بشارة شربل

باقِِ شعلةً في ضمير لبنان

12 أيار 2020

02 : 00

"قلنا ما قلناه". ذاك‭ ‬التصريح‭ ‬الشهير،‭ ‬كأنه‭ ‬نطق‭ ‬به عشية أسلم الروح قبل عام ليختصر مسيرة حياة وشخصية لم تشهد إلا للحق، ولم تعاند إلا لإحقاقه من أجل لبنان.

وعلى‭ ‬هذا‭ ‬المنوال‭ ‬كان‭ ‬لكلّ‭ ‬مقامٍ‭ ‬مقال‭ ‬منذ‭ ‬أوفى‭ ‬بالنذور‭ ‬وعلّم‭ ‬وترجم‭ ‬وكتب‭ ‬وسِيم‭ ‬كاهناً‭ ‬ومطراناً‭ ‬وبطريركاً،‭ ‬إلى‭ ‬يوم‭ ‬تطلّبت‭ ‬تسوية‭ ‬الطائف‭ ‬رجالاً‭ ‬يتصدرون‭ ‬لقبولها‭ ‬حقناً‭ ‬للدماء. أما يوم‭ ‬ثَقُل‭ ‬عبء‭ ‬الوصاية‭ ‬على‭ ‬صدر‭ ‬البلاد‭ ‬فكان ‬‮"النداء‮"،‭ ‬وصولاً ‬الى‭ ‬‭ ‬"ثورة‭ ‬الأرز"‭ ‬التي‭ ‬استلهمت‭ ‬من‭ ‬نبضه‭ ‬الشجاعة‭ ‬والاصرار‭.‬

كان‭ ‬مِثل‭ ‬أسلوبه. ‬سهل‭ ‬ممتنع. ‬ظلّل ‬‮"قرنة‭ ‬شهوان"‭ ‬بعدما‭ ‬حفرت‭ ‬خطب‭ ‬الآحاد بإبرة الصمود،‭ ‬في‭ ‬الأيام‭ ‬السود‭ ‬زمن‭ ‬النفي‭ ‬والاعتقال،‭ ‬‬مكاناً‭ ‬لتلك‭ ‬النواة‭ ‬التي‭ ‬تفتّحت‭ ‬يوم‭ ‬14‭ ‬آذار.‭ ‬وبهذا‭ ‬الإنجاز‭ ‬فتح‭ ‬الباب‭ ‬لكلّ‭ ‬لبنان‭ ‬كي‭ ‬يخطفه‭ ‬من‭ ‬الموارنة‭ ‬ويطوّبه‭ ‬بطريركاً‭ ‬للسيادة‭ ‬والاستقلال‭.‬

قبل عام بالتمام، على‭ ‬فراش‭ ‬النزع‭ ‬الأخير،‭ ‬بدا‭ ‬وكأنه‭ ‬ذاهب‭ ‬في‭ ‬رحلةٍ‭ ‬إلى‭ ‬موعدٍ‭ ‬آخر‭ ‬في‭ ‬البعيد،‭ ‬لم‭ ‬يشعرنا‭ ‬بحزن‭ ‬الفراق‭ ‬بقدر‭ ‬شعورنا ‬بفرح‭ ‬القيامة‭ ‬والرجاء،‭ ‬وكأنه‭ ‬قال‭ ‬للبنانيين:‭ ‬ليكن‭ ‬لديكم‭ ‬أمل‭ ‬بضوء‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬النفق،‭ ‬مثلما‭ ‬أنا‭ ‬أتّجه‭ ‬نحو‭ ‬النور‭ ‬الأبدي.‬ هذه‭ ‬سفينتي‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬شاطئها‭ ‬الأمين‭.‬أستودعكم‭ ‬أحلامكم‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬لبنان‭ ‬جميل‭.‬

قبل عام، اختصر‭ ‬الرجل‭ ‬المبتسم‭ ‬في‭ ‬آخر‭ ‬نفَس‭ ‬له‭ ‬قرناً‭ ‬من‭ ‬الزمن.‭ ‬وكأنّ‭ ‬الشخص‭ ‬الذي‭ ‬ولد‭ ‬مع‭ ‬إعلان ‭ ‬‮"‬لبنان‭ ‬الكبير‮"‬ ‬أدّى‭ ‬ما‭ ‬وسِعَه ‬تاركاً‭ ‬لنا‭ ‬ذخيرة‭ ‬للذكرى‭ ‬المئوية‭ ‬لهذا‭ ‬الإعلان. ‬ذخيرة‭ ‬تنضمّ‭ ‬إلى‭ ‬ذخائر‭ ‬بطاركة‭ ‬موارنة‭ ‬أعلام‭ ‬طبعوا‭ ‬تاريخ‭ ‬هذه‭ ‬البلاد‭ ‬ومهّدوا‭ ‬لقيام‭ ‬دولة‭ ‬الاستقلال،‭ ‬وأكّدوا‭ ‬دائماً‭ ‬أنّ‭ ‬الموارنة‭ ‬صنو‭ ‬الحرية‭ ‬وعصب‭ ‬الشراكة‭ ‬في‭ ‬الكيان‭.‬

"لا‭ ‬نعلم‭ ‬متى‭ ‬يأتي‭ ‬السارق". ‬وهو‭ ‬أتى قبل عام، ربما ليوفر على البطريرك المهجوس بحب شعب لبنان رؤية بلاد تنهار بفعل طغمة الفساد قبل الوباء. يومذاك ‬لم‭ ‬يأخذه‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرة.‭ ‬كان‭ ‬حاضراً،‭ ‬ليس‭ ‬بفخامة‭ ‬جلاله،‭ ‬بل‭ ‬بمهابة‭ ‬تواضعه،‭ ‬وليس‭ ‬بالفخر‭ ‬المنجز‭ ‬في‭ ‬مسيرته‭ ‬الكهنوتية‭ ‬والوطنية‭ ‬بل‭ ‬بإمّحاء‭ ‬عطائه،‭ ‬وليس‭ ‬بتاجٍ‭ ‬استحقّه‭ ‬بل‭ ‬بمحبةٍ‭ ‬خالصة‭ ‬لم‭ ‬يبخل‭ ‬بمنحها‭ ‬بركة‭ ‬لشعبٍ‭ ‬بأسره. ‬كان‭ ‬حاضراً‭ ‬لتلك‭ ‬اللحظة‭ ‬بإيمانه‭ ‬العميق‭ ‬بأنّ‭ ‬دعوته‭ ‬أتمّت‭ ‬مهمّتها‭ ‬وبأنّ‭ ‬رسالته‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬من‭ ‬انتُدب‭ ‬لأجلهم‭ ‬وإلى‭ ‬من‭ ‬اختاره‭ ‬شاهداً‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المكان،‭ ‬ليشعّ‭ ‬بألق‭ ‬الحرية‭ ‬ويعطى‭ ‬له‭ ‬مجد‭ ‬لبنان‭.

في ذكراك هذا العام، وفي كل عام. باقِِ شعلةً في ضمير لبنان


MISS 3