الولايات المتحدة والصين... بين الشراكة والمنافسة!

09 : 51

المنطق الاستراتيجي للعلاقة بين الولايات المتحدة والصين انهار بالكامل! بعد ربع قرن على محاولات الرؤساء الأميركيين دمج الصين المتنامية بوتيرة سريعة في النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، استنتجت الأخيرة أنّ البلد الذي اعتبرته "شريكاً استراتيجياً" هو في الواقع "خصم استراتيجي".

وبعد عقود من تبنّي مقاربة "الاختباء والرضوخ" في عهد دنغ شياو بينغ، خلعت الصين عنها هذه العباءة بقيادة شي جين بينغ ورسّخت قوتها. ويدرك صانعو السياسة في بكين وواشنطن أنهم عالقون في منافسة كلاسيكية. الصين قوة ناشئة متفجرة، والولايات المتحدة قوة حاكمة جبارة! فيما تُحقق الصين حلمها باسترجاع موقعها العظيم، لا مفر من أن تتأثر الامتيازات الأميركية التي تحتل أعلى المراتب. وفق هذه العقلية، يميل الأميركيون طبيعياً إلى اعتبار أنفسهم الأحق بهذه المكانة بعد قرن من الهيمنة الأميركية.



على مر التاريخ الطويل، حين تُهدد قوة ناشئة بإسقاط القوة الحاكمة، لا بد من دق ناقوس الخطر للإعلان عن التهديد الوشيك! شهدت الأعوام الـ 500 الأخيرة 16 منافسة مشابهة، وانتهى 12 منها باندلاع الحرب. لكن هل تكون الولايات المتحدة والصين محكومتَين بالحرب، أم أنهما تستطيعان تجنب "فخ ثوسيديدس"؟ اعتبر هنري كيسنجر أن نظرية "فخ ثوسيديدس" تطرح أفضل رؤية لتجاوز الضجة الحاصلة والأنباء المنتشرة والتعمّق في الدينامية الكامنة وراء العلاقات القائمة بين هاتين القوتين العظيمتَين.


في حال حذا ترامب وشي جين بينغ وفِرَق الأمن القومي التابعة لهما حذو قادة الأجيال السابقة وسارا نحو الحرب، هل يمكن أن تندلع حرب عالمية ثالثة حقيقية ودموية ومدمّرة؟ أم أنهما سيكونان مبتكرَين وذكيَّين على غرار القادة الذين تجنبوا الحرب في أربع حالات خلال آخر 500 سنة؟


في سوق اقتصادية عالية التنظيم، يؤدي التنافس بين مختلف الجهات إلى تأجيج الإبداع وإنتاج أفضل السلع بأقل الأسعار. علّمنا خبير الاقتصاد آدم سميث أن خليط التجارة والتخصص المبني على الميزة النسبية ينتج حصصاً أكبر من تلك التي تحصدها الدول حين تعمل بشكلٍ منفصل. بالتالي، يُشجّع التنافس داخل السوق، المحلية أو الدولية، على الابتكار والاختراع وزيادة الازدهار، لكنه يُوسّع في الوقت نفسه مظاهر السلوك العدائي والاحتكار والابتزاز، إلا إذا كان جزءاً من قواعد اللعبة المُتّفق عليها.


وبما أن الناتج المحلي الإجمالي بنية فرعية من القوة الوطنية، من حق الأميركيين أن يشعروا بالقلق، حتى لو كان التنافس الاقتصادي منصفاً مع الصين، لأن عدد السكان الصينيين يفوق الولايات المتحدة بأربع مرات، وإذا بدأت الصين تنتج ربع ما ينتجه الأميركيون فقط (ما يساوي حجم إنتاجها اليوم تقريباً)، سيصبح الناتج المحلي الإجمالي الصيني مساوياً للناتج الأميركي. وإذا بلغ إنتاجها نصف الإنتاج الأميركي، سيتضاعف ناتجها المحلي وهكذا دواليك. سرعان ما ينشأ تطور حسابي يصعب تجاهله!على الساحة العسكرية، يرتكز التنافس على مبدأ "لا غالب ولا مغلوب"! في ما يخص العلاقة العسكرية بين الولايات المتحدة والصين، يملك الطرفان ترسانات نووية فاعلة وقادرة على صدّ الاعتداءات. لذا يُعتبر أي هجوم من الخصوم ضرباً من الجنون وسيكون الدمار المتبادل مؤكداً في هذه الحالة. لكن يمكن أن يدعم الناتج المحلي الإجمالي المتزايد توسيع ميزانيات الدفاع لتمكين كل طرف من اختراع أسلحة جديدة، بدءاً من الأسلحة الإلكترونية وفائقة السرعة، وصولاً إلى الطائرات بلا طيار في الجو والبر وتحت البحر. يمكن أن تُهدد الأسلحة المتقدمة قيادة الخصم وأنظمة التحكم والأقمار الاصطناعية التي تستخدمها كل قوة عسكرية للاستطلاع. في ظل تنامي القوة العسكرية الصينية وتغيّر ميزان القوى على طول حدودها، كما يحصل في المضيق بين الصين وتايوان أو في بحر الصين الجنوبي، تتراجع مصداقية الالتزامات الأميركية بالحفاظ على وضع المراوحة.


في المجال التكنولوجي، ظهرت ابتكارات الحوسبة المتقدمة، وشبكة الجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي، وعلم الجينوم، ما يعني أن المنافسة تُشجّع على الإبداع والاختراع. لكن بما أنها المحرك الأساسي أيضاً للنمو الاقتصادي والناتج المحلي الإجمالي، من الطبيعي أن تموّل التطور في القوة العسكرية. 

يواجه البلدان صعوبة في ابتكار طريقة لحكم مجتمعيهما. في الولايات المتحدة حيث انتشر حديثاً مفهوم "رأس المال المختلّ"، يتعلق التحدي القائم بإعادة ابتكار ديموقراطية فاعلة. وفي الصين، يحاول شي جين بينغ أن يعيد إحياء الحزب الشيوعي الصيني باعتباره رأس الحربة لقيادة اقتصاد رأسمالي حكومي بناءً على أسس اللينينية، لكن شبّه لي كوان يو هذه المقاربة بتشغيل تطبيقات من القرن الواحد والعشرين على نظام من القرن العشرين. في

هذا المجال إذاً، تشتق معظم التحديات التي يواجهها كل طرف من داخل حدوده.

لكن في خمسة مجالات أخرى، لن ينتج التعاون المكثف والشراكة القوية منافع متبادلة بكل بساطة. في هذه المجالات، لا تستطيع أي دولة أن تصمد من دون تعاون جدي مع الطرف الآخر: تجنب الحرب الشاملة، لا سيما النووية؛ منع انتشار وسائل الإرهاب ودوافعه؛ الحفاظ على محيط حيوي يستطيع المواطنون فيه تنشّق الهواء؛ احتواء الأوبئة؛ إدارة الأزمات المالية لتفادي الانهيارات الكبرى وعواقبها السياسية.


في المجال النووي، بما أن الصين تتكل راهناً على قدراتها الفاعلة لصدّ الاعتداءات، يمكن اعتبارها توأم الولايات المتحدة المتلاصق. بعبارة أخرى، مهما كان أحد الطرفين شريراً أو مخادعاً أو خطيراً أو يستحق الخنق، إلا أنه سينتحر حالما يقتل الطرف الثاني!


في المنافسات التي تجازف بالوقوع في "فخ ثوسيديدس"، يكون أبرز سبب للحرب عبارة عن حدث خارجي، أي استفزاز طرف ثالث، أو حتى حادثة مثل اغتيال الأرشيدوق في سراييفو. من مصلحة البلدين إذاً أن يتعاونا لتجنب الأزمات التي يمكن أن تجرّهما إلى حرب شاملة وإدارتها عند وقوعها. يعكس تعاونهما الراهن لوقف التقدم النووي في كوريا الشمالية كيفية تحقيق هذا الهدف. لكن يمكن إيجاد أمثلة بناءة عن كيفية زيادة المخاطر في تهور إدارة ترامب ونزعتها إلى تشجيع تايوان على اتخاذ الخطوات اللازمة لترسيخ استقلالها عن الصين، وفي مطالب الحكومة الصينية الراهنة بحل مشكلة تايوان عاجلاً وليس آجلاً.


من الواضح أن الطرفين يتقاسمان مصلحة مشتركة أساسية تتمثل بمنع كوريا الشمالية أو إيران من اكتساب أسلحة نووية، وتحديداً نقل الأسلحة أو بيعها أو سرقتها كي يستعملها الإرهابيون لتدمير قلب مدينة كبرى. في مجال مكافحة الإرهاب، تعاون البلدان على مستويات واسعة، مع أن استعمال الصين لسياسة مكافحة الإرهاب كغطاء لقمع أقلية الأويغور المسلمة في منطقة "شينجيانغ" يشير إلى حجم التعقيدات المطروحة.


بما أن كل مواطن على وجه الأرض يعيش داخل محيط حيوي واحد، قد يعتبر المواطنون، في نهاية هذا القرن، المناخ في البلدين غير صالح للعيش، إلا إذا وجدت الولايات المتحدة والصين، اللتان تحتلان المرتبة الأولى والثانية على التوالي في حجم انبعاثات غازات الدفيئة، طرقاً فاعلة لحصر تلك الانبعاثات أو الحد من آثارها. وقد خطا "اتفاق باريس للمناخ" خطوة صغيرة نحو الاعتراف بهذا الواقع وبدأ العمل على مواجهة هذا التحدي. لكن يصعب أن نفهم

انسحاب ترامب منه وإنكاره للمشكلة.

لا تنحصر الأمراض، مثل الإيبولا أو إنفلونزا الخنازير، ضمن حدود بلد واحد، لذا يُعتبر التعاون لمنع انتشار الجراثيم في العالم الذي "نتقاسم فيه الهواء نفسه"، كما قال جون ف. كينيدي، نهجاً ضرورياً كي يحمي كل بلد مواطنيه.


أخيراً، لا يمكن التحكم بالأزمات المالية، على غرار أحداث العام 2008، غداة انهيار بنك "ليمان براذرز" ونشوء "ركود كبير" هدّد بوقوع نسخة ثانية من الانهيار العظيم"، إلا إذا تعاون أكبر نظامين اقتصاديين في العالم. سبق وتعاونا في العام 2008. في هذا الإطار، قال وزير الخزانة الأميركي السابق هانك بولسون، لاعب أساسي على الساحة المحلية في تلك الفترة، إن تعاون الصين لتنسيق التحفيز المالي الصيني كان على الأقل بأهمية التحرك

الأميركي لتجنب انهيار عالمي جديد، أو ربما أكثر أهمية منه!
وسط عالمٍ يسمح بإطلاق منافسة سلمية بين أنظمة سياسية متنوعة، هل يمكن أن تُشكّل الشراكة بين المنافسين نقطة انطلاق لمفهوم استراتيجي جديد للتحكم بالدينامية الخطيرة بين الصين والولايات المتحدة اليوم؟ يبقى التنافس المحتدم حتمياً. لكن إذا كان الواقع يوحي بأن أي طرف يعجز عن قتل الطرف الآخر من دون الانتحار، تصبح المنافسة القوية حاجة استراتيجية في هذه الحالة. لوضع استراتيجية كبرى تجمع بين المنافسة والتعاون، لا بد من تطوير شكلٍ من الابتكار الاستراتيجي بما يتجاوز الأفكار التقليدية المرتبطة راهناً باستراتيجية الحرب الباردة التي نشأت على مر أربع سنوات بعد "تلغرام كينان الطويل"، غداة إجتماع واشنطن في العام 1946. لكن يمكن الاطلاع على تفاصيل ذلك المشروع المدهش من خلال مراجعة عهد كينيدي وسلالة سونغ الحاكمة.


MISS 3