة والرؤية العالمية المتشابهة حتمية بين أكبر ديمقراطيتَين في العالم.
لطالما بدا استعمال القيم الديمقراطية كركيزة أساسية للعلاقات الأميركية الهندية مقاربة مشبوهة، لكن اتّضح اليوم أنه نهج محكوم بالفشل لأن مفهوم القيم المشتركة بحد ذاته يبدو وهمياً. منذ أن أصبح ناريندرا مودي رئيس حكومة الهند قبل تسع سنوات، تزداد الشكوك بمكانة الهند كدولة ديمقراطية. شهدت «أكبر ديمقراطية في العالم» فورة في أعمال العنف ضد الأقلية المسلمة، وغالباً ما تكون هذه الحملات من تنظيم كبار السياسيين. يحاول البلد تجريد ملايين السكان المسلمين من الجنسية، ويقمع الصحافة، ويُسكِت شخصيات المعارضة. كانت إدارة جو بايدن قد طرحت نفسها كمدافعة أولى عن المبادئ الديمقراطية، لذا لا مفر من أن تواجه موقفاً شائكاً حين تتكلم عن القيم المشتركة عند التطرق إلى الشراكة القائمة بين الولايات المتحدة والهند.
لكنها لا تكفّ عن إطلاق هذا النوع من المواقف. في شهر كانون الثاني مثلاً، أعلن البيت الأبيض أن المبادرات التكنولوجية المشتركة بين البلدين «ترتكز على القيم الديمقراطية المشتركة واحترام حقوق الإنسان العالمية». لكن صعّبت الحكومة الهندية في شباط جمع الأموال لصالح منظمة بحثية هندية رائدة، وهي ضربة كبرى للحرية الفكرية. وفي آذار، أخرج حزب مودي واحداً من أشهر السياسيين المعارضين الهنود من البرلمان لأنه أهان رئيس الوزراء.
لكن رغم ضعف القيم المشتركة بين البلدين، زادت قوة المصالح المادية التي تجمعهما. اليوم، تواجه الولايات المتحدة والهند خصماً جيوسياسياً واضحاً ومشتركاً في الصين، ويفهم كل واحد منهما أن الطرف الآخر يستطيع مساعدته للفوز في المنافسة مع بكين. برأي الولايات المتحدة، تُعتبر الهند قوة محورية ضخمة في آسيا، وهي تقع بين ممرات بحرية أساسية وتتقاسم حدوداً برية طويلة ومتنازع عليها مع الصين. أما الهند، فهي تعتبر الولايات المتحدة مصدراً جاذباً للتكنولوجيا المتقدمة، والتعليم، والاستثمارات. قد تحافظ نيودلهي على روابط وثيقة مع موسكو، لكن تعني نوعية الأسلحة الروسية المشكوك بها أن الهند أصبحت أكثر استعداداً من أي وقت مضى لشراء الأسلحة من الغرب.
لكن للاستفادة من هذه المصالح المادية المتشابكة، يجب أن تتخلى الولايات المتحدة عن الفكرة القائلة إن القيم المشتركة قد تشكّل ركيزة لعلاقة قوية، فتبرر تحمّلها لتصرفات نيودلهي على أساس حصول تلاقٍ معيّن بينهما على المدى الطويل. بدل اعتبار الهند حليفة في المعركة الداعمة للديمقراطية العالمية، يجب أن تعتبرها حليفة مصلحة. لن يكون هذا التحوّل سهلاً لأن واشنطن أمضت عقوداً عدة وهي تحمل نظرة إيجابية عن نيودلهي، لكن سيدرك الطرفان حينها أن علاقتهما تقوم على المصالح ويبدآن بإطلاق جهود مشتركة جدّية.
عدو عدوّي
يجب أن تتوخى واشنطن الحذر في تعاملها مع نيودلهي، فتدرك أن رغبة الهند في التعاون معها هي وليدة الظروف وقد تتلاشى في أي لحظة. أمضت الهند معظم السنوات التي تلت الحرب الباردة وهي تتخبط لتحديد دورها المناسب بين بكين وواشنطن، وكانت توافق على مبادرات الصين في معظم الأوقات. ورغم الاشتباكات الحدودية المتكررة، لا تزال التبادلات التجارية التي تجمع الهند بالصين والولايات المتحدة شبه متساوية. كذلك، تبقى نيودلهي جزءاً من منظمة شنغهاي للتعاون التي أسستها بكين، ويفضّل عدد كبير من المحللين وصانعي السياسة الهندية نشوء عالم متعدد الأقطاب حيث تملك الهند حرية إقامة علاقات مرنة مع قوى عظمى أخرى بدل العيش في عالم تقوده الولايات المتحدة أو يتأثر بحرب باردة جديدة بين بكين وواشنطن، وهو عالم ستضطر فيه الهند للانحياز إلى طرف دون سواه. تتعلق أكبر مخاوف نيودلهي بوضعها على هامش التطورات الجيوسياسية.
يجب أن يهدف التعاون الأميركي مع الهند إذاً إلى التصدي للتهديدات الصينية الوشيكة. قد تستفيد واشنطن مثلاً من تحسين الجيش الهندي على المدى القصير، لكنّ أي اتفاق في هذا المجال قد يقوي الدفاع الهندي طوال عقود، وهو تطور لا يخدم المصالح الأميركية على المدى الطويل.
يجب أن يدرك المسؤولون الأميركيون أن الهند ليست حليفتهم. لا تشبه علاقتها مع الولايات المتحدة الروابط التي تجمعها مع أعضاء حلف الناتو مثلاً، ولن تطمح الهند يوماً إلى عقد هذا النوع من التحالفات. لهذا السبب، يُفترض ألا يعتبر المسؤولون الأميركيون اتفاقهم مع الهند أساساً لتعميق العلاقات الثنائية. هذا البلد ليس مرشّحاً مناسباً لمبادرات مثل اتفاق «أوكوس» الذي يجمع أستراليا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، لأن هذا النوع من الاتفاقيات يتطلب تقاسم نقاط ضعف أمنية بارزة لا يمكن تبادلها بشكلٍ آمن إلا مع ديمقراطيات ليبرالية قوية. كذلك، لن تتمكن واشنطن مطلقاً من تقاسم أي معلومات استخبارية مع نيودلهي كما تفعل مع شركاء «العيون الخمس» (أستراليا، كندا، نيوزيلندا، المملكة المتحدة) بسبب ضعف التزام الهند بالمبادئ الديمقراطية.
في المقابل، يجب أن تدعم واشنطن توسيع مشاركة الهند في المنظمات الدولية التي تنتمي إليها نيودلهي أصلاً. سيكون صوت الهند أساسياً على الساحة العالمية نظراً إلى حجم مجتمعها وتنوّعه. لكن عند النظر إلى مستوى الاختلافات بين الهند والولايات المتحدة في المسائل المهمة، كان إيجابياً ألا يوافق أحد على فكرة باراك أوباما حين اقترح منح الهند مقعداً دائماً في مجلس الأمن. يُفترض أن تكبح واشنطن بدورها التوقعات التي تنتظرها من الحوار الأمني الرباعي الذي يجمع أستراليا، والهند، واليابان، والولايات المتحدة. يأمل البيت الأبيض في أن يتحول هذا التحالف الرباعي إلى رابطة من الديمقراطيات الليبرالية في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ. لكن لا يمكن تحقيق هذا الهدف نظراً إلى هوية الهند. مع ذلك، يستطيع التحالف أن يُحسّن طريقة ردع العدوان الصيني في المنطقة، ويُفترض أن يكرّس نفسه لهذه المهمة.
حين تبتعد إدارة بايدن عن محاولات بناء علاقة وهمية وتفضّل الاعتراف بعلاقة واقعية تقوم على المصالح المشتركة، يُفترض أن تستعمل أسلوباً مباشراً. يجب أن توضح الإدارة الأميركية للرأي العام الهندي والأميركي أن المخاوف المشتركة بشأن الصين ومجموعة واسعة من المصالح الأخرى تنتج حوافز قوية وبنّاءة للتعاون. لكن يجب أن توقف واشنطن في المقابل دعم «حزب بهاراتيا جاناتا» الذي يرأسه مودي، وتمتنع عن دعم ظهور عملاق غير ليبرالي آخر في آسيا. يجب أن تدرك الحكومة الهندية من جهتها أن قراراتها السياسية المحلية قد تُعقّد علاقاتها مع واشنطن أو تُهددها. على الناخبين الهنود أن يعرفوا هذه الحقيقة أيضاً.
قد يذهب جزء كبير من خصوم حكومة مودي الأميركيين إلى حد الدعوة لإلحاق انتقادات الشوائب الديمقراطية في الهند بمبادرات ناشطة من الحكومة الأميركية، مثل منح الدعم المادي إلى جماعات حقوق الإنسان الهندية. حتى أن بعض النقاد شجّع واشنطن على تعليق التعاون الأمني الأميركي إذا لم تتراجع الهند عن التدابير الاستبدادية الأخيرة. لكن من المتوقع أن تتردد نيودلهي في إقامة علاقات دفاعية مشروطة، ولن تكون الاستثمارات الداعمة للديمقراطية فاعلة. تبقى الهند مساحة شاسعة ومعقدة لدرجة أن يعجز النفوذ السياسي الخارجي عن اختراقها. وبما أنها دولة نشأت بعد حقبة الاستعمار، يعني ذلك أنها متمرسة في مقاومة التدخل الخارجي، أو تجاهله، أو تضييق نطاقه. من الأفضل إذاً أن يتولى الهنود بأنفسهم مهمة تقوية الديمقراطية الهندية.
حتى الآن، تعني هذه المعطيات كلها أن الولايات المتحدة ستضطر للتعامل مع حكومة بغيضة في نيودلهي. لكنه ليس وضعاً جديداً بالنسبة إلى واشنطن. أمضت الولايات المتحدة سنوات وهي تتعاون مع أنظمة تمقتها لتعزيز الأمن. حتى أنها تعاونت في مرحلة معينة مع البلد الذي تحاول نيودلهي وواشنطن التفوق عليه راهناً. كان انفتاح إدارة نيكسون على الصين في العام 1972 يهدف إلى استغلال الاختلافات بين بكين وموسكو لضمان تفوّق الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. سرعان ما نجحت هذه المساعي، فعمّقت مناورة ريتشارد نيكسون الانقسامات في الحركة الشيوعية العالمية، وشاركت في إخماد انقسامات الجيش السوفياتي على طول الحدود مع الصين، ومنحت واشنطن تأثيراً متزايداً في موسكو.
لكن كانت الأحداث اللاحقة مثيرة للجدل. أدى انفتاح نيكسون في نهاية المطاف إلى فورة من الاستثمارات الأميركية في الاقتصاد الصيني وتكثيف التعاون في مجالات عدة، بما في ذلك الدفاع والأمن أحياناً. وبفضل مساهمات الولايات المتحدة، تحولت الصين سريعاً إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم. لكن كان يُفترض أن تتوقع واشنطن حجم التباينات المرتقبة بين المصالح الأميركية والصينية تزامناً مع تنامي النفوذ الصيني. كان صانعو السياسة الأميركية قادرين على تخفيض سقف توقعاتهم، وتضييق نطاق التعاون الرسمي، أو حتى استبعاد بعض أنواع التجارة. كانوا يستطيعون مثلاً أن يعقدوا شراكة مع بكين لاحتواء موسكو من دون المشاركة في زيادة نفوذ قوة منافِسة لهذه الدرجة.
الهند لا تشبه الصين طبعاً وقد لا تطرح النوع نفسه من التحديات. حتى أن نزعة نيودلهي إلى الاستبداد لم تكن شاملة. رغم جهود الحكومة في هذا المجال، لا تزال الهند تجري انتخابات حرّة، ولو أنها غير نزيهة، وتشمل معارضة محلية مؤثرة. نظراً إلى تنوع المجتمع الهندي، يُفترض أن يتمسك الأميركيون والهنود بأمل أن تتحول الهند مجدداً إلى ديمقراطية ليبرالية أكثر تماشياً مع المبادئ التي تحاول واشنطن ترسيخها.
لكنّ الوضع مختلف في الهند اليوم. يقود زعيم قومي البلد، وهو لا يتحمّل أبسط مظاهر المعارضة. هو جزء من حزب غير ليبرالي بدأ يخسر جوانبه الديمقراطية المتبقية، ويزداد تأثير ذلك الحزب على السياسة المحلية مع مرور الوقت. ما لم تحصل التغيرات المناسبة، لن تتمكن الولايات المتحدة من التعامل مع الهند مثلما تُعامل اليابان، أو كوريا الجنوبية، أو حلفاء الناتو في أوروبا. يُفترض أن تُعاملها في هذه الحالة مثلما تُعامل الأردن، وفيتنام، وأي مجموعة أخرى من الشركاء غير الليبراليين. بعبارة أخرى، يجب أن تتعاون واشنطن مع الهند على أساس المصالح التي تجمعهما بدل التعويل على استمرار القيم المشتركة.