ديفيد فيكتور

وباء كورونا لن ينقذ المناخ!

14 أيار 2020

02 : 00

أدى الانهيار الاقتصادي المتزامن مع انتشار فيروس كورونا إلى "تنظيف" العالم بدرجة معينة. تراجعت مستويات تلوث الهواء في المدن الصينية والهندية والأميركية بنسبة واضحة. في الصين وحدها، ساهم انحسار التلوث حتى الآن في إنقاذ حياة الناس بأعداد تفوق ضحايا الفيروس. وفي نيويورك، انخفضت مستويات بعض الملوثات بأكثر من النصف خلال أسبوع واحد فقط، وتتجه انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية، وهي أول سبب مزمن للاحتباس الحراري، إلى التراجع بنسبة 8% خلال هذه السنة. ترافق استرجاع الهواء النظيف مع كلفة ضخمة وغير مقبولة. لكن هل يُمهد الوباء الحالي لاتخاذ خطوات أكثر جدية لحماية البيئة ومعالجة التغير المناخي، الذي يُعتبر من أخطر المشاكل على الإطلاق؟ لن يحصل ذلك على الأرجح!

يأمل بعض المراقبين في أن يصبح العالم بعد انتهاء الوباء أكثر ميلاً إلى سماع توصيات العلماء والتحرك لمعالجة المشاكل المناخية. يتوقع آخرون أن تُسهّل الكلفة الضخمة لبرامج التحفيز القرار السياسي بفرض ضرائب جديدة ومتزايدة على انبعاثات الكربون ووضع سياسات مالية صديقة للبيئة، أو حتى عقد اتفاق بيئي عالمي جديد لكبح المخالفات الحاصلة. لكنّ هذه الآمال لا تتماشى مع السياسات الناشئة على أرض الواقع. تشير معظم الأدلة إلى توجّه معاكس. للحفاظ على مستويات متدنية من الانبعاثات، ثمة حاجة إلى تنفيذ مقاربة يسمّيها علماء المناخ "إزالة الكربون العميق": إنه استثمار هائل وطويل الأمد لإبعاد الصناعة والزراعة عن الوقود الأحفوري وطرق الإنتاج التقليدية. ستكون هذه المهمة ضخمة لكنها قابلة للتنفيذ. ومع ذلك، لا مفر من أن يزيدها الوباء صعوبة.

تضخ الحكومات حول العالم الأموال لتعويم اقتصاداتها المتعثرة، لكنها لا تنفقها حتى الآن بطريقة تضمن تنظيف مصادر الطاقة. في الولايات المتحدة، تتناقض الخطط الراهنة بشدة مع تلك التي أقرّتها الخطة التحفيزية في العام 2009، فقد أدت حينها إلى زيادة الإنفاق الفدرالي الأميركي على قطاع الأبحاث والتطوير المرتبط بالطاقة بثلاث مرات تقريباً. انطلق أهم برنامج مبتكر في وزارة الطاقة الأميركية ("وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة – الطاقة" أو ARPA-E)، تزامناً مع تمويل الخطة التحفيزية في العام 2009. هذا ما حصل أيضاً مع برامج فاعلة أخرى تهدف إلى استعمال تكنولوجيا جديدة وفاعلة في الاقتصاد. يُعتبر الإنفاق على هذا النوع من الابتكارات أساسياً لتخفيض حجم الانبعاثات الضارة لأن التقنيات اللازمة لتطبيق مقاربة "إزالة الكربون العميق" ليست موجودة بعد. تبدو برامج التحفيز الحكومية هذه السنة أكبر بكثير من سابقاتها، لكن لا تزال استثماراتها في الابتكارات المفيدة معدومة حتى الآن. طرح المحللون بعض الخطوات البراغماتية لاستعمال الأموال التحفيزية وتعزيز الابتكارات، وقد تكسب اقتراحاتهم التأييد خلال الجولات المقبلة من الخطط التحفيزية.

الواقعية السياسية ليست مرادفة للانهزامية. كل من يدافع عن مقاربة إزالة الكربون يتوقع مستقبلاً أفضل. لكنّ تحويل تلك الرؤية إلى واقع ملموس لا يتعلق بتنفيذ سيناريوات حالمة، بل بتحسين فرص تطبيق "إزالة الكربون العميق" عن طريق السياسات الجديدة لمكافحة الوباء.

غالباً ما تُركّز النقاشات حول إزالة الكربون على الابتكارات التكنولوجية والسياسات الكبرى، على غرار تسعير الكربون، لكنها تغفل في المقابل عن وقائع الحكم وكأنها تفترض أن القادة ماهرون ومندفعون ويحظون بثقة الناس. جاء الوباء ليشكك بصحة هذه الفرضيات. في أماكن مثل كوريا الجنوبية ونيوزيلندا والنروج وكاليفورنيا، اتخذ المسؤولون مقاربات حاسمة وفاعلة نسبياً، حتى الآن على الأقل. وفي معظم دول العالم، بما في ذلك إيطاليا والمملكة المتحدة، وعلى المستوى الوطني في الولايات المتحدة، تبيّن أن الحكومات لا تتمتع بالكفاءة بقدر ما كنا نظن.





يبدو أن الحكومات التي تتخبط راهناً ستواجه صعوبة في حشد الموارد وكسب ثقة الناس، وهما عاملان أساسيان لاتخاذ خطوات مناخية طموحة بعد انتهاء الوباء. لذا يتعين عليها أن تتخذ أي قرارات بشأن إزالة الكربون بما يتماشى مع توجه الرأي العام: ثمة حاجة إلى قياس الحوافز الصديقة للبيئة مقارنةً بالقدرة على توفير فرص عمل سريعة ولائقة. كذلك، لا يمكن أن تتجاهل اقتراحات الخطط التحفيزية ضوابط العمل في زمن الوباء. لتزويد المنازل بمعدات توفّر الطاقة مثلاً، يجب أن يدخل العمال إلى المنازل الخاصة فيما يرتعب الناس اليوم من فكرة الاختلاط مع الآخرين. لن يتلاشى هذا القلق سريعاً على الأرجح.

يُفترض أن تركّز أكثر البرامج فاعلية على الصناعات القائمة أصلاً، وتلك التي تقدم خدمات منخفضة الكربون في مجال الطاقة وتتخبط راهناً بسبب تعثر سلاسل الإمدادات. تُعتبر صناعات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح خير مثال على ذلك، وحتى المحطات النووية الخالية من الانبعاثات تدخل في هذه الخانة أيضاً. تستطيع هذه القطاعات القوية أن تتجاوب بسرعة عند ضخ الأموال النقدية فيها. ويسمح الحفاظ على حوافز الطاقة المتجددة (وتقديم عروض مشابهة لإبقاء المحطات النووية مفتوحة)، بتجديد استقرار الصناعات منخفضة الانبعاثات تزامناً مع توظيف عمال موثوق بهم. على واشنطن أن تُحوّل الائتمانات الضريبية التي تستفيد منها التقنيات الخالية من الانبعاثات إلى مبالغ نقدية بسيطة، كما فعلت خلال الأزمة المالية بين العامين 2008 و2009. (يصبح الائتمان الضريبي مفيداً حين تحصد الشركات أرباحاً خاضعة للضرائب، لكنه لا يعود كذلك عندما يتعرّض الاقتصاد كله للخطر). تكون هذه التدابير سهلة التنفيذ وقد تسهم في تقوية الاقتصاد تزامناً مع منع تصاعد حجم الانبعاثات مجدداً، كما حصل في فترات التعافي في الماضي.

على الحكومات أن تتبنى رؤية بعيدة المدى لتقييم مدى قدرة الأموال التحفيزية على خلق فرص عمل تزامناً مع جعل جميع الأنظمة الاقتصادية صديقة للبيئة. تقضي إحدى الخطوات بسحب المعدات المعادية للبيئة مقابل زيادة الطلب على المعدات الجديدة. بعد الأزمة المالية في العامين 2008 و2009، امتنعت الأُسَر عن شراء سيارات جديدة (تكون أكثر كفاءة في استهلاك الوقود)، ولا تزال آثار ذلك الركود مستمرة حتى اليوم. بعدما أصبحت ملايين العائلات في وضع مادي صعب، من المتوقع أن تتراجع الاستثمارات في أي سيارات جديدة بدرجة إضافية. ومن دون أي حوافز لتحسين فاعلية المنتجات، ستتكل السيارات الجديدة التي يشتريها الناس على كميات ضخمة من الغاز (في الشهر الماضي، وللمرة الأولى في التاريخ، تفوقت الشاحنات على مبيعات السيارات في الولايات المتحدة!). قد يضمن برنامج مقايضة السيارات القديمة بمركبات جديدة فسحة مريحة من خلال تخفيف الصدمة، التي يواجهها قطاع السيارات وزيادة أعداد المركبات النظيفة في الشوارع. يمكن تطبيق المبدأ نفسه مع الطائرات القديمة وغير الفاعلة. لكن حتى الآن، اتخذت الإدارة الأميركية بقيادة دونالد ترامب مساراً معاكساً وأعلنت عن خطة لتخفيف معايير الاقتصاد في استهلاك الوقود. عمدت حكومات كثيرة أخرى إلى تطبيق تخفيضات تنظيمية مماثلة، وهي تهدف إلى تعزيز النشاط الصناعي، لكن من المتوقع أن تنشر هذه المقاربة ارتباكاً عاماً فيما تعيد الشركات بناء خطوط إنتاجها.

يتعلق أحد أصعب الاختبارات التي يواجهها السياسيون في المرحلة المقبلة بالوقود الأكثر تلويثاً: الفحم. نظراً إلى تراجع تكاليف التشغيل في محطات الطاقة المتجددة والطاقة النووية، تستطيع هذه الجهات أن تتحمّل التراجع الموقّت في الطلب على الطاقة. لكن يختلف الوضع في قطاع الفحم الذي يستعد لتسريح عدد هائل من العمال. من المتوقع أن تصطدم متطلبات السياسة بالخطوات البيئية في هذا المجال قريباً، لذا من واجب القادة أن يبتكروا الحلول المناسبة لمقاومة الدعوات إلى طرح خطة كارثية بيئياً لإنقاذ قطاع الفحم التقليدي.

بــــيــــن الــــقــــادة والأتــــبــــاع

لن يوافق الرأي العام على أهداف مناخية كبرى في ظل الأزمات الاقتصادية، لكنه قد يؤيد المبادرات البراغماتية التي تكون صديقة للبيئة إذا كانت ترتبط مباشرةً بالتعافي الاقتصادي. إذا نجحت الحكومات في هذا الملف، ستكسب المصداقية التي تحتاج إليها لإطلاق خطوات مناخية أكثر طموحاً وفاعلية. حتى الآن، لا يزال أداء الحكومة الفدرالية الأميركية سيئاً. لكن يتحسن ذلك الأداء في بعض الولايات الأميركية الفردية وفي عدد صغير من حكومات أوروبا وآسيا.

كشف الوباء الأخير عن حجم التفكك في العالم، فقد كسبت الحكومات في بعض البلدان ثقة الناس وصرفت الموارد بفاعلية، بينما تعثرت حكومات أخرى بطريقة مريعة. هذا ما يؤكد على مسألة واضحة ومعروفة منذ وقت طويل: لن تظهر الخطوات الدولية الجدية في ملف التغير المناخي من العدم، فيجتمع قادة العالم لمجرد أن فيروس كورونا الجديد أجبرهم على رؤية الحقيقة وجعلهم يدركون أهمية العلم والتعاون. بل إن البلدان التي تملك الوسائل اللازمة لقيادة العالم وإعادة بناء أنظمتها الاقتصادية بعد الأزمة ستكون مسؤولة عن إطلاق الجهود المقبلة لإصلاح البيئة. يجب أن تستعمل هذه الجهات مهاراتها بطريقة حكيمة لمواجهة هذا التحدي لأنه لن يزول من تلقاء نفسه. وعليها أن تنجح في أصعب مهمة على الإطلاق: إقناع بقية دول العالم بالاقتداء بها!


MISS 3