الديموقراطيات تتفوّق في خوض الحروب ومكافحة الأوبئة!

02 : 00

يفترض الناس دوماً أن الحكام المستبدين والدكتاتوريين يتفوقون في شن الحروب. فيما يجتاح فيروس كورونا الجديد العالم أجمع اليوم، تسود توقعات مفادها أن الأنظمة الاستبدادية تتفوق في خوض تلك الحروب أيضاً. يستطيع الحكام المستبدون أن يفرضوا أوامر فاعلة ويستعملوا أدوات المراقبة لتحسين طرق تعقب الاتصالات. لكنّ هذه المخاوف لا أساس لها من الصحة. على عكس القناعات الشائعة، تجيد الديموقراطيات التعامل مع مختلف الأزمات أكثر من غيرها. وتكشف الأبحاث في مجال العلوم السياسية أن الديموقراطيات تكون أكثر قدرة من الأنظمة الاستبدادية على الفوز بالحروب. بين العامين 1816 و1987، فازت الديموقراطيات بـ76% من حروبها واقتصرت هذه النسبة على 46% في الأنظمة غير الديموقراطية. ونادراً ما تخسر الديموقراطيات الحروب التي تطلقها، فتفوز بها في 93% من المرات.

تنطبق خصائص الحروب ضد الجيوش على حملات محاربة الأمراض أيضاً. كشفت دراسات سابقة أن المواطنين في الأنظمة الديموقراطية يتمتعون بصحة أفضل من المقيمين تحت حكم استبدادي. حتى أن معدلات الوفيات تتراجع في الديموقراطيات خلال الأوبئة مقارنةً بالأنظمة الدكتاتورية. وبحسب تحليل طرق الاستجابة للوباء الحالي، تبيّن أن الديموقراطيات كانت أسرع من الدكتاتوريات في إقفال المدارس بعد تسجيل عاشر حالة من فيروس كورونا. ووفق معطيات وافية، يبدو أن الخصائص التي تجعل الديموقراطيات أكثر فاعلية في خوض الحروب (لا سيما محاسبة القادة وحرية تدفق المعلومات) هي التي تزيد قدرتها على محاربة فيروس كورونا أيضاً.

كشفت الأبحاث أن الديموقراطيات تفوز بالحروب جزئياً لأن القادة فيها يهتمون بفرص إعادة انتخابهم. يحرص القادة المُنتَخبون ديموقراطياً على تجنب الحروب الخاسرة لأنهم يعرفون أن السياسات التي لا تحظى بشعبية واسعة تؤدي إلى إقالتهم من مناصبهم: اتخذ الرئيسان الأميركيان باراك أوباما ودونالد ترامب مثلاً خطوات للحد من التدخل العسكري في سوريا لهذا السبب بالذات. قد يطلق القادة المُنتخَبون حروباً فاشلة أحياناً، كما فعل الرئيس ليندون جونسون في فيتنام وجورج بوش الإبن في العراق، لكنّ انهيار حظوظهم السياسية يشكّل مؤشراً تحذيرياً للرؤساء بعدهم.

يعارض الحكام الدكتاتوريون من جهتهم أي نقاش مفتوح لأنهم يخشون التهديدات السياسية الداخلية. هم أكثر ميلاً إلى تعيين أشخاص موالين لهم، ما يعني أنهم غير مستعدين للكشف عن الحقائق المؤلمة وليسوا مؤهلين لتقديم توصيات حكيمة. انتهت جميع الاعتداءات العربية التي أطلقتها سوريا ومصر والأردن والعراق ضد إسرائيل في الأعوام 1948 و1969 و1973 بهزيمة. ويُعتبر الاعتداء السوفياتي غير المدروس على فنلندا في العام 1939 خير مثال على الانتصار المكلف، فقد أسفر عن مقتل أكثر من 100 ألف سوفياتي. ورغم تذمّر الأميركيين من حربهم الطويلة في أفغانستان، كان الغزو السوفياتي لأفغانستان في العام 1979 أسوأ بكثير على موسكو، فترافق مع سقوط 15 ألف قتيل ولم يحقق أي مكاسب.

الحرب على الأمراض

تستطيع الديموقراطيات أن تستعمل الخصائص التي تتكل عليها للفوز بالحروب لمواجهة تحديات أخرى مثل الأوبئة. ويعرف الزعيم الديموقراطي أنه يصبح أكثر عرضة لخسارة منصبه حين يسيء التعامل مع الوباء، لذا يميل إلى اتخاذ قرارات فاعلة.

في المقابل، يكون الزعيم الدكتاتوري أكثر ميلاً إلى الصمود رغم تعامله الفاشل مع الأزمات، فهو لا يتعرض لضغوط كافية لإصلاح استراتيجياته. هذا الوضع قد يعطي أثراً مدمراً خلال الأزمات الصحية. في ظل انتشار وباء كورونا اليوم، سجّلت إيران حوالى 900 ألف إصابة لأن الحكومة الإيرانية اتخذت قرارات سيئة. لكنّ تعامل الحكومة الفاشل مع فيروس كورونا لن يهدد النظام لأن الرئيس الإيراني حسن روحاني يملك أدوات فاعلة لكبح أي تهديدات على سلطته. وإذا سببت أزمة كورونا أي اضطرابات في الصين، يستطيع الرئيس شي جين بينغ أن يُحكِم قبضته على السلطة بدرجة إضافية.

كانت الضوابط الصارمة التي فرضتها الأنظمة الدكتاتورية على تدفق المعلومات كفيلة بإعاقة استجابتها للوباء. في روسيا، فرض الرئيس فلاديمير بوتين رقابة على المعلومات المرتبطة بالفيروس، حتى أنه أقدم على اعتقال أو ترهيب كل من يتكلم عنه علناً: هاجمت الشرطة الروسية طبيباً نشر فيديوات يقول فيها إن السلطات تخفي خطورة الوباء واعتقلته. أما الصين، أول دولة واجهت وباء "كوفيد - 19"، فأخفت معلومات عن مصدر الفيروس وخصائصه: اعتقل النظام أطباء في مدينة "ووهان" في أواخر كانون الأول الماضي لأنهم دقوا ناقوس الخطر، وسمح بتنظيم مأدبة لأربعين ألف عائلة في "ووهان" في بداية شهر شباط، ورفض تلقي المساعدة من "المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها"، ومنع توزيع البيانات حول طريقة انتشار الفيروس بين المصابين الذين لا يواجهون أي أعراض، وكشف عن إصابات أقل من الأرقام الحقيقية بأربع مرات. صحيح أن الحكومة الصينية تدّعي النجاح في محاربة الفيروس، لكن لا تزال الشكوك بأداء الصين قائمة نظراً إلى قلة شفافية هذا البلد في جميع المسائل. هذه الأنماط ليست جديدة، فقد أثرت حملات قمع المعلومات في الصين على جهودها الرامية إلى محاربة انتشار "سارس" بين العامين 2002 و2003.

في المقابل، تتدفق المعلومات بكل حرية في الأنظمة الديموقراطية، وقد ساهمت هذه الميزة في محاربة تفشي الوباء. أنشأت ديموقراطيات مثل الولايات المتحدة وألمانيا مختبرات لوضع السياسات واستكشاف المقاربات المبتكرة. لكنّ المجتمعات المنفتحة أطلقت أيضاً سيلاً من المعلومات المهمة عن الفيروس، فنشرت الوعي بين عامة الناس وساعدت صانعي السياسة والمواطنين على تطوير تدابير وقائية وتطبيقها. كذلك، نجحت قنــــــوات المعلومات المفتوحـة في كشف الأخبـــــار الكاذبة ونظريـــات المؤامرة والعلاجـات المزيفة ومنعت سيطرتها على الخطابات العامـة حول فيروس كورونا.

لكن على عكس ما يحصل في الحروب، لا ينحصر تقاسم المعلومات في زمن الوباء بالمجتمعات الليبرالية الفردية التي تبتكر سياسات رابحة. بل طبّق العلماء والأطباء وصانعو السياسة والصحافيون حول العالم معياراً ليبرالياً مبنياً على تقاسم الأفكار والمعلومات، فأسسوا بذلك مجتمعاً معرفياً منفتحاً وواسعاً. ساهم العلماء الصينيون في تسريع تقدم الأبحاث حول الاختبارات واللقاحات والعلاجات بعد نشر تسلسل الجينوم الكامل لفيروس كورونا في كانون الثاني الماضي (مع أن السلطات الصينية عادت وأغلقت مختبرهم في شنغهاي). في غضون ذلك، تتسابق مئات، أو حتى آلاف، المختبرات البحثية حول العالم لابتكار اختبارات ولقاحات وعلاجات مثالية وتسارع إلى نشر تقاريرها العلمية وتتقاسمها على نطاق واسع. تنشر الشركة الصحية Kinsa بيانات مستخلصة من موازين الحرارة المنزلية والمتّصلة بشبكة الإنترنت لتوقع حالات فيروس كورونا الجديد بأعلى درجات الدقة والسرعة. كذلك، تشارك "غوغل" في توزيع المعلومات حول التباعد الاجتماعي وأي أعراض جديدة محتملة وتطورات مهمة أخرى.

أحرزت ديموقراطيات عدة تقدماً كبيراً لتجنب تفشي الوباء أو احتوائه، منها كوريا الجنوبية وتايوان وألمانيا وأستراليا ونيوزيلندا والدنمارك وإسرائيل. لكن يبدو أن طريقة تعامل الولايات المتحدة مع فيروس كورونا تناقض المفهوم القائل إن الديموقراطيات تبرع في محاربة الأوبئة أكثر من غيرها. تعرّض الرئيس ترامب لانتقادات لاذعة نتيجة تعاطيه مع الأزمة، فهو استخف بالتحذيرات الأولية من ارتفاع حصيلة الوفيات وتأخّر في إطلاق حملة الاختبارات المكثفة. لكن رغم سوء أدائه في البداية، يكشف تعامل ترامب مع الفيروس راهناً مدى براعة الديموقراطيات في احتواء الأمراض: يدرك ترامب أن نتائج الانتخابات المرتقبة في تشرين الثاني المقبل تتوقف على طريقة تعامله مع الوباء، لذا عاد وأخذ الأزمة على محمل الجد، وفرض ضوابط على السفر، ودعم خطة إنقاذية اقتصادية ضخمة، واستعمل "قانون الإنتاج الدفاعي" لتعزيز صناعة مواد الاختبارات. على عكس الحاكم الدكتاتوري الذي يستطيع قمع المعارضة، يتعرض القائد المُنتخَب ديموقراطياً، من أمثال ترامب، للضغوط ويضطر للرد على الانتقادات، ما يمُهّد لتحسين تدابير احتواء الوباء.

اقــتــلــوا الــفــيــروس... لا الــديــمــوقــراطــيــة!

لا أحد يستطيع توقع مسار هذا الوباء بدقة. لكن تكشف الأبحاث المرتبطة بالديموقراطية والحروب أن صانعي السياسة والأفراد يستطيعون اتخاذ خطوات حاسمة لمحاربة الفيروس. على الناخبين أن يتابعوا الضغط على القادة المُنتَخبين لتشجيعهم على محاربة الوباء بأفضل طريقة ممكنة ولزيادة مرونتهم في تعاملهم مع الظروف المتبدلة. وعلى الديموقراطيات أن تعزز تدفق المعلومات داخل الحكومة وخارجها، لإطلاق جدل مفتوح حول أفضل مسار ممكن في المرحلة المقبلة.

كما يحصل في زمن الحروب، تواجه الديموقراطيات تحدياً صعباً في الأفق: يجب أن توسّع سلطة الدولة من دون إضعاف الديموقراطية. نجحت كوريا الجنوبية مثلاً في كبح فيروس كورونا عبر جمع معلومات شخصية واسعة عن المرضى وتوعية كل من احتك بالضحايا. قد تحتاج الحكومة الأميركية إذاً إلى توجيه طرق إنتاج السلع الأساسية، مثل أجهزة التنفس، والسيطرة على الأسعار لتجنب التلاعب. لكن لن يكون هذا التوازن سهل التحقيق. يكفي أن ننظر مثلاً إلى طريقة الاستيلاء على السلطة من جانب رئيس الحكومة فيكتور أوربان في المجر، أو توسّع صلاحيات جمع البيانات بوتيرة مقلقة من جانب الحكومة الإسرائيلية. لكن كانت الديموقراطيات تنجح في إقامة هذا التوازن في الماضي، فتفوز بالحروب من دون تدمير الحرية، لذا تستطيع هذه الأنظمة القيام بالمثل في خضم معركتها ضد فيروس كورونا اليوم. وكما يحصل في الحروب، لن تكون الديموقراطية نقطة ضعف، بل مصدر قوة لمحاربة الفيروس.


MISS 3