دانيال كيرتزر

حان وقت تنحّي نتنياهو

4 تشرين الثاني 2023

02 : 00

بنيامين نتنياهو و بايدن على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة | ٢٠ أيلول ٢٠٢٣

أصبحت أيام بنيامين نتنياهو كرئيس حكومة إسرائيل معدودة. يمكنه أن يتحمّل مسؤولية فشل عملياته وإخفاقاته السياسية والاستخبارية التي اتّضحت في 7 تشرين الأول، حين أقدمت حركة «حماس» على قتل أكثر من 1400 إسرائيلي، أو ستتم تنحيته بقرار من لجنة التحقيق بعد الحرب. يُفترض أن يرحل فوراً، حفاظاً على ما تبقى له من احترام.



بقي نتنياهو في منصبه أكثر من أي زعيم إسرائيلي آخر، ما يعكس مهاراته السياسية الفائقة والصورة التي خلقها عن نفسه كضامن أساسي للأمن. لكن جاءت «حماس» لتدمّر تلك الصورة بأكثر الطرق مأسوية، فأطلقت هجوماً كفيلاً بتمزيق جوهر إسرائيل لسنوات عدة.

يُفترض أن يطبّق أي زعيم مسؤول مقولة الرئيس الأميركي السابق هاري ترومان حول ضرورة أن يتحمّل الرئيس مسؤولية قراراته. في 7 تشرين الأول، لم يكن نتنياهو شخصاً مبتدئاً في منصب رئاسة الحكومة، فهو انتُخِب لولاية ثانية في العام 2009 وحَكَم البلد منذ ذلك الحين، باستثناء فترة قصيرة شهدت نشوء ائتلاف بديل.

لطالما كان سجله مختلطاً. ازدهر قطاع التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل خلال العقود الأخيرة، لكن ينجم هذا النجاح بشكلٍ أساسي عن دعم الجيش الإسرائيلي، لا نتنياهو. في غضون ذلك، توسّعت العلاقات مع بعض الدول العربية بموجب «اتفاقيات أبراهام»، لكن لم يكن هذا الإنجاز يرتبط بذكاء نتنياهو الدبلوماسي. هو فضّل توسيع المستوطنات في الأراضي المحتلة وجازف حينها بإفساد فرص السلام مع الفلسطينيين.

إستفاد نتنياهو من تمويل المستوطنات والمؤسسات التابعة للجماعات المتطرفة لترسيخ قاعدته السياسية وضمان إعادة انتخابه. لكن تحققت هذه الأهداف على حساب المؤسسات الإسرائيلية العامة، بما في ذلك قطاع التعليم. يذكر تقرير من العام 2021 أن 50% من الأولاد الإسرائيليين يتلقون «تعليماً مشابهاً لدول العالم الثالث». كذلك، بلغ معامل «جيني» (يقيس درجة المساواة في البلد استناداً إلى توزيع المداخيل) 52.2 في العام 2019، ما يجعل البلد في أسفل المقياس العالمي، بين موريشيوس والسنغال.

على مر ولايتَين رئاسيتَين من عهد باراك أوباما في البيت الأبيض، هدّد نتنياهو أهم علاقة استراتيجية بالنسبة إلى إسرائيل، فكاد يفسد العلاقات الأميركية الإسرائيلية بالكامل.

ركّز الزعيم الإسرائيلي عمداً على احتمال أن تكسب إيران قدرات لتصنيع أسلحة نووية، ما دفعه إلى خوض مواجهة مريرة مع إدارة أوباما خلال المرحلة التي سبقت عقد الاتفاق النووي مع إيران في العام 2015، أو ما يُعرَف باسم «خطة العمل الشاملة المشتركة».

هدّد نتنياهو خلال تلك الفترة بقصف إيران، وأدلى بتعليقات مسيئة بحق أوباما وكبار مساعديه، واستعد لإلقاء خطاب خلال جلسة مشتركة للكونغرس من دون علم الرئيس.

قبل إقرار «خطة العمل الشاملة المشتركة» بوقتٍ طويل، اعتاد نتنياهو على إلقاء محاضرات على مسامع الرؤساء الأميركيين. هذا ما قام به علناً أمام أوباما في العام 2011، بحضور صحفيين في المكتب البيضاوي. كما أنه حاضر أمام بيل كلينتون في أوساطه الخاصة في العام 1996، ما دفع كلينتون إلى إبداء ردة فعل سلبية في ذلك الاجتماع.

عملياً، بدأت علاقات نتنياهو المتوترة مع الولايات المتحدة قبل عهد أوباما بكثير. أنا شخصياً قابلتُه في العام 1989، حين كان نائب وزير الخارجية الإسرائيلي وكنتُ أزور إسرائيل بصفتي نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي، كجزءٍ من فريق السلام بقيادة وزير الخارجية جيمس بيكر. وصلنا إلى القدس في منتصف شهر أيار، تزامناً مع طرح اقتراح سلام مؤلف من أربعة أجزاء من جانب رئيس الوزراء إسحق شامير.

خلال دعوة غداء في مقر رئيس الوزراء، جلستُ بالقرب من نتنياهو وتكلمنا مطولاً. تفاجأتُ حين أوضح نتنياهو أنه غير ممتنّ من سياسة رئيس حكومته، ما أسفر عن موقف غريب: بدا وكأن الإدارة الأميركية تدعم خطة السلام الإسرائيلية أكثر من مسؤول إسرائيلي بارز.

في وقتٍ لاحق، استدعاني مساعد بيكر إلى مكتب الوزير. بدا بيكر غاضباً جداً وراح يلوّح ببيان صحفي يحمل عنواناً رئيسياً صادماً: «نتنياهو: الولايات المتحدة مبنية على الأكاذيب والفبركات». حاولتُ طمأنته وأخبرتُه بأن الكلام لا يمكن أن يكون دقيقاً.

لم يكن ذلك الاقتباس صحيحاً، لكنه ليس خاطئاً بالكامل. هاجم نتنياهو الإدارة الأميركية فعلاً، فقال إن «السياسة الأميركية كانت مبنية على الأكاذيب والفبركات». منذ ذلك اليوم وصولاً إلى نهاية إدارة بوش، أصبح نتنياهو شخصاً غير مرغوب فيه في وزارة الخارجية الأميركية.

بعد مرور سنوات، أصبحتُ سفير الولايات المتحدة، فيما كان نتنياهو وزير المال في حكومة الرئيس أرييل شارون. كان نتنياهو مستعداً لاتخاذ قرارات صارمة بضغطٍ من صندوق النقد الدولي والولايات المتحدة لتحسين الاقتصاد الإسرائيلي. في غضون ذلك، شجّعتُ الحكومة الأميركية على تقديم عدد من الحوافز على شكل شبكة أمان لتدابير التقشف التي فرضها نتنياهو.

خلال تلك الفترة، شاهدتُ نتنياهو وهو يناقش المسائل الاقتصادية والسياسية طوال الوقت، لا سيما قرار شارون في العام 2003 بفك الارتباط والانسحاب من غزة. كان موقف نتنياهو من فكرة فك الارتباط يحمل دلالات كثيرة، فهو صوّت لصالح القرار لكنه استقال قبل بضعة أيام على تنفيذ الانسحاب.

علّمتني تلك التجربة وسواها دروساً كثيرة عن ذلك الرجل، فتأكدتُ مما كتبتُه قبل سنوات في مذكرة غير رسمية إلى وزير الخارجية وارين كريستوفر: نتنياهو رجل ذكي جداً، لكنه يفتقر إلى «حسّ توجيهي للسياسات» من أجل بلوغ المكانة التي يصبو إليها. قد يُعبّر عن أفكار مهمة، لكنه يعجز أحياناً عن تحويلها إلى خطوات ملموسة.

أعاقت ازدواجية نتنياهو بشأن السلام ومسألة الأراضي المحتلة السياسة الإسرائيلية طوال عقود. من جهة، أشار خطابه في جامعة «بار إيلان»، في العام 2009، إلى استعداده لعقد السلام مع الفلسطينيين، مع أن كلامه ترافق مع تحذيرات بارزة. ومن جهة أخرى، تدهور الوضع ميدانياً تزامناً مع توسّع سيطرة إسرائيل على الأراضي التي تحتلها، بسبب دعمه المتواصل لبناء المستوطنات في الأراضي المحتلة، وإهمال حكومته الواضح لأعمال العنف التي يرتكبها المستوطنون ضد الفلسطينيين، وسياسته المبنية على إضعاف السلطة الفلسطينية.

هذه العوامل كلها حوّلت نتنياهو إلى معضلة بحد ذاتها، على مستوى سياساته وشخصيته. هو أعطى الأولوية للأمن، لكنه أضعف في المقابل شراكة إسرائيل الاستراتيجية والحيوية مع واشنطن. قد يكون بارعاً من الناحية السياسية أكثر من جميع المسؤولين الآخرين في البلد، لكنه عقد شراكات مع أكثر الشخصيات اليمينية تطرفاً في المعترك السياسي. حتى أن قادة جيشه عارضوه في الملف الإيراني وشككوا بطريقة تعامله مع القضية الفلسطينية. كذلك، أدت تصرفاته الشخصية المتهورة إلى اتهامه بالفساد مراراً. في السنة الماضية، كان نتنياهو سبباً في انقسام البلد على خلفية خطة الإصلاح القضائي التي تشتق جزئياً من رغبته الخاصة في تجنب المحاكمة.

كانت مصادر الإلهاء هذه جزءاً من أسباب الفشل المنهجي للحكومة الإسرائيلية قبل 7 تشرين الأول. لا شك في أن «حماس» مسؤولة عما حصل؛ لكن صمّم نتنياهو من جهته سياسة لاسترضاء تلك الحركة، فافترض أنها ستوافق على هدنة طويلة الأمد بدل تنفيذ خطتها الأصلية التي تدعو إلى تدمير إسرائيل. تلك السياسة أغرقت إسرائيل في أسوأ حرب منذ عقود.

ستنتهي الحرب في غزة في مرحلة معيّنة. لكن لن يجد الإسرائيليون والفلسطينيون بعد انتهائها أي آفاق سياسية يمكن الاتكال عليها للمضي قدماً، ولا عملية سلام يمكن إعادة إحيائها، ولا آمال حقيقية لبناء مستقبل أفضل. سيكون هذا الوضع جزءاً من الإرث الذي يتركه نتنياهو بعد سنوات طويلة أمضاها في السلطة.

حاول نتنياهو التهرب من مسؤولياته منذ بضعة أيام عبر لوم الاستخبارات وقيادة الجيش على الإخفاقات الأمنية التي مهّدت لهجوم «حماس». لكن كان يُفترض أن تُقنعه ردود الأفعال الغاضبة بأن الإسرائيليين لن يسمحوا بإعفائه من المسؤولية. وفق استطلاع نشره معهد إسرائيل للديمقراطية هذا الأسبوع، عبّرت أغلبية واضحة من الإسرائيليين عن ثقتها بقادة الجيش الإسرائيلي أكثر من نتنياهو. يدرك معظم مواطنيه على ما يبدو أنه يبدي مصالحه الخاصة على مصالح الدولة ومواطنيها. من الواضح أنه عرّض بلداً كاملاً للخطر بهدف الإفلات من أي محاسبة قانونية بسبب لائحة الاتهام الموجّهة ضده. وبعدما خسر نتنياهو صورته كحامي إسرائيل وفشل حتى الآن في تحديد أهداف الحرب الإسرائيلية في غزة، باستثناء الكلام عن تدمير «حماس»، يبدو أنه يتمسك بمنصبه الآن لمجرّد الاحتفاظ بالسلطة.

لا تشمل اللغة العبرية كلمة محددة للإشارة إلى معنى المساءلة، لذا يستعمل الإسرائيليون كلمة Achrayut التي تعني «المسؤولية». سبق وتجنّب نتنياهو المساءلة في الماضي، لا سيما بعد كارثة حريق جبل الكرمل التي أسفرت عن مقتل 44 إسرائيلياً في العام 2010، أو حادث التدافع الذي قتل 45 شخصاً خلال حجّ ديني في العام 2021. هو يحاول تجنّب المساءلة بالطريقة نفسها اليوم. حان الوقت إذاً كي يتحمّل مسؤولية أفعاله ويتعرض للمساءلة، وحان الوقت كي يتنحى من منصبه.