دانيال بينام

الولايات المتحدة أمام فرصة قيّمة في الشرق الأوسط

1 حزيران 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

تجد السياسة الخارجية الأميركية صعوبة كبرى في تحديد مدى التزام الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لقد انتهى الزمن الذي شهد انتشار 180 ألف جندي أميركي للقتال في العراق أو كان فيه ارتفاع أسعار النفط كفيلاً بصمود الاقتصاد الأميركي. ثم جاء الوباء العالمي حديثاً ليذكّر الولايات المتحدة مجدداً بضرورة إعادة التركيز على أكثر التحديات إلحاحاً راهناً ومستقبلاً. لكن إذا كانت مقاربة ترامب خاطئة، ما هي المقاربة الصحيحة؟

غالباً ما ينحصر الجدل اليوم بسؤال عسكري واحد: هل يجب أن تبقى الولايات المتحدة في المنطقة أو ترحل منها؟ من الأفضل أن يحدد الأميركيون مصالحهم بكل وضوح ويضعوا خطة لتحقيقها ويغيروا الدور الأميركي في النظام الإقليمي الذي ساهموا في تأسيسه، من دون ترك مظاهر إضافية من الفوضى والمعاناة وانعدام الأمان. في النهاية، لن يكون ترامب أول رئيس يَعِد بتقليص الوجود الأميركي في الشرق الأوسط ثم يغرق في الصراعات هناك، ولو على مضض.

حاولت الولايات المتحدة مراراً استعمال الوسائل العسكرية لتحقيق نتائج مستحيلة في الشرق الأوسط. لذا حان الوقت الآن كي تجرّب الدبلوماسية العدائية للتوصل إلى نتائج واقعية ومستدامة.

فراغ دبلوماسي

حتى الآن، تركّز الأحاديث المرتبطة بالدبلوماسية الإقليمية على المقاربة التي تسمح للولايات المتحدة وإيران بتجديد الاتفاق النووي في عهد رئيس ديموقراطي جديد. سيكون تجنب أي مسار صدامي في الملف النووي عاجلاً وأساسياً. لكنه ليس الموضوع الدبلوماسي الوحيد أمام الولايات المتحدة. بل يجب أن تسعى أيضاً إلى إقامة حوار إقليمي منظّم، بدعمٍ من أعضاء آخرين في مجلس الأمن، لاستكشاف كيفية تخفيف الاضطرابات وإنشاء مسارات لمنع تصعيد الوضع ومعالجة انعدام الثقة.

تُعتبر المملكة العربية السعودية وإيران من أبرز اللاعبين الإقليميين، ومن المتوقع أن يحاول البلدان لملمة الوضع في بداية العام 2021، غداة تراجع أسعار النفط وتفاقم التداعيات الصحية والاقتصادية لوباء "كوفيد - 19" الذي ضرب إيران بقوة في مرحلة مبكرة. كانت الأزمات الإنسانية في السابق سبباً لذوبان الجليد الدبلوماسي بين الدول وقد يتكرر هذا الوضع اليوم. بحسب الظروف الصحية في السنة المقبلة ورغم الاضطرابات الأخيرة، تستطيع السعودية وإيران الاتكال على جهود بناء الثقة الماضية للتخطيط معاً لاستئناف رحلات الحج إلى مكة وتنظيم سفر السعوديين الشيعة. الأهم من ذلك هو التعهد صراحةً باحترام سيادة كل بلد فيما يواجه الطرفان تحديات داخلية كبرى. إذا التزم البلدان بهذه النقاط، سيكون التقدم بينهما كبيراً.

لن يتطلب الحوار الإقليمي حول مسائل الأمن والسلام نشوء مؤسسة جديدة أو عقد معاهدات رسمية، بل يكفي أن يشمل صيغة متكاملة ترتكز على هندسة وأجندة مرنة، مع ترك هامش لاستكشاف نوايا كل طرف. من الأفضل أن يحصل جزء من المحادثات بدعمٍ من الولايات المتحدة، لكن من دون وجودها المباشر، كي تشعر البلدان الخليجية بأن فرصها متساوية على طاولة المفاوضات. ستكون المحادثات الأخرى ثنائية بطبيعتها، نظراً إلى الدور السعودي البارز واختلاف مصالح وآراء الدول الأصغر حجماً. قد تشمل مفاوضات أخرى لاعبين بارزين من خارج المنطقة، على غرار روسيا وأوروبا. وقد تترسخ هذه الجهود نتيجة الدبلوماسية الأميركية المباشرة وتجدد الحوار بين دول الخليج وإيران.

نحو استرجاع التوازن

تزامناً مع تكثيف الجهود الدبلوماسية الإقليمية، على واشنطن أن تجيب على سؤالين شائكَين عن مستوى التناغم بين أولوياتها والنتائج التي تصبو إليها: أولاً، إلى أي حد يمكن ربط المبادرة الإقليمية الجديدة بالاتفاق النووي مع إيران؟ ستكون المعادلة محكومة بالفشل إذا أصبحت فرصة كبح التخصيب النووي الإيراني رهينة مطالب إقليمية متطرفة، كما حصل حين دعا وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو إلى طرد "آخر جزمة إيرانية" من سوريا. لكن يمكن إقامة التوازن المطلوب عبر مقاربة تدريجية تضمن التقدم في الملف النووي وتفتح المجال أمام معالجة التحديات الإقليمية مع مرور الوقت. بفضل هذا النوع من المقاربات، تستطيع الولايات المتحدة أن تُجدّد الجهود الدبلوماسية النووية فوراً مع إيران وتنقذ ما تبقى من الاتفاق النووي الناشئ في العام 2015، علماً أنه تصدّع منذ أن انسحبت منه إدارة ترامب في العام 2018. قد تتعاون الولايات المتحدة حينها مع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، إلى جانب ألمانيا وإيران، للتفاوض على اتفاق فاعل. في الوقت نفسه، على الولايات المتحدة وشركائها أن يدعموا مساراً إقليمياً واضحاً.

يجب ألا تتوقف خطة كبح التقدم النووي الإيراني خدمةً للمصالح الأميركية على نجاح الحوار في المنطقة. لكنّ تطبيق مقاربة مرنة قد يطلق حوافز تجعل إيقاع العقوبات ونطاقها مرتبطَين بالمسارات الإقليمية المحتملة.

يتعلق السؤال الشائك الثاني بأفضل طريقة لجعل الطموحات الدبلوماسية تتماشى مع الرغبة في تقليص الوجود العسكري الأميركي. في هذا الإطار أيضاً، على واشنطن أن تجد التوازن اللازم، ما يعني ألا تُحدد خطط إعادة الانتشار العسكري بحسب نتائج المفاوضات الاستكشافية الإقليمية.

في نهاية المطاف، سيكون إيجاد مقاربة بنّاءة مع إيران عاملاً أساسياً لإعادة انتشار القوات الأميركية بطريقة مستدامة تمهيداً لخروجها من المنطقة. من خلال ردع إيران والاستعداد للحالات الطارئة المشتقة من التهديدات الإيرانية (إطلاق سباق تسلّح في المنطقة، إعاقة شحنات النفط، دعم عملاء خطيرين)، تمكنت الولايات المتحدة في العقد الماضي من توجيه الوجود العسكري الأميركي المكثف في المنطقة. حين قرر ترامب إلغاء الاتفاق النووي والمخاطرة باندلاع حرب وشيكة بين الولايات المتحدة وإيران، أكد بذلك اتخاذ الوجود الأميركي طابعاً عسكرياً متزايداً، بغض النظر عن خطابه حول الحروب اللامتناهية، ويترسخ هذا الواقع في ظل تراجع حجم المساعدات وإجلاء الدبلوماسيين وتخبّط وزارة الخارجية الأميركية.

على الإدارة الأميركية الجديدة أن تجرّب مقاربة معاكسة: من خلال تجديد الدبلوماسية النووية وتخفيف الاضطرابــــــــات الإقليمية وفـــرض ترتيبــــات جديدة، هل تستطيـع الولايات المتحـدة السيطرة على التحديــات الإيرانية إذا تراجعـت أعداد قواتها في المنطقة؟ لقد أثبت ترامب أن الانتشار العسكري لن يكون بديلاً عن الدبلوماسية. ورغم تقليص الوجود الميداني، ستحتفظ الإدارة الأميركية المقبلة بهامش من الردع العسكري الفاعل كركيزة داعمة للجهود الدبلوماسية تزامناً مع تقليص المخاطر المطروحة.

تـحـديـات كـبـرى أمـام الـرئـيـس الـمـقـبـل


يبقى الشرق الأوسط مصدر اضطرابات كبرى لا تنحصر داخل حدوده، وقد تتراوح المخاطر المطروحة بين الإرهاب والانتشار النووي والهجرة الجماعية. ونظراً إلى احتمال اشتعال الوضع هناك في أي لحظة، يجب أن تتمسك الولايات المتحدة بالتزاماتها في تلك المنطقة، حتى لو كانت المعطيات الجيوسياسية وفرص النمو تستلزم زيادة التركيز على آسيا وأفريقيا ونصف الأرض الغربي. مع اقتراب انتهاء الحرب الأميركية في أفغانستان وتغيير طريقة التعامل مع إيران، قد تزيد فرص إعادة نشر القوات الأميركية وتغيير استعمالات الموارد البرية والبحرية والجوية في الخيلج. مع ذلك، قد يسهم الوجود الأميركي المنطقي في كبح الأزمات التي تتطلب توسيع الانتشار العسكري.

ستكون معالجة الصراعات العالقة بين الرياض وطهران عبر تسوية دبلوماسية كبرى مقاربة غير واقعية، لكن يبقى الحل العسكري عقيماً أيضاً. وحتى أكثر المقاربات الدبلوماسية فاعلية في المنطقة تعجز عن حل صراع السلطة المتواصل، بدءاً من الأراضي الفلسطينية ولبنان وصولاً إلى العراق وما وراءه. ثمة حاجة إلى وضع سياسات أخرى لمعالجة المعارك الشائكة بين الفصائل المتناحرة داخل العالم السنّي وتحديات الحكم الواسعة التي تزيد المشاكل الأمنية سوءاً في أنحاء المنطقة. لكنّ تخفيف التوتر بين دول الخليج وإيران سيكون مفيداً في مطلق الأحوال. وحتى أبسط تراجع في الاضطرابات يبقى قيّماً إذا سمح بإنشاء هياكل جديدة لإحراز التقدم مستقبلاً.

غالباً ما تنهار الخطط الأميركية في الشرق الأوسط أمام الوقائع الإقليمية الصعبة: هذا ما حصل مع ظهور تنظيم "القاعدة" وتنفيذ اعتداءات 11 أيلول في عهد جورج بوش الإبن، ثم تنامي نفوذ "داعش" الذي أحبط آمال إدارة أوباما بسحب الولايات المتحدة من حروب الشرق الأوسط، وأخيراً إدراك إدارة ترامب، ولو بوتيرة بطيئة، أن إيران لن تنهار بكل بساطة ولن ترضخ تحت وطأة العقوبات المتجددة. كما أن عوامل انتشار الوباء والانهيار الاقتصادي وتخبط ترامب المتواصل طوال ستة أشهر، إلى جانب الاضطرابات القائمة أصلاً في الشرق الأوسط، تشكّل محنة مديدة في عالم السياسة الخارجية. سيَرِث الرئيس الأميركي الجديد في العام 2021 تراكمات عسكرية كبرى في منطقة الخليج وأزمة نووية متصاعدة وتراجعاً بسيطاً في دعم إيران للميليشيات المتحالفة معها، لكنه قد يحصل أيضاً على فرصة قيّمة. بسبب تصرفات ترامب، قد يدرك صانعو السياسة في واشنطن والخليج حدود المقاربة الراهنة أخيراً. حتى من لا يفهم طبيعة النظام في طهران يدرك أن بقاء الولايات المتحدة على شفير الحرب مع إيران لم يعد نهجاً حكيماً أو ضرورياً.

لكن رغم جنون التحركات الأميركية الأخيرة وتغيّر المصالح الأميركية في الشرق الأوسط، لا تعني هذه الظروف أن الولايات المتحدة ستغادر المنطقة فوراً. بل يجب أن تقود جهوداً دبلوماسية كبرى لتحديد الشروط التي تسمح في نهاية المطاف بتقليص وجودها العسكري، تزامناً مع حماية المصالح الأساسية في منطقة لا تزال مهمة بالنسبة إلى الولايات المتحدة وستبقى كذلك خلال السنوات المقبلة.