هنري بولسون جونيور

الدولار... ما مصيره؟

27 أيار 2020

02 : 00

في أواخر شهر آذار الماضي، بدأت الأسواق المالية العالمية تنهار تزامناً مع الفوضى التي سببها فيروس كورونا المستجد. لذا لجأ المستثمرون الدوليون سريعاً إلى الدولار الأميركي، كما فعلوا خلال الأزمة المالية في العام 2008، واضطر الاحتياطي الفدرالي الأميركي لضخ مبالغ هائلة بالدولار لنظرائه العالميين. بعد 75 عاماً على انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم تضعف قيمة الدولار بأي شكل. يبدو صمود الدولار لافتاً نظراً إلى ظهور عدد كبير من الأسواق الناشئة والتراجع النسبي في الاقتصاد الأميركي، من 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في العام 1960 إلى 25% اليوم. لكن ستتضح مكانة الدولار بحسب قدرة واشنطن على تجاوز تداعيات فيروس "كوفيد - 19" وطرح سياسات اقتصادية تسمح للبلد، مع مرور الوقت، بإدارة دينه العام وكبح العجز المالي الهيكلي.

وضع الدولار له أهمية خاصة. يسمح دور الدولار كعملة احتياطية عالمية رائدة للولايات المتحدة بدفع فوائد أقل مما تفعل في العادة على الأصول بالدولار. كما أنه يسمح لها بتحمّل عجز تجاري أكبر، وتخفيض مخاطر أسعار الصرف، وزيادة السيولة في الأسواق المالية الأميركية. أخيراً، يعطي الدولار الأفضلية للبنوك الأميركية نظراً إلى توسّع قدرتها على توفير الأموال بهذه العملة.

لكن يُعتبر حفاظ الدولار على هذه المكانة المتقدمة لفترة طويلة حدثاً تاريخياً غير مألوف، لا سيما في ظل تنامي نفوذ الصين. يملك الرنمينبي الصيني راهناً أفضل فرصة لأداء دور يضاهي الدولار الأميركي. قد يتوسع دور العملة الصينية نتيجة حجم الاقتصاد الصيني، وتوقعات النمو المستقبلي، ومساعي الاندماج في الاقتصاد العالمي، وتسارع الجهود الرامية إلى إعطاء طابع دولي للرنمينبي الصيني. لكن تبقى هذه العوامل غير كافية. ولن يتغير هذا الوضع بسبب نجاحات الصين البارزة في مجال التكنولوجيا المالية، بما في ذلك استخدامها السريع لأنظمة الدفع عبر الهواتف الخلوية والمشروع التجريبي الجديد في بنك الشعب الصيني لاختيار نسخة رقمية من عملة الرنمينبي. في نهاية المطاف، لن تُغيّر العملة الرقمية المدعومة مـن البنك المركـــــــزي طبيعة الرنمينبي.

يجب أن تتجاوز بكين عوائق كبرى قبل أن يتحول الرنمينبي الصيني إلى عملة احتياطية عالمية رائدة. هي تحتاج إلى تدابير جذرية، منها إحراز تقدم إضافي للانتقال إلى اقتصاد مبني على حركة السوق، وتحسين إدارة الشركات، وتطوير أسواق مالية فاعلة ومنظّمة وقادرة على كسب احترام المستثمرين الدوليين، ما يسمح لبكين بإلغاء الضوابط على الرساميل وتحويل الرنمينبي إلى عملة يحدد السوق قيمتها.

على واشنطن أن تدرك المجازفات التي تطرحها المنافسة مع الصين. يجب أن تحافظ الولايات المتحدة على تفوقها في الابتكارات المالية والتكنولوجية، لكن لا داعي للمبالغة في تقييم أثر عملة الاحتياطي الرقمي الصيني على الدولار الأميركي. في المقام الأول، يجب أن تحافظ الولايات المتحدة على الظروف التي أدت إلى تفوق الدولار منذ البداية: اقتصاد حيوي مبني على سياسات مالية واقتصادية كلية، ونظام سياسي شفاف ومنفتح، وتفوق اقتصادي وسياسي وأمني في الخارج. باختصار، لن يتوقف صمود الدولار على ما يحصل في الصين، بل سيرتبط في معظمه بقدرة الولايات المتحدة على التكيف مع اقتصادها بعد أزمة "كوفيد - 19" كي تبقى نموذجاً ناجحاً.





المنافسة الصينية في مجال التكنولوجيا المالية

يلاحظ كل من يعود من الصين إلى أي حد أصبح البلد مجرّداً من الأموال النقدية. بدءاً من شراء وجبات الطعام من المتاجر الشعبية وصولاً إلى إعطاء المال إلى المتسولين، تحصل جميع العمليات اليوم عبر الهواتف الذكية ورموز الاستجابة السريعة. حتى أن صفوف الانتظار أمام الصراف الآلي أصبحت جزءاً من الماضي. زادت القدرة التنافسية للشركات الصينية في قطاع التكنولوجيا المالية، وأصبح المستهلكون الصينيون من أكبر مستخدميها.

هذه الوقائع تدفع المحللين دوماً إلى إطلاق توقعات مفادها أن الهيمنة الصينية على التكنولوجيا المالية قد تُهدد قريباً مكانة الدولار في العالم. لكنّ هذا الاحتمال لا يحمل مخاوف جدّية، حتى أن الولايات المتحدة ليست متأخرة في مجال التكنولوجيا المالية. لم تكن الصين رائدة في هذا القطاع يوماً، بل إنها تبنّت هذه التقنية سريعاً واستفادت منها. فتحت شركتا التكنولوجيا الصينيتان العملاقتان Alibaba وTencent المجال أمام ابتكار خدمات تجعل المعاملات الرقمية أكثر فاعلية بكثير، تزامناً مع استكشاف سوق كبير من عملاء لا يستخدمون البنوك، لا سيما في المناطق الريفية الصينية. كان نجاح هذا المشروع استثنائياً. في العام 2018 مثلاً، بلغت قيمة معاملات الدفع عبر الهواتف الخلوية في الصين 41.5 تريليون دولار.

كان هذا النجاح ممكناً لأن البنى التحتية المالية الصينية قديمة ونظامها المصرفي الحكومي غير فاعل. كذلك، لم تصبح بطاقات الائتمان شائعة جداً في الصين، لذا من المنطقي أن ينتقل الناس سريعاً من اقتصاد مبني على الأموال النقدية إلى الخدمات المصرفية الهاتفية مباشرةً، بعدما أصبحت الهواتف الذكية رخيصة وواسعة الانتشار.

لكن في ظل تراجع المعاملات بالأموال النقدية في الصين، يصعب أن يتذكر الأميركيون آخر مرة استعملوا فيها الأموال النقدية إلا في معاملات بسيطة. هم يستطيعون نقل الأموال من حساب مصرفي إلى آخر بسرعة وسهولة. لكن يفضّل الأميركيون حتى الآن بطاقات الائتمان لأن استعمالها سهل بقدر استخدام الهاتف، كما أن البنية التحتية المالية القائمة آمنة ومتينة وجديرة بالثقة.

كثّفت شركات التكنولوجيا الصينية ابتكاراتها لتلبية طلب المستهلكين والتعويض عن البنية التحتية المالية الشائبة محلياً. حتى أنها بدأت تستخدم تلك التقنيات في الأسواق النامية، حيث شجّعت الاقتصادات الناشئة القبول الفوري للهواتف الذكية ومنحت الشركات الصينية فرصة هائلة لكسب حصة في السوق.

تشجيع الابتكارات الأميركية

في الوقت الراهن، يجب ألا تقلق الولايات المتحدة من احتمال أن ينتهي عصر تفوق الدولار كعملة احتياطية عالمية، بل من الأفضل أن تنشغل بقدرة قطاعها الخاص على استعمال التكنولوجيا المالية الجديدة. العملة الرقمية ليست مجرّد فكرة صينية وليست حكراً على قطاع البنوك المركزية، بل إن الابتكار المالي في العملات الرقمية والمدفوعات الخلوية يحصل في القطاع الخاص الأميركي أيضاً.

في الوقت نفسه، تترافق هذه التقنيات الجديدة مع مخاطر كامنة. من دون الحفاظ على خصوصية البيانات، يصعب استعمال تلك التقنيات على نطاق واسع. كذلك، قد تُسهّل هذه الابتكارات الجديدة تبييض الأموال ونشاطات مالية غير قانونية أخرى. إنها أسباب مشروعة للقلق.

لطالما كانت "سيليكون فالي" و"وول ستريت" رائدتَين في الابتكارات المالية والمنصات الرقمية الجديدة للمعاملات والأشكال المستحدثة من الأموال. إذا تحققت أهداف تلك الاختراعات، قد تبتكر الشركات الأميركية أفضل عملة رقمية وأكثرها أماناً، تزامناً مع فرض ضوابط قوية ضد المعاملات المالية غير المشروعة. من المتوقع أن تعطي المكاسب المترتبة عن هذه الابتكارات، على مستوى الفاعلية وتراجع كلفة المعاملات، منافع ملموسة للمستهلكين.

يجب أن يقيم صانعو السياسة إذاً توازناً حذراً بين تخفيف مخاطر التقنيات الجديدة ودعم قدرة الشركات الأميركية الخاصة على الابتكار. لكن قد يعمد المنظمون الأميركيون إلى رفع حواجز الدخول المفروضة على الشركات الأميركية، فتضطر هذه الأخيرة لتقديم خدماتها إلى كل من يفضّل التمويل الرقمي على الخدمات المصرفية التقليدية في الولايات المتحدة وإلى المستهلكين الذين لا يتعاملون مع البنوك حول العالم (يبلغ عددهم حوالى مليارَي شخص وفق البنك الدولي، ويقيم معظمهم في البلدان النامية حيث تكون الأسواق المالية أكثر ضعفاً والعملات متقلبة).





تــفــوق الــدولار الأمــيــركــي يــبــدأ مــحــلــياً


تحتاج الولايات المتحدة حتماً إلى التعامل بجدية مع الصين، باعتبارها منافِسة اقتصادية كبرى. لكن لضمان استمرارية تفوق الدولار، لا يشتق الخطر الأساسي من بكين بل من واشنطن نفسها. يجب أن تحافظ الولايات المتحدة على اقتصاد يوحي بالمصداقية والثقة أمام العالم أجمع. مع مرور الوقت، قد يؤدي الفشل في هذه المهمة إلى تهديد الدولار الأميركي.

يعكس وضع الدولار مدى سلامة النظام السياسي والاقتصادي الأميركي. ولحماية مكانة الدولار، يجب أن يبقى الاقتصاد الأميركي نموذجاً للنجاح والمنافسة. لتحقيق هذا الهدف، على النظام السياسي أن ينجح في تطبيق السياسات التي تسمح لعدد إضافي من الأميركيين بالتقدم وتحقيق الازدهار الاقتصادي. ويجب أن يتمكن النظام السياسي أيضاً من الحفاظ على وضع مالي سليم محلياً. تاريخياً، لم يسبق أن حافظ أي بلد على تفوقه من دون تبنّي مقاربة مالية حذرة على المدى الطويل. بالتالي، يجب أن يتعامل النظام السياسي الأميركي مع التحديات الاقتصادية الراهنة.

تحتل خيارات السياسة الاقتصادية الأميركية في الخارج أهمية كبرى أيضاً لأنها تؤثر على المصداقية الأميركية وتُحدد قدرتها على رسم معالم الظروف العالمية. للحفاظ على هذا الدور القيادي، على الولايات المتحدة أن تطلق مبادرة لتعديل وتحديث القواعد والمعايير العالمية التي تحكم التجارة والاستثمارات والمنافسة في مجال التكنولوجيا، بما يتماشى مع وقائع القرن الواحد والعشرين. على صعيد آخر، يجب أن تدرك واشنطن أن العقوبات أحادية الجانب (كانت ممكنة أصلاً بسبب تفوق الدولار) لا تخلو من التكاليف. نتيجة استعمال الدولار كسلاح بحد ذاته، قد يقرر حلفاء الأميركيين وخصومهم تطوير عملات احتياطية بديلة، حتى أنهم قد يتعاونون في ما بينهم للقيام بذلك. لهذا السبب تحديداً، دعا الاتحاد الأوروبي إلى تقوية اليورو في المعاملات الدولية.

في السياق نفسه، سيتوقف وصول الرنمينبي الصيني إلى مستوى الدولار كعملة احتياطية أساسية على مقاربة الصين لتجديد معالم اقتصادها الخاص. لكن إذا نجحت بكين في تطبيق الإصلاحات المطلوبة، ستنشئ اقتصاداً أكثر جاذبية لتصدير السلع والخدمات الأميركية وتُحسّن القدرة التنافسية للشركات الأميركية الناشطة في الصين. هذه التغيرات ستفيد الولايات المتحدة حتماً.

في نهاية المطاف، تعكس قيمة العملة الوطنية لحامليها الأسس الاقتصادية والسياسية في بلدانهم. سيكون وضع الولايات المتحدة خلال السنوات التي تلي أزمة "كوفيد-19" مؤشراً بالغ الأهمية. في المقام الأول، يجب أن تطرح واشنطن سياسات اقتصادية كلية لوضع البلد على طريق مستدام يسمح بالسيطرة على الدين الوطني ومسار العجز المالي الهيكلي. كذلك، يجب ألا تتخلى الولايات المتحدة عن الأسس التي حافظت على قوتها الاقتصادية، علماً أنها ترتكز على روح المبادرة والحكم الفاعل. إذا التزمت واشنطن بهذا المسار، لن تتزعزع الثقة بالدولار لأي سبب.


MISS 3