ديفيد م. بيسلي

وباء المجاعة يلوح في الأفق

25 حزيران 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

اجتاح فيروس كورونا الجديد أنظمة الصحة العامة في كل مكان وضرب الاقتصاد في أنحاء العالم، ويبدو أنه يتجه اليوم إلى إطلاق أزمة مجاعة عالمية أيضاً. بعد عقود من التقدم المتواصل في المعركة ضد الفقر والجوع، تُجازف مظاهر البطالة واختلال سلاسل الإمدادات واضطرابات اقتصادية أخرى سبّبها الوباء، بنقل ملايين الناس إلى حالة من انعدام الأمن الغذائي، تمهيداً لبلوغهم مرحلة المجاعة التامة. على المؤسسات العالمية والدول الأعضاء فيها أن تتخذ خطوات حاسمة لتجنب هذه النتيجة الكارثية، وإلا قد تبدأ حقبة مكلفة وفوضوية ومتفاقمة من المجاعة والفقر.

في نيسان الماضي، تلقى مجلس الأمن تحذيرات من اقتراب "وباء المجاعة". لا مفر من أن تنتشر آثار الأزمات الاقتصادية المرتبطة بفيروس كورونا في كل مكان. قد تفكّر كل دولة بمصلحة شعبها أولاً، لكنّ العالم الذي يفتقر إلى هدف مشترك سيواجه مشاكل كثيرة. لهذا السبب، يجب أن يتمحور هدفنا المشترك حول هزم الفيروس المستجد، ومنعه من نشر وباء المجاعة، ومحاربة مظاهر الفقر والجوع التي طبعت آخر ثلاثين سنة.

ظهر الوباء الجديد في لحظة حساسة جداً. بدأ النجاح النسبي في محاربة الفقر والجوع على مر العقود الماضية يتباطأ، حتى أنه اتخذ في بعض الحالات مساراً عكسياً مع انتشار فيروس كورونا. في آخر 30 سنة، تراجعت معدلات الفقر المدقع بأكثر من النصف، من مليارَي شخص تقريباً في العام 1990 إلى 700 مليون في العام 2015، بفضل النمو المدعوم من القطاع الخاص وتقوية شبكات الأمان الاجتماعي وعوامل أخرى. كذلك، تراجعت معدلات الجوع بنسبة 25% في الفترة نفسها. لكن في السنوات الأربع الأخيرة، ارتفع عدد المصابين بجوع مزمن (أي المجموعات التي تنام وهي جائعة كل ليلة) من 796 مليوناً إلى 821 مليوناً. زاد أيضاً عدد الجائعين بقوة، أي من يجدون أنفسهم على شفير الجوع فجأةً بعدما كانوا يملكون ما يكفي من الأغذية. توسّعت مظاهر الجوع الحاد بنسبة 70% تقريباً في آخر أربع سنوات، من 80 مليون شخص إلى 135 مليوناً. ويعاني حوالى مليار شخص اليوم من الجوع المزمن أو الحاد.

تُعتبر الصراعات أبرز عامل كامن وراء هذه الأرقام المتزايدة في الفترة الأخيرة. يعيش 6% من الجائعين في بلدان غارقة في الحروب. في أماكن مثل سوريا واليمن، أدت سنوات الحرب إلى تأجيج مظاهر الجوع وكبح التقدم لأجيال طويلة. كان التغير المناخي أيضاً مسؤولاً عن إغراق بعض الشعوب في الجوع، لا سيما في بلدان مثل أفغانستان وجمهورية الكونغو الديموقراطية، حيث اجتمعت عوامل المناخ المتطرف والصراعات القائمة لترسيخ انعدام الأمن الغذائي.





وفيما يؤجج فيروس "كوفيد - 19" هذه الأزمات الراسخة، تشير التقديرات إلى احتمال أن يتضاعف عدد الجائعين بحلول نهاية السنة، فيصل إلى 265 مليون شخص. ووفق تقديرات "التحالف العالمي لتحسين التغذية"، قد يفتقر 300 مليون شخص آخر إلى المغذيات الأساسية، ما يعني أن تخلو حمياتهم من الفيتامينات والمعادن الكافية للحفاظ على صحتهم.

يؤجج فيروس كورونا ظاهرة الجوع عبر تعطيل الاقتصادات العالمية والوطنية. ستتّضح أسوأ الأضرار في البلدان ذات الدخل المنخفض كونها الأقل جهوزية للتعامل مع تداعيات الوباء. لكن بدأت البلدان التي كانت تتمتع بأنظمة اقتصادية حيوية ومتنامية قبل انتشار الفيروس تواجه مشاكل حادة. تضررت بشكلٍ أساسي البلدان التي تتكل على صادرات المواد الخام، على غرار نيجيريا وجنوب السودان وزامبيا، والبلدان التي تتّكل على السياحة مثل غامبيا والأردن، والبلدان حيث تشكّل التحويلات المالية التي يرسلها المهاجرون نسبة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي، منها هايتي والنيبال. سبق وأدت تدابير الإقفال التام إلى انخفاض مداخيل العمال في هذه القطاعات. وستؤدي إطالة مدة تلك التدابير إلى أضرار إضافية، لا سيما إذا لم تترافق مع توسيع شبكــــات الأمان الاجتماعي.

يتوقع صندوق النقد الدولي أن يتراجع النمو العالمي في العام 2020 بنسبة 2.8%، مقارنةً بـ0.1% خلال الأزمة المالية في العام 2009. لا مفر من أن ينعكس هذا الانكماش الكبير في الاقتصاد العالمي على الفقراء حول العالم. يذكر "المعهد الجامعي العالمي لأبحاث اقتصاديات التنمية" التابع للأمم المتحدة أن تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5% سيوصل 85 مليون شخص إضافي إلى حالة الفقر المدقع (أي العيش بأقل من 1.90 دولار يومياً)، ما يؤدي إلى ترسيخ انعدام الأمن الغذائي وانتشار المجاعة. أما التراجع الذي يصل إلى 10%، فقد يدفع 180 مليون شخص إلى الفقر المدقع.

لا تشتق المجاعات عموماً من نقص الأغذية بل من ارتفاع الأسعار بدرجة قياسية أو تفكك سلاسل الإمدادات، فيصبح وصول الأغذية إلى مواقع محددة مستحيلاً. أدى وباء كورونا إلى انقطاع الإمدادات وسلع مهمة أخرى بين مختلف الدول وداخل البلدان نفسها. حتى خلال الحرب العالمية الثانية، بقيت سلاسل الإمدادات ناشطة. أما اليوم، فلم يعد نقل المحاصيل بين البلدان سهلاً. قد يصبح هذا الوضع كارثياً في أفريقيا جنوب الصحراء التي تستورد حوالى 40 مليون طن من الحبوب سنوياً من جميع أنحاء العالم لسد الثغرات في إنتاجها الغذائي المحلي.

على المدى القصير، ينشغل الناشطون في المجال الإنساني بكيفية إيصال الأغذية إلى المعرّضين للمجاعة في عشرة بلدان، منها سوريا واليمن وجمهورية الكونغو الديموقراطية، حيث أصبح أكثر من مليون شخص في كل بلد على شفير المجاعة. وعلى المدى الطويل، قد يؤدي الوباء إلى انتشار المجاعة في 35 بلداً، بما في ذلك أفغانستان وجمهورية أفريقيا الوسطى وهايتي.

يتلقى حوالى 100 مليون شخص المساعدة من برنامج الأغذية العالمي أصلاً، ويتّكل 30 مليوناً منهم على هذه الجهات للبقاء على قيد الحياة. من دون تلك المساعدات، يخشى المحللون في برنامج الأغذية العالمي أن يموت 300 ألف شخص من الجوع حول العالم يومياً في الأشهر الثلاثة المقبلة، لا سيما في البلدان الغارقة في الحرب.

على غرار الصراعات، تنتج الأزمات الغذائية الفوضى أيضاً. يتدفق اللاجئون إلى الحدود ويحوّلون المناطق الهشة أصلاً إلى نقاط قابلة للاشتعال في بعض الحالات. وفق نتائج أبحاثنا، تُسجَّل زيادة في معدلات الهجرة بنسبة 2% مقابل كل ارتفاع بنسبة 1% في مستوى الجوع في بلد معيّن.



امرأة في دير حافر على بعد 60 كلم من حلب في سوريا تحصل على وحدة طعام من برنامج الأغذية العالمي



لم يشهد العالم أي أزمة دولية بهذا الحجم منذ الحرب العالمية الثانية. أصبحت حياة عشرات ملايين الناس على المحك اليوم. يُهدد الوباء بتدمير التقدم الذي أخرج ملايين الناس من الفقر المدقع على مر العقود الماضية. لذا من واجب البلدان المتقدمة أن تبذل جهوداً إضافية في هذا الإطار، علماً أنها دعمت اقتصاداتها بتريليونات الدولارات على شكل حزم من الحوافز. لكن يجب أن تصدر المساعدات من أماكن أخرى بدل الاتكال حصراً على أبرز الجهات المانحة الاعتيادية في المنظمات الدولية. على مؤسسات الإقراض الدولية مثلاً أن تتعاون مع البلدان النامية لتقوية قطاعات الصحة والتعليم وشبكات الأمان الاجتماعي خلال هذه الأزمة وبعدها. في تلك البلدان النامية، خسر ملايين العاملين المجتهدين في الشركات الصغيرة وهم أصحاب الفنادق والمتاجر، المرشدون السياحيون، سائقو سيارات الأجرة سبل عيشهم وفقدوا قدرتهم على إعالة عائلاتهم.تستطيع الحكومات في تلك البلدان، مع القليل من المساعدات، أن تضخّ الأموال النقدية لمساعدة العائلات على تجاوز الأزمة. يتعاون برنامج الأغذية العالمي مثلاً مع الحكومة الانتقالية في السودان لتعزيز برنامج دعم الأسرة وحماية الناس من الغرق في الفقر المدقع.

لتجنب وباء المجاعة واستئصال الفقر والجوع نهائياً، لا يمكن الاكتفاء باستثمارات عامة في الحماية الاجتماعية، بل يجب أن تتخذ الشركات الخاصة خطوات كبرى عبر القيام باستثمارات مباشرة وعقد شراكات بين القطاعَين العام والخاص في مجالات مثل الزراعة. وفق دراسة مشتركة بين برنامج الأغذية العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة والصندوق الدولي للتنمية الزراعية في الأمم المتحدة، يمكن التخلص من مظاهر الفقر والجوع بحلول العام 2030 عبر القيام باستثمارات إضافية بقيمة 265 مليار دولار سنوياً، أي ما يساوي 0.3% فقط من الدخل العالمي المتوقع. قد يبدو هذا المبلغ ضخماً، لكنه يبقى ضمن إمكانات البلدان والمؤسسات الغنية والأثرياء.

أصبح احتمال تفاقم الجوع بسبب وباء "كوفيد - 19" واقعياً ومرعباً لأقصى الدرجات. مع ذلك، ثمة مجال للتفاؤل. عند دعوة قادة العالم إلى دعم مهام برنامج الأغذية العالمي، غالباً ما يقدمون المساعدة بلا تردد. على سبيل المثال، ارتفعت مساهمات الولايات المتحدة من أقل من مليارَي دولار سنوياً إلى أكثر من 3 مليارات في السنوات الثلاث الأخيرة. اليوم، ثمة حاجة ماسّة إلى هذا الشكل من السخاء وإلى مساهمات دافعي الضرائب والجهات المانحة التي تدعم القضايا الإنسانية. كانت المكاسب المُحققة ضد الفقر والجوع في العقود الأخيرة شاقة لدرجة تمنعنا من التخلي عنها بكل سهولة اليوم.


MISS 3