باسكال جوسارت مارسيلي

Foreign Affairs

كورونا كشف مخاطر الاقتصاد غير الرسمي

22 أيار 2020

02 : 00

أحدث فيروس كورونا الجديد فوضى عارمة في الاقتصاد العالمي، فأغلق الشركات وعطّل سلاسل الإمدادات وخسر ملايين الناس بسببه وظائفهم. لكن كان الوباء مدمراً بشكلٍ خاص لمليارَي عامل غير رسمي في العالم، علماً أنهم يشكّلون حوالى 60% من اليد العاملة العالمية وغالباً ما يكسبون أقل من دولارين يومياً. يوشك هؤلاء العمال على مواجهة كارثة اقتصادية كبرى، لا سيما في البلدان النامية.

إنتشار ظاهرة العمال غير الرسميين

في أنحاء العالم النامي، كشف وباء كورونا عن شكلٍ عميق من اللامساواة الاجتماعية. في الهند، حيث تصل نسبة الوظائف غير الرسمية إلى 90%، تشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى احتمال أن يغرق أكثر من 400 مليون عامل في فقر مدقع (ما يعني أن يكسبوا أقل من دولارين يومياً) بسبب تدابير الإقفال التام منذ 24 آذار. كذلك، يؤدي وجود اقتصادات غير رسمية واسعة في عدد كبير من البلدان الفقيرة إلى زيادة احتمال انتشار فيروس "كوفيد - 19" بين العمال الأكثر عرضة للخطر، علماً أنهم يتكلون على مكاسبهم اليومية ولن يتحمّلوا تداعيات التوقف عن العمل. كان العمال غير الرسميين يواجهون أصلاً ظروفاً صحية صعبة، مثل سوء التغذية وغياب الخدمات الصحية والأمراض المزمنة المرتبطة بتلوث الهواء والماء. لم يكن مفاجئاً إذاً أن يقود هؤلاء العمال الاحتجاجات التي تطالب بمساعدات حكومية عاجلة في كولومبيا ومالاوي وأوغندا وبلدان أخرى.

يكون العمال غير الرسميين في البلدان المتقدمة معرّضين للخطر أيضاً. منذ الثمانينات، زادت ترتيبات العمل غير الرسمي شيوعاً في الدول الصناعية. وحين اتخذت الاقتصادات منحىً عالمياً وتبنّت الحكومات مبدأ النيوليبرالية، ارتفع الطلب على اليد العاملة الرخيصة والموقّتة تزامناً مع زيادة أعداد المستعدين للعمل بطريقة غير رسمية، بما في ذلك المهاجرون وجماعات ضعيفة أخرى محرومة من الوظائف الرسمية. في الولايات المتحدة، لام الرأي العام الحكومة على الاضطراب الاقتصادي خلال السبعينات، ما أدى إلى تخفيضات جذرية في الإنفاق على الرعاية الاجتماعية ورفع القيود عن صناعات كثيرة خلال العقود الأربعة اللاحقة. في ظل هذا الفراغ التنظيمي، تنامى الاقتصاد غير الرسمي: زادت الوظائف التي تفتقر إلى الأمان الوظيفي والتأمين الصحي والإجازة المَرَضية ومعاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة. بعبارة أخرى، اشتق العمل غير الرسمي من قرارات متعمدة اتخذها المسؤولون المُنتَخبون لتفكيك أنظمة الرعاية الاجتماعية، وتجاهل تدابير حماية العمال أو إلغائها، وتقليص خطط الإسكان، ثم إعطاء الأولوية للشركات المالية أكثر من العمال، ورفض الرعاية الصحية الشاملة، وإهمال إصلاحات نظام الهجرة.

تصاعدت نسبة العمال الأميركيين غير الرسميين بوتيرة ثابتة في العقود الأخيرة. بين العامين 2005 و2015، ارتفعت تلك النسبة من 10 إلى 16%. وبحلول العام 2018، عمل ثلث الراشدين الأميركيين على الأقل في نوع من الوظائف غير الرسمية، وفق معطيات الاحتياطي الفدرالي. وبحسب تقديرات منظمة العمل الدولية، بلغت أعداد الوظائف غير الرسمية في تلك السنة نفسها 30 مليوناً في الولايات المتحدة، أي ما يساوي 19% من اليد العاملة الإجمالية. لا يستطيع هؤلاء العمال التعامل مع المشاكل الصحية العادية، فكيف سيتعاملون إذاً مع الأوبئة؟ هم مضطرون للذهاب إلى العمل حتى لو كانوا مرضى.

يكون هؤلاء العمال في معظمهم من أصحاب البشرة السوداء أو مهاجرين أو نساء. انعكست اللامساواة الاقتصادية والعرقية بشدة على طريقة تعامل الأميركيين مع أزمة كورونا. تكشف بيانات "المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها" وهيئات الصحة العامة أن الأميركيين من أصل إفريقي واللاتينيين معرّضون للوفاة بسبب فيروس "كوفيد - 19" أكثر من البيض وغير اللاتينيين، ما يتعارض مع الفكرة القائلة إن المرض لا يفرّق بين الناس. حتى أن أعداد الوفيات في هذه الفئات ليست دقيقة على الأرجح لأن الأقليات الضعيفة لا تخضع للفحوصات ولا تتلقى الرعاية الصحية اللازمة في معظم الأوقات. يسارع المحللون إلى التكلم عن "الظروف الفردية الكامنة"، مثل البدانة وارتفاع ضغط الدم والسكري، لتفسير تلك الاختلافات. لكن تُعتبر اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية من أبرز عوامل الخطر المُسببة لفيروس "كوفيد - 19"، وقد تفاقمت مظاهرها بعد اتخاذ الاقتصاد طابعاً غير رسمي.

صُنّف عدد كبير من العمال غير الرسميين والمعرضين للخطر فجأةً كعناصر "أساسية"، بمعنى أنهم يتابعون تحريك عجلة الاقتصاد في زمن الوباء مع أنهم يفتقرون إلى التدابير التي تحميهم. تشمل هذه المجموعة العاملين في المطاعم والمزارع، ومقدّمي الرعاية، وعمال النظافة وتوصيل الطلبيات. لا يستطيع أي منهم أن يعمل من المنزل. لكن بفضل هذه اليد العاملة، يعمل الأميركيون المحظوظون عن بُعد بكل أمان، من دون أن يتعرضوا لمخاطر الفيروس. تتوقف بقايا الاقتصاد الرسمي على السلع والخدمات التي ينتجها ويوصلها العمال غير الرسميين.



عامل توصيل في ويست مانهاتن في نيويرك يرتدي قناعاً بسبب جائحة كورونا



لا يستفيد هؤلاء العمال من خدمات الرعاية الصحية وأي امتيازات أخرى لحمايتهم وحماية الآخرين من الوباء. وحتى العمال في وظائف رسمية ظاهرياً، مثل السائقين في Uber والمتسوقين في Instacart، يواجهون مشاكل كبرى لأنهم يدخلون في خانة المتعاقدين المستقلين. يجد الكثيرون صعوبة في كسب إعانات البطالة لأن أرباب العمل لا يدفعون أقساط التأمين ولا يقدمون بيانات عن أجورهم إلى الوكالات الحكومية.

لم يتضح بعد كيف سيستفيد العمال غير الرسميين من تدابير الإغاثة والطوارئ الكبرى التي مررها الكونغرس لتخصيص أكثر من تريليونَي دولار للإجازات المَرَضية المدفوعة ومخصصات البطالة والمساعدات الغذائية، لأن تلك التدابير تشمل متطلبات معقدة وثغرات كبرى. لكنها لن تساعد على الأرجح ملايين العمال غير الرسميين لأنهم يعجزون عن توثيق أجورهم وساعات عملهم قبل انتشار الوباء المستجد أو ليسوا مؤهلين لتلقي القسائم الغذائية والاستفادة من الإجازة المَرَضية كونهم من المهاجرين. الأمر المؤكد هو أن الوباء عمّق مخاطر العمل غير الرسمي في الولايات المتحدة، كما حصل في الهند وبلدان نامية أخرى. لا يعرف عدد كبير من العمال كيف سيدفعون ثمن وجبتهم المقبلة وإيجارات منازلهم، ما يزيد احتمال أن يتابعوا العمل بغض النظر عن المخاطر التي يواجهونها.

أزمـــــــات مـــــــتـــــــداخـــــــلـــــــة

تفضح الأزمات الكبرى أحياناً الأسباب الأصلية للمشاكل الاجتماعية والاقتصادية، فتُشجّع على الإصلاح والتغيير. مهّد الكساد الكبير لإقرار "الاتفاق الجديد"، فشكّل ركيزة للعقد الاجتماعي الجديد الذي عاد وترسّخ في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية. فرض "الاتفاق الجديد" شبكات الأمان الاجتماعي وحدّد أسس المفاوضات الجماعية حول الأجور وظروف العمل، ما ساهم في تسهيل نمو الطبقة الوسطى، وتوسيع تدابير الحماية الاجتماعية والقانونية للعمال، وإعطاء طابع رسمي للأمن الاقتصادي الخاص بمعظم العمال.

لكن منذ زمن الكساد الكبير، أعطت الأزمات الاقتصادية اللاحقة أثراً معاكساً، فسمحت للمشرعين بإضعاف برامج الرعاية الاجتماعية القائمة، وتخفيف التنظيمات الحكومية، وتشويه صورة المهاجرين، وإنقاذ الشركات الكبرى التي تتكل عموماً على العمال غير الرسميين لأداء الأعمال الوضيعة. أدت حالات الركود الخمس الأساسية منذ بداية السبعينات إلى استنزاف معظم أجزاء شبكة الأمان الاجتماعي محلياً، ما دفع عدداً كبيراً من العمال نحو الاقتصاد غير الرسمي. عملياً، ارتكز نمو صافي الوظائف في العقد الذي تلا الركود العظيم في العام 2008 على الوظائف في الاقتصاد غير الرسمي. خلقت الولايات المتحدة "وظائف سيئة" بوتيرة أسرع من "الوظائف الجيدة"، فزادت معاناة العمال الأميركيين نتيجةً لذلك. كانت أرقام العمالة التي تباهى بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب قبل انتشار الوباء تخفي حقيقة أخرى: يكسب 44% من العمال، أي 53 مليون شخص، أجوراً متدنية بحسب تقييم الباحثين في معهد "بروكينغز". كان معظم هؤلاء العمال غير رسميين، وهم لا يستفيدون من أي حماية قانونية واجتماعية.

لكن يمكن تغيير هذا الوضع. يبدو أن فيروس كورونا أطلق حملة مكثفة من التضامن. قرر عدد من المنظمات التدخل لحماية العمال غير الرسميين وملء الثغرات التي خلّفتها البرامج الحكومية في مختلف المدن الأميركية، منها "صندوق طوارئ واحد للأجور العادلة" و"مؤسسة جماعات عمال المطاعم" و"التحالف الوطني لعاملات المنازل" و"صناديق إغاثة العمال غير الموثّقين". قد يكون عمل هذه المنظمات بالغ الأهمية، لكنه ليس كافياً. إذا أراد الأميركيون تقليص أسوأ آثار الأزمة الراهنة والاستعداد للأزمات المستقبلية بأفضل طريقة ممكنة، عليهم أن يوسعوا شبكة الأمان الاجتماعي ويكثفوا التدابير التي تحمي العمال غير الرسميين.

قد تكون الاحتجاجات المُسيّسة في معظمها لإنهاء تدابير الحجر المنزلي التي فرضتها ولايات فلوريدا وميشيغان وأوكلاهوما وغيرها متطرفة أو حتى متهورة، لكنها تعكس شكلاً عميقاً من انعدام الأمان الاقتصادي بين الأميركيين ذوي الدخل المتوسط والمنخفض. لكن تركّز هذه التظاهرات للأسف على هدف خاطئ. لم تكن تدابير الإقفال التام السبب في انعدام الأمان الاقتصادي، بل تتعلق المشكلة الأساسية بإعطاء الاقتصاد طابعاً غير رسمي في العقود الأخيرة. لبناء بلد قوي ومجتمع صحي، يتعين على الولايات المتحدة أن تبدأ باستعمال برامج الإغاثة الخاصة بفيروس كورونا للمطالبة بتوسيع تدابير حماية جميع العمال، ما يعني إعادة الطابع الرسمي للاقتصاد غير الرسمي عبر الاعتراف بأهميته.