جون بابون

الصين... قائدة العالم بعد كورونا؟

6 حزيران 2020

المصدر: Diplomat

02 : 00

لا يمكن تصفح مواقع التواصل الاجتماعي من دون قراءة عدد من الاقتباسات المُلهِمة، على غرار كلام دوقة "يورك" سارة فيرغسون: "الطبيعة الأم عاقبتنا كما تعاقب الأم أولادها المدللين. لقد أعطتنا الوقت والتحذيرات. كانت صبورة معنا، فأطلقت الحرائق والفيضانات وحاولت تحذيرنا لكنها استرجعت السيطرة على العالم في نهاية المطاف". يتكلم آخرون عن نشوء وضع طبيعي جديد بعد انتهاء الوباء. سترتكز الحقبة المثالية المرتقبة على الإنسان اللطيف والحكيم الذي يحترم المعايير البيئية. هذا المفهوم نبيل حتماً لأن البشرية كانت أقرب ما يكون إلى النظام البيئي المتوازن خلال النصف الأول من العام 2020 منذ بداية الثورة الصناعية. لقد أنتج الوباء عالماً يخلو من أضرار رحلات السفر الدولية وملوثات المصانع المفرطة وتراكم آثار الكربون في المدن.

بعد هذه الفترة الصعبة، أدرك البشر شكل العالم المحتمل ما لم يتغير الوضع القائم، لذا لا مفر من الدعوة إلى تغيير مسار العالم في المرحلة المقبلة. لكن لتحويل هذا الوضع الطبيعي الجديد إلى واقع ملموس، يجب أن يستلم أحد الأطراف دفة القيادة. على القائد أن يجمع خليطاً استثنائياً من قوة الإرادة السياسية والمهارات التكنولوجية والرساميل الكافية لتحريك المبادرات. بعد تحليل هذه المتطلبات، قد تكون الصين أفضل مرشّحة لاستلام هذه المهمة.

قوة الإرادة

قبل انتشار الوباء، كان قادة الصين يبذلون الجهود أصلاً لتغيير صورة بلدهم الذي يُعتبر على نطاق واسع عملاقاً جشعاً وملوِّثاً. حاولت الآليات الاقتصادية والسياسية تغيير صورة الصين من مصنع العالم إلى أول مصدر للخدمات العالمية. تأثّر البلد بشدة أيضاً بالتداعيات الاجتماعية للهواء الملوّث والمياه القذرة والمأكولات الملوّثة.

وقع حدث مفصلي في العام 2014، حين ألقى رئيس الوزراء لي كه تشيانغ خطاباً بارزاً انتقد فيه "التطور الأعمى" في الصين ودعا الشعب الصيني إلى "إعلان الحرب" على التلوث. كرر الرئيس شي جين بينغ هذه التعليقات بعد مرور بضع سنوات، خلال المؤتمر الحزبي التاسع عشر، فأعلن عن منعطف تاريخي جديد في مسار التنمية داخل الصين: "لقد نهضت الدولة الصينية واغتنت وأصبحت قوية، وها هي تتبنى اليوم آفاق التجدد اللامعة... ستشهد هذه الحقبة اقتراب الصين من الصدارة وزيادة مساهماتها لصالح الجنس البشري".

ثم طرحت الصين نفسها كقوة فعلية على الساحة العالمية في دافوس، في العام 2017. ألقى شي جين بينغ هناك خطاباً جديراً بالثناء أمام النُخَب العالمية التي تؤيّد العولمة والتعاون الدولي والمبادرات البيئية، فقال: "من الضروري أن نحمي البيئة تزامناً مع إحراز التقدم الاقتصادي والاجتماعي لضمان التناغم المطلوب بين البشر والطبيعة وبين البشر والمجتمع". حتى أنه أكّد أهمية اتفاق باريس للمناخ فيما أعلنت الولايات المتحدة انسحابها منه. لام شي جين بينغ إدارة ترامب من دون أن يسمّيها مباشرةً، فنجح بذلك في دفع الصين إلى مكانة رائدة كانت بعيدة عنها في الملف المناخي.

في السنوات الخمس الماضية، أثبتت الحكومة الصينية أيضاً أنها تفهم الرابط الوثيق بين الاستدامة والتنمية الاقتصادية الإيجابية. خلال الاجتماعات البرلمانية السنوية الأخيرة، وهي من أهم الأحداث في الأجندة السياسية الصينية، طرح رئيس الوزراء لي كه تشيانغ خطة لفتح طريق مستدام يضمن تقدم البلد المتواصل. يُحدد تقريره أولويات الحكومة وجدول الأعمال للسنة المقبلة، كما يشدد على ضرورة إعطاء قطاع الأعمال طابعاً صديقاً للبيئة وكبح مظاهر الفقر وابتكار تكنولوجيا الجيل المقبل.

قرارات حكيمة

لا تقتصر حاجات العالم الطبيعي الجديد على تبني عقلية جديدة فحسب، بل ثمة حاجة إلى ابتكار تكنولوجيا المستقبل. لا يعني الوضع الطبيعي الجديد العودة إلى العصور المظلمة أو التوجه نحو الاستقلالية المطلقة. بل نحتاج إلى حلول لتبسيط الصناعة وإلغاء ممارسات الهدر وابتكار الأدوات اللازمة لتحقيق تطور مماثل. قد يزيد الوضع تعقيداً لأن جميع الخطط يجب أن تكون منطقية من الناحية الاقتصادية. لكنّ الصين تتفوق على غيرها أصلاً في هذه المجالات كلها.

بدأت الحكومة الصينية تعمل على تبسيط الصناعة وتقليص الهدر منذ أكثر من عشر سنوات. استهدفت هذه الخطة في المقام الأول الشركات القديمة والمملوكة للدولة، لكن سرعان ما توسّعت أهدافها. في العام 2014، أقفلت 21 ألف ورشة عمل أبوابها من أصل 22 ألف في مقاطعة "بوجيانغ" في "جيجيانغ"، وهي المركز العالمي لإنتاج الزجاج البلوري، بسبب انتهاكاتها للتنظيمات البيئية المرتبطة في معظمها بتصريف مياه الصرف الصحي في الأنهار. بين العامين 2017 و2018، تابع المنظمون الصينيون دعم آليات إنفاذ القوانين. وفق السجلات الحكومية، أُغلِق حوالى 40% من المصانع الصينية خلال تلك الفترة.

كذلك، سمحت الحكومة بمحاسبة الأفراد على أفعالهم. في الفترة نفسها، عوقب مسؤولون في أكثر من 80 ألف مصنع بسبب دورهم في مخالفة التنظيمات البيئية، منهم مدراء ومشرفون ومسؤولون في الحزب الحاكم في مناطق تشغيل تلك المصانع. في النهاية، حصلت حملة تطهير شاملة وعلنية، كما يحدث دوماً مع أي عناصر تخالف توجّه الصين في المجتمع. صمدت المصانع التي نجت من تلك الحملة أو أعادت فتح أبوابها لأنها بدأت تستعمل تكنولوجيا المستقبل. تعمد الحكومة الصينية إلى مضاعفة استعمالاتها للتكنولوجيا لجعل قطاعها الصناعي صديقاً للبيئة. بعدما اعتُبرت الصين مصنع العالم لفترة طويلة، ها هي تتجه اليوم نحو اقتصاد مبني على الخدمات والاستيراد. لتدعيم هذه الخطة، دعا شي جين بينغ إلى إطلاق "ثورة الروبوتات". هو ينوي أتمتة مصانع البلد، ما يعني تحسين الكفاءات في سلسلة الإمدادات العالمية كلها.

خصّص لي كه تشيانغ في تقريره مساحة كبيرة لمناقشة ما اعتبره "البنية التحتية الجديدة" في الصين، فشدد على التكنولوجيا التي تحرك التنمية الصناعية المستدامة مستقبلاً ودعا إلى "دعم تطوير البنية التحتية الجديدة، وإنشاء جيل جديد من شبكات المعلومات، وتوسيع تطبيقات شبكة الجيل الخامس، وبناء محطات لإعادة شحن الطاقة، وتشجيع مركبات الطاقة النظيفة، وتحفيز الطلب الاستهلاكي الجديد، وتسهيل التحديثات الصناعية". وبدل إطلاق محاولات عقيمة لإعادة إحياء صناعات ميتة، كما تفعل الولايات المتحدة في "حزام الصدأ"، تقوم الصين من جهتها بالاستثمارات الاستراتيجية اللازمة لبناء أسس الصناعات المستقبلية اليوم.





الــــثــــروات الأســــاســــيــــة


لكن من دون رساميل كافية، حتى أفضل الخطط تكون محكومة بالفشل. أصبح تخصيص الميزانيات للمشاريع المحورية نهجاً اعتيادياً في خطط المسؤولين الصينيين.

تتّضح نزعة البلد إلى الاستثمار عبر مشاريع البنى التحتية الكبرى. تنفق الصين الأموال على البنى التحتية أكثر مما تفعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي معاً. وبفضل هذه الاستثمارات، تملك الصين اليوم أطول شبكة سكة حديد عالية السرعة في العالم وأفضل محاور النقل التي تربط بين أبعد المناطق، كما أنها نقلت براعتها في مشاريع البنى التحتية إلى الخارج عبر "مبادرة الحزام والطريق".

في ما يخص خطط بناء مستقبل مستدام، أصبحت الصين اليوم الأولى عالمياً في الاستثمارات المستدامة. استثمرت بكين حوالى 400 مليار دولار في التكنولوجيا الخضراء المحلية منذ العام 2017، أي أكثر من ضعف استثمارات الاتحاد الأوروبي كله، كما أنها خصصت مبلغاً إضافياً بقيمة 250 مليار دولار لمشاريع عالمية أخرى. على صعيد آخر، ابتكرت الصين أول نظام تصنيف للاستثمارات المستدامة في العالم، وقد تحوّل اليوم إلى معيار ذهبي عالمي في مجال الاستثمارات المؤثرة. يتّكل قطاع النقل العام في مدن كثيرة، مثل المدينة الجنوبية الكبرى "شنجن"، على السيارات الكهربائية. كذلك، زادت الحكومة تركيزها على مفهوم الابتكار، وهو مجال أساسي إذا حصل العالم الطبيعي الجديد على التكنولوجيا التي يحتاج إليها.

لكن للأسف، لا شيء يضمن ترسيخ الوضع الطبيعي الجديد. قد يرغب جزء كبير من البشر في نشوء وضع مختلف بالكامل، لكنّ الوقائع الاقتصادية والسياسية والمهنية قد تعيق هذا التوجه. في أنحاء العالم، تعيد الحكومات فتح شركاتها في مرحلة مبكرة لتهدئة غضب أصحاب الشركات والمستهلكين المستائين. من الواضح أن الصراعات والخلافات التجارية والمواقف السياسية تجبرنا اليوم على الانطواء داخل معاقلنا الوطنية. حتى البيئة بدأت تتأثر سلباً من هذا الوضع. وفق نتائج التلوّث الصيني الصادرة عن "مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف"، سُجّلت انتكاسة في درجة التلوث بعد تخفيف تدابير الإقفال التام وقد تجاوزت مستويات السنة الماضية في بعض الأماكن.

لكنّ هذه المعطيات كلها ليست مبرراً لليأس. اليوم أكثر من أي وقت مضى، بدأنا نفهم أهمية المستقبل المستدام. قد لا تقود الصين المسار المؤدي إلى الجيل المقبل، لكنّ جميع الناس مدعوون إلى تحمّل هذه المسؤولية. في هذا السياق، يتم التداول بكلمات الكوميدي الأيرلندي جوني كورن على مواقع التواصل الاجتماعي: "لدينا فرصة لتحقيق إنجاز استثنائي. فيما نتجه إلى تجاوز هذا الوباء، نستطيع تغيير العالم"!



MISS 3