آنا أروتونيان

بوتين غير مسرور من الوضع الأميركي

20 حزيران 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

"الشماتة" جزء أساسي من الحملات الدعائية، لذا يسهل أن نتوقع استمتاع وسائل الإعلام الروسية الحكومية بأخطر اضطرابات تشهدها الولايات المتحدة منذ الستينات. قد نفترض أن المحللين الروس سيستغلون الفرصة لتأجيج المشاكل الأميركية ونشر الخلافات وتسليط الضوء على النفاق الأميركي. هذا ما حصل بدرجة معينة. لكن بدل توجيه رسالة موحّدة إلى العالم أو الرأي العام المحلي، تبث وسائل الإعلام الروسية الحكومية، عبر أشهر برامجها الحوارية التلفزيونية، مناظرات حول أهمية حياة السود، بما يتعارض مع النظرة التي يحملها الكرملين عن نفسه وهشاشة سلطة الدولة.

فوضى وتمرد...


من المستفيد؟


يظن عدد كبير من الروس أن نهاية الاحتجاجات وحركات التمرد تكون سيئة دوماً. يعتبر الكرملين الثورة البلشفية في العام 1917 وانهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991 جزءاً من الكوارث التي واجهتها روسيا على المستويات المحلية والجيوسياسية. إنه رأي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كذلك، يقال إن الاحتجاجات لا تشتق على الأرجح من مشاعر صادقة إذا كانت لا تحقق نتائج إيجابية. وبحسب رؤية شائعة ومريبة، تنجم الاحتجاجات عموماً عن مؤامرات خفيّة وغامضة تهدف إلى الاستيلاء على سلطة الدولة.

تمحور النقاش في برنامج Vremya Pokazhet (الوقت سيخبرنا) في أولى أيام الاحتجاجات حول ما يسمّيه المحللون الروس "التكنولوجيا السياسية"، أي أساليب التلاعب والمكائد المخادعة. اعتبر المتحاورون هذه الأحداث سباقاً حربياً يعكس الاضطرابات الاجتماعية الأميركية العميقة، لكن تعلّق السؤال المحوري بهوية الحزب السياسي الذي استفاد من تأجيج تلك الاحتجاجات وتنظيمها قبل موعد الانتخابات الرئاسية. لم يطرح المحللون رأياً موحداً، بل قدّم كل واحد منهم نظرية خاصة به. تعاطف مقدّم البرنامج مع عمدة "مينيابوليس" الذي ركع على ركبته وراح يبكي، فقال: "لو كنت صحافياً ساخراً، لقلتُ إنه يستعرض أمام الكاميرات. لكني لن أفعل ذلك. من الواضح أنه حزين فعلاً". لكن خالفه الرأي النائب فياتشيسلاف نيكونوف في برنامج Bolshaya Igra (الاسم الكبير)، فاعتبر سلوك العمدة "استعراضاً مخادعاً". ثم سارع معلّقون آخرون في البرنامج إلى معارضة رأيه.

مع مرور الأيام، زاد شيوع السؤال المتكرر حول المستفيد من الأحداث الأخيرة والمفهوم القائل إن المستفيدين النافذين وحاملي الأجندات المريبة هم من يؤججون الاضطرابات. سأل مقدم برنامجBolshaya Igra في مقدمة حلقة 6 حزيران: "من يستغل الاحتجاجات لتنفيذ أجندته الخاصة"؟ وفي حلقة 5 حزيران من برنامج Vremya Pokazhet، قال المحلل العسكري فلاديسلاف شوريغين إنه كان يراقب "المحرضين على الاحتجاجات: إنها القوى المعادية لترامب". سرعان ما تحوّل النقاش إلى جدل تكتيكي محتدم حول "فروع" حركة "حياة السود مهمة"، وإلى حد تنصاع تلك الحركة لأوامر منظّمي الاحتجاجات. لكن لم يحدد أحد هوية تلك القوى التنظيمية، بل اعتُبِر وجودها نظرياً. أخيراً، اعترف ألكسندر خينشتين، ناقد قومي جريء ونائب رئيس لجنة الأمن في مجلس الدوما: "أنا لا أصدق الاحتجاجات البريئة"!

ثم تساءل خينشتين: "أين وكالات إنفاذ القانون"؟ على التلفزيون الروسي الحكومي، تحوّل النقاش حول رد الشرطة على الاحتجاجات الأميركية من تحليلات محدودة وعقلانية في الأيام الأولى إلى أفكار مقلقة ومخيفة، حيث اعتبر المتحاورون أن الحكومة الأميركية بدأت تفقد السيطرة. في مقطع من حلقةVremya Pokazhet في 1 حزيران، ظهر صحافي روسي وهو يتعرض للغاز المسيل للدموع أثناء تغطية الأحداث في "مينيابوليس". بذل هذا المراسل جهوداً كبرى للحفاظ على حياديته، فأصرّ على عدم تصرف جميع عناصر الشرطة بهذه الطريقة وحاول تخفيف وطأة كلام مقدم البرنامج حين راح يصف وحشية الشرطة.

ثم توقفت البرامج الحوارية على التلفزيون الروسي فجأةً عن إدانة وحشية الشرطة عموماً. في حلقات من برنامجَي Vremya Pokazhet وBolshaya Igra، خاض المشاركون نقاشاً محتدماً حول مبررات استعمال القوة ضد جورج فلويد أو الحشد الذي دهسته سيارات الشرطة في "بروكلين". لكن تناقش المعلقون حول تكتيكات الشرطة بموضوعية، فتساءلوا في أحد المقاطع عن احتمال أن يكون الرجل المتقدم في السن الذي طرحته شرطة "بوفالو" أرضاً قد استفز الضباط في البداية.

كان استنكار وحشية الشرطة الأميركية ليكون أسهل نهج يتخذه المحللون الروس. في النهاية، لطالما ارتكزت الثقافة السياسية الروسية على المجاهرة بالنفاق الأميركي في مجال انتهاك حقوق الإنسان. ربما استعمل بعض المعلقين هذا الأسلوب، لكن لم يكن ذلك الموضوع جزءاً بارزاً من التغطية الإعلامية للاضطرابات الأميركية أو النقاشات حولها.





لا تتعلق هذه النزعة على الأرجح بالآراء المرتبطة بالولايات المتحدة بل بدور الشرطة في روسيا. من وجهة نظر الحكومة الروسية وكل من يؤيد مواقفها، لا يقضي دور الشرطة بحماية حقوق الإنسان، بل بمنع مظاهر الفوضى. لهذا السبب، لم تتأثر وسائل الإعلام الروسية والمتحدثون باسم الحكومة بوحشية الشرطة الأميركية بقدر ما انزعجوا من قلة احترافيتها. بعبارة أخرى، لا تتعلق المشكلة الأساسية بأعمال العنف التي ارتكبتها الشرطة، بل بتفاقم الاحتجاجات والفوضى بسبب ذلك العنف. برأي المعلقين في حلقة 5 حزيران من برنامج Vremya Pokazhet، فقدت الشرطة السيطرة على الوضع، ما يعني أن الحكومة استسلمت للفوضى.

لفهم هذا الرأي عن دور الشرطة، يقول ضابط مخضرم في موسكو: "لا مشكلة حين تتصرف الشرطة بطريقة قانونية". يغطّي تقييمه الأحداث على جميع المستويات: خسر عناصر الشرطة صلاحياتهم حين رضخوا للمحتجين، لكنهم فقدوا كامل السيطرة عندما لجأ العناصر إلى القوة الوحشية. يتساءل الضابط نفسه: "ما الداعي لخنق الرجل طوال تسع دقائق؟ يكفي أن تُكبّله وتضعه في عربة الشرطة وانتهى الأمر".

الفوضى ظاهرة مُعدية!

أدت الأحداث الأخيرة في الولايات المتحدة إلى تأجيج أسوأ مخاوف الروس المقربين من الكرملين. تشتق هذه المخاوف من مفاهيم مشبوهة عن بناء الدولة، مفادها أن الطريقة الوحيدة للحفاظ على النظام تقضي بالتمسك بالسلطة بأي ثمن، وبما أن مجموعة معينة من القوى تسعى دوماً إلى انتزاع تلك السلطة، لا بد من تحديد الجهة التي تقف وراء المؤامرة لمنع هذه الآليات من النجاح. تتمحور النقاشات في البرامج الحوارية الروسية حول حل هذه المشكلة تحديداً.

إذا كانت قوة عظمى مثل الولايات المتحدة تستسلم لمظاهر الفوضى، من الطبيعي أن يشعر المحللون الروس بالقلق على وضع بلدهم. في برنامج Bolshaya Igra، شدّد أليكسي بوشكوف، عضو بارز في مجلس الاتحاد الروسي، على اهتمام روسيا بالاستقرار لاستباق أي نظريات عن شماتة موسكو بالوضع الأميركي. ثم اعتبر الفوضى "ظاهرة مُعدية"! هذا القلق حقيقي ويعبّر عنه المسؤولون ومحللو الشؤون الداخلية دوماً في موسكو. لا يخشى الكرملين امتداد الاحتجاجات والاضطرابات إلى روسيا (مع أن التغطية الإعلامية ذكرت بدرجة من الارتباك أن التحركات انتشرت في أوروبا). وفق حسابات الكرملين، من الأصعب التعامل مع الولايات المتحدة التي تفتقر إلى الاستقرار. يقول مساعد تشريعي روسي: "من وجهة نظري، لا تعرف موسكو حتى الآن الرئيس الأكثر نفعاً لنا: بايدن أو ترامب. نحن نحاول اكتشاف الجواب ولن تساعدنا الاضطرابات والفوضى بأي شكل. لا نريد أن نتعامل مع حكومة غير متوقعة وغير مستقرة".

تتماشى جهود الكرملين لقمع الاحتجاجات الشعبية في الدول السوفياتية السابقة وتدخّله في سوريا مع هذا الموقف تجاه الفوضى وغياب الاستقرار. حتى أنها تعكس فكرة قاتمة أخرى تعتبر القوى النافذة التي تحمل أجندات مدروسة قوية بما يكفي لتأجيج الاضطرابات في الشارع ونشر الفوضى في وكالات إنفاذ القانون، كما حصل في الولايات المتحدة. لكن يلوم عدد كبير من الأميركيين قوى خارجية مثل روسيا على الفوضى الداخلية. يشير هذا التفكير إلى مفهوم مغلوط شائع عن بناء الدولة، أي اعتبار الفوضى نتيجة دائمة لخطط خبيثة من ابتكار الخصوم بدل أن تكون نتيجة أخطاء ارتكبها المسؤولون المحليون.

يسود في هذا المجال شكل من المنطق الدائري والمعايير المزدوجة، من الجانب الروسي على الأقل. يظن بوتين أن الاحتجاجات الروسية المعادية للكرملين بين العامين 2011 و2012 كانت من صنع وزارة الخارجية الأميركية. ثم حاول العملاء الروس التدخل في السياسة الأميركية انتقاماً لما حصل. لكن تحمل موسكو قناعة عميقة مفادها أن الولايات المتحدة هي أقوى جهة وأكثرها شبهة. ينكر المطّلعون على الشؤون السياسية أي تدخل روسي في السياسة الأميركية، وحتى لو حصل تدخّل مماثل، ستبقى آثاره باهتة مقارنةً بالقوى الداخلية التي ترسم المشهد السياسي الأميركي. لم تكن الجهود الروسية تهدف إلى إيصال ترامب إلى البيت الأبيض، فقد كان انتخابه مفاجئاً لموسكو، بل إنها أرادت بكل بساطة أن تثبت قدرتها على الوصول إلى ما وراء البحار.

الفوضى الراهنة في الولايات المتحدة ليست من النوع الذي تتمناه موسكو لأصدقائها أو أعدائها. في العام 2015، راقب بوتين انتشار الفوضى في أنحاء العالم وألقى خطاباً في الجمعية العامة للأمم المتحدة للوم الولايات المتحدة على ما يحصل، فتساءل: "هل تدركون ما فعلتموه"؟

لكن في ظل التطورات الأخيرة، اعتبر بوتين الاضطرابات الأميركية "أزمة داخلية عميقة"، مضيفاً أن "مصالح الجماعات الحزبية طغت على مصلحة الشعب"، ولهذا السبب فقدت الحكومة السيطرة على الأحداث. اليوم، تعكس الصور التي يشاهدها عبر التلفزيون والأخبار التي يقرأها عن الولايات المتحدة الاضطرابات التي حذّر منها. لا شك في أنه غير مسرور من الوضع القائم!


MISS 3