خليل العناني

الصراع المائي بين مصر وإثيوبيا... لحظة حاسمة للبلدين

26 حزيران 2020

المصدر: Responsible Statecraft

02 : 00

في 9 حزيران، استأنفت مصر وإثيوبيا والسودان المحادثات حول سدّ النهضة الإثيوبي الكبير الذي تباطأ العمل فيه منذ شباط الماضي. حصلت الجولة الجديدة من المحادثات عبر الوسائل الرقمية بسبب انتشار فيروس "كوفيد - 19" وجمعت بين وزراء المياه والري، وأسفرت عن عقد اتفاق حول قواعد السلامة والتوجيهات الخاصة بالمرحلة الأولى من تعبئة السد وتشغيله. لكن لا يزال الخلاف بين مصر وإثيوبيا حول السد المثير للجدل قائماً. وحتى لو توصلت جولة المحادثات الأخيرة إلى نتائج أفضل، سيبقى تأثير سد النهضة الإثيوبي الكبير على العلاقة الثنائية بين القاهرة وأديس أبابا كبيراً في المستقبل المنظور.

بدأت الاضطرابات والخلافات بسبب مياه نهر النيل منذ عقود. ترتكز العلاقات التي تحكم البلدان العشرة في حوض النيل على مجموعة معاهدات واتفاقيات تمّ التوقيع عليها في القرن العشرين (1902، 1929، 1959) وتُعرَف على نطاق واسع باسم "اتفاقيات نهر النيل". هي تفرض على دول المنبع (أبرزها كينيا وتانزانيا وأوغندا وإثيوبيا) أن تحترم حقوق دول المصبّ (لا سيما مصر والسودان) في نهر النيل. كذلك، يُمنَع عليها أن تبني السدود أو تطلق مشاريع بناء على النهر من دون موافقة دول المصبّ، وتحديداً مصر. ضمنت تلك المعاهدات حصة مصر من مياه النيل خلال القرن الماضي وسمحت لها بتنفيذ خططها التنموية والزراعية، لا سيما بعد بناء سد أسوان العالي في بداية الستينات، حتى أنها منحت القاهرة والخرطوم حق النقض ضد أي خطط بناء أو مشاريع قد تؤثر على حصتهما المائية.

كانت إثيوبيا من جهتها تُخطط لبناء سد النهضة منذ الستينات، لكن تأجّل مشروعها لأسباب سياسية واقتصادية. يعاني البلد من غياب الكهرباء والتنمية رغم موارده المائية الضخمة. تشمل إثيوبيا 112 مليون نسمة وتتكل بشكلٍ أساسي على سد النهضة لتحسين اقتصادها ومعيشة الناس. تبلغ قيمة السد المثير للجدل 4.8 مليارات دولار وهو مبني على النهر الأزرق، بالقرب من الحدود الفاصلة بين إثيوبيا والسودان، ويُفترض أن يؤمّن الكهرباء لملايين المنازل في إثيوبيا ويسمح ببيع الكهرباء إلى البلدان الإفريقية المجاورة. لهذا السبب، تراهن إثيوبيا على سد النهضة كي تصبح أكبر دولة مُصدّرة للطاقة في إفريقيا، إذ من المتوقع أن تتمكن من إنتاج أكثر من 6 آلاف ميغاوات.

الأمن المائي في مصر

وفق اتفاقية العام 1959 حول مياه نهر النيل، تبلغ حصة مصر 55.5 مليار متر مكعب. ينبع حوالى 85% من المياه التي تتدفق نحو نهر النيل من المرتفعات الإثيوبية مروراً بالنيل الأزرق. ويشتق 90% من المياه العذبة في مصر من نهر النيل، وينبع 57% من تلك المياه من النيل الأزرق. لهذا السبب، تعتبر مصر سد النهضة الإثيوبي الكبير تهديداً وجودياً عليها. بعد ملء الخزان الواقع وراء السد، سيشمل حوالى 74 متراً مكعباً من المياه، أي ما يساوي الكمية السنوية الإجمالية من مياه النيل التي تتدفق نحو سد أسوان العالي.

في الوقت الراهن، قد يكون انعدام الأمن المائي أخطر تهديد على مصر. تجدر الإشارة إلى أن مصر تعاني أصلاً من نقص المياه، من دون أخذ مشكلة السد في الاعتبار، لأن مواردها المائية تساوي 60 متراً مكعباً بينما يبلغ استهلاكها 80 متراً مكعباً. تستورد مصر نصف منتجاتها الغذائية تقريباً وتعيد تدوير 25 متراً مكعباً من المياه سنوياً. في حال امتلأ السد من دون اتفاق مشترك، ستصبح مصر معرّضة للجفاف وقد تخسر أكثر من مليون وظيفة وحوالى 1.8 مليار دولار من الإنتاج الاقتصادي سنوياً. سيؤثر ملء السد حينها على حصة المياه المصرية، ما يعني أن تتراجع بمعدل 10 أو 15 مليار متر مكعب.

تُخطط إثيوبيا لملء السد خلال ست سنوات، بدءاً من تموز المقبل. كلما طالت المدة التي تحتاج إليها لتعبئته، ستتراجع التداعيات المتوقعة على إمدادات مياه النيل في مصر. لكن تريد مصر أن تتراوح تلك المدة بين 12 و21 سنة، كي لا ينخفض مستوى النهر سريعاً، لا سيما في المرحلة الأولى. عملياً، سيكون قرار إثيوبيا بملء السد في أسرع وقت ممكن كارثياً على السودان ومصر لأن هذه العملية ستستهلك كامل كمية المياه المتدفقة من النيل الأزرق، أي ما يساوي 54 متراً مكعباً، لأكثر من سنة. يعني ملء السد على مر ست سنوات تراجع تدفق مياه النيل إلى مصر بنسبة 14 إلى 18% خلال كل واحدة من تلك السنوات إذا بقي هطول الأمطار ضمن نطاقه المألوف وامتلأ السد بالتساوي. تريد أديس أبابا ملء السد مع بداية موسم الأمطار في تموز لزيادة تراكم المياه، لكن تطالب القاهرة في المقابل بالمشاركة في هذا القرار لأن إيقاع تدفق المياه نحو السد سيؤثر على حركة مصبّ النهر في مصر.

ستكون الأزمة بسبب سد النهضة الإثيوبي الكبير لحظة حاسمة بالنسبة إلى النظام المصري الراهن، وحتى الدولة والمجتمع في مصر ككل. للمرة الأولى في التاريخ، يشعر المصريون بأن نهر النيل، وهو مصدر حياتهم، أصبح مُهدداً. لذا لا بد من إيجاد حل لتأمين مستقبل ملايين المصريين وتهدئة مخاوفهم.



اجتماع في البيت الأبيض يجمع دونالد ترامب وستيفن منوشين (أقصى اليمين) وزيرة الخارجية السودانية أسما محمد عبد الله، ووزير الخارجية المصري سامح شكري، ووزير الخارجية الإثيوبي جيدو أندارجاشيو لمناقشة سد النهضة الإثيوبي الكبير - تشرين الثاني 2019.



شكوك عميقة


في بداية العام 2011، بدأت إثيوبيا تبني سد النهضة من دون إبلاغ مصر أو السودان. استفادت حينها من انشغال مصر باضطراباتها السياسية التي أسقطت الرئيس السابق حسني مبارك في العام 2011 وأطلقت مشروعها الذي تُخطط له منذ وقت طويل. في حزيران 2013، صادق البرلمان الإثيوبي على الاتفاق الإطاري للتعاون، فثارت حفيظة مصر لدرجة أن يحذر الرئيس السابق محمد مرسي أديس أبابا من أنّ "جميع الخيارات واردة" إذا تابعت بناء السد من دون عقد اتفاق مع مصر.

في آذار 2015، وقّعت مصر والسودان وإثيوبيا على اتفاق جديد اسمه "إعلان المبادئ"، وهو يعطي الأولوية لدول المصبّ ويسمح لها بالاستفادة من الكهرباء التي ينتجها السد، ويطرح آلية لحل الصراعات، ويقدم تعويضات عن الأضرار. لكن لم يذكر الاتفاق للمرة الأولى حقوق مصر المكتسبة بشأن مياه النيل، فاعتبرت إثيوبيا هذا التفصيل بمثابة موافقة على بناء السد المثير للجدل. كان الاتفاق يهدف إلى حل الخلاف بين الدول الثلاث، لكن تحقّق هدف معاكس، فقد تعمّقت مشاعر انعدام الثقة بين الأطراف المعنية وتباطأت المفاوضات في مناسبات عدة. فيما تتّهم إثيوبيا مصر بمحاولة استعمال سد النهضة كرهينة لفرض شروطها حول ملء السد وتشغيله، تتّهم القاهرة إثيوبيا بتجاهل تداعيات ملء السد على مصالح مصر المائية واقتصادها.

يقول الخبراء إن مصر تشعر بالقلق من أن يؤدي بناء السد على النيل الأزرق إلى تراجع إمدادات المياه وتوليد الطاقة في سد أسوان العالي. وبعد امتلاء الخزان، لن يستهلك سد النهضة الإثيوبي الكبير المياه مباشرةً، بل إنه قد يؤدي إلى زيادة الري بدرجة كبيرة في السودان، ما يعني تراجع كميات المياه التي تتلقاها مصر وتفاقم مخاوفها.

فيما تسعى مصر إلى عقد اتفاق مُلزِم يفرض على إثيوبيا إطلاق كمية ثابتة من مياه نهر النيل ويُحدد آليات لمراقبة مدى امتثالها للشروط، تحاول إثيوبيا تجنب أي التزام دائم بتحديد حصة المياه بما يتجاوز مدة ملء السد. هي تسعى إلى إبرام اتفاق مرن، على أن يشمل بنداً مرتبطاً بإجراء مراجعات دورية. لهذا السبب، ترسّخت مشاعر انعدام الثقة ونشأت عوائق متعددة أمام أي اتفاق محتمل. قبل جولة المحادثات الأخيرة، تبادلت مصر وإثيوبيا تصريحات محتدمة وتهديدات سياسية وعسكرية. حاولت السودان حينها لعب دور الوساطة بين الطرفين لإرجاعهما إلى طاولة المفاوضات.


الدور الأميركي


بذلت الولايات المتحدة، إلى جانب البنك الدولي، جهوداً حثيثة للتوسط بين مصر والسودان وإثيوبيا لحل الخلاف حول سد النهضة الإثيوبي الكبير. عقد مسؤولون رفيعو المستوى من البلدان الثلاثة اجتماعات عدة في واشنطن بين تشرين الثاني 2019 وشباط 2020. كما اجتمعوا مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض في تشرين الثاني الماضي. حاولت واشنطن استعمال ضغوطها الاقتصادية والمالية لحث تلك الأطراف على حل خلافها، وكانت تأمل في عقد اتفاق بحلول نهاية شهر شباط. لكن سرعان ما تلاشت هذه الآمال بعد انسحاب إثيوبيا المفاجئ من المحادثات.

أصدرت وزارة الخزانة الأميركية التي تولّت تنسيق المفاوضات بين الأطراف الثلاثة بياناً في 28 شباط 2020، وذكرت فيه أن "العمل المُنجَز في الأشهر الأربعة الماضية أسفر برأي الولايات المتحدة عن اتفاق يعالج جميع المشاكل العالقة بطريقة متوازنة وعادلة، مع مراعاة مصالح البلدان الثلاثة". لكن انتقد وزير الخارجية الإثيوبي جيدو أندارجاشيو ذلك البيان باعتباره "منحازاً جداً". يظن المحللون الإثيوبيون أن واشنطن تنحاز دوماً إلى مصر وأن أي اتفاق حول سد النهضة الإثيوبي الكبير سيكبّل إثيوبيا. من الواضح إذاً أن طرفاً واحداً على الأقل من بين الأطراف الثلاثة يعتبر واشنطن الجهة الوسيطة الأقل فاعلية لحل الخلاف القائم.

حاجة ماسّة إلى التسوية

تُعتبر مصر وإثيوبيا من أكثر البلدان المترابطة في شرق إفريقيا وتبقى مظاهر الصداقة والتعاون بينهما أساسية لإرساء السلام والاستقرار في أنحاء المنطقة، كما أن حاجتهما إلى مياه النيل متبادلة وعاجلة. لكنّ إرضاء المواقف المتطرفة التي يحملها كل طرف مستحيل نظراً إلى ظروف المنطقة وعجزهما عن خوض صراع مطوّل وغير مبرر. خدمةً لمصلحتهما ومصلحة أصدقائهما وحلفائهما، لا سيما الولايات المتحدة، من الأفضل إذاً أن يتوصلا إلى تسوية لتجنب أي تحركات شائبة قد تؤدي إلى نتائج غير مرغوب فيها.