ديفيد شيمر

حين تتدخّل وكالة الاستخبارات المركزية في الانتخابات الخارجية...

30 حزيران 2020

المصدر: Foreign Affairs

02 : 00

رداً على الأسئلة المرتبطة بتدخل الحكومة الروسية في الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016، يميل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى استعمال أسلوب الإنكار والأجوبة المضادة. ادعى بوتين في حزيران 2017 مثلاً أن الولايات المتحدة هي التي "تتدخل في الحملات الانتخابية في جميع بلدان العالم". يهدف هذا الادعاء إلى تبرير تحركات روسيا وتحويل الأنظار عنها، وقد حقّق هدفه في عدد كبير من دول العالم. بدءاً من كييف وصولاً إلى بروكسل ولندن، يفترض المسؤولون الحكوميون أن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية تتدخل بشكلٍ متكرر في الانتخابات الخارجية. هذه الفكرة مبررة لأنها كانت صحيحة طوال عقود.

كان أول برنامج عمل سرّي لوكالة الاستخبارات المركزية عبارة عن عملية تهدف إلى التلاعب بالانتخابات الإيطالية في العام 1948. نشر ضباط الاستخبارات الأميركية حينها حملة دعائية متفجرة وموّلوا مرشّحهم المفضّل ونظموا مبادرات شعبية لترجيح الكفة لصالح القوى الوسطية في إيطاليا وضمان تفوّقها على منافسيها اليساريين. برأي ديفيد روبارج، كبير المؤرخين الداخليين في وكالة الاستخبارات المركزية، أصبحت عملية العام 1948 بعد خسارة الحزب الشيوعي الإيطالي "نموذجاً" يُحتذى به في جميع العمليات التي نفذتها الوكالة لاحقاً في عدد كبير من البلدان في خضم منافستها للاستخبارات السوفياتية. في تشيلي وغيانا والسلفادور واليابان، استهدفت الوكالة المركزية والاستخبارات السوفياتية الانتخابات الديموقراطية في أنحاء العالم. كان جزء من تلك العمليات يتلاعب بالاقتراع مباشرةً، بينما يؤثر بعضها الآخر على الرأي العام. في النهاية، كانت تلك الجهود مُصمّمة لتعديل نتائج الانتخابات.

ثم انتهت الحرب الباردة وأصبحت الأهداف المتضاربة التي سعت إليها موسكو وواشنطن عبر استهداف العمليات الانتخابية، أي نشر الشيوعية أو محاولة احتوائها، مسائل بالية. منذ ذلك الحين، تدخلت الاستخبارات الروسية في عدد كبير من الانتخابات الخارجية لكنها لم تشأ بهذه الطريقة أن تنشر إيديولوجيا معينة بل أرادت دعم مرشحين مثيرين للجدل وذوي عقلية استبدادية ونشر الفوضى والارتباك وتجريد النموذج الديموقراطي من شرعيته. لكن كيف تغيّر دور وكالة الاستخبارات المركزية في حقبة ما بعد الحرب الباردة؟



مدير وكالة الاستخبارات المركزية جون برينان يشهد أمام لجنة الاستخبارات بمجلس النواب في واشنطن عام 2017



فيما تتلاعب الاستخبارات الروسية مجدداً بالاستحقاقات الانتخابية حول العالم، تتخذ وكالة الاستخبارات الأميركية مساراً معاكساً. وفق عدد من المسؤولين الأميركيين، كانت العملية الصربية تدبيراً "استثنائياً" بسبب الظروف الاستثنائية السائدة. وخلال الانتخابات العراقية التي لم تشمل حاكماً مثل ميلوسيفيتش، اعتبر صانعو السياسة الأميركية مخاطر التحركات السياسية أكبر من اللزوم. في السنوات اللاحقة، أصبح المنطق الكامن وراء القرار المرتبط بالعراق المعيار النموذجي الذي يُحتكم به وفق مدراء وكالة الاستخبارات المركزية السبعة بين تموز 2004 وكانون الثاني 2017 ونوابهم ومدراء سابقين للاستخبارات الوطنية. على عكس ادعاءات بوتين، تخلّت واشنطن على ما يبدو عن معظم تدخلاتها السرية في الانتخابات.

في مقابلات عن البرامج السرية المعاصرة لوكالة الاستخبارات المركزية، ينقسم رؤساء أقسام التجسس السابقون إلى مجموعتين. تؤكد المجموعة الأولى على أن الوكالة لم تتدخل سراً في أي انتخابات حديثة. اعترف ديفيد باتريوس الذي ترأس الوكالة بين العامين 2011 و2012 بأنه لم يعرف بحصول أي عمليات مماثلة في التاريخ الحديث. لكن لا يقدم جون برينان، مدير وكالة الاستخبارات المركزية بين العامين 2013 و2017، تصريحات مؤكدة: "في عهد الرئيسَين أوباما وبوش الإبن، لم تُبذَل أي جهود للتأثير على نتائج انتخابات ديموقراطية. لقد اعتبرنا هذه العمليات نقيضاً للمسار الديموقراطي. كانت وكالة الاستخبارات المركزية تستهدف الانتخابات الخارجية في الماضي، لكن تغيّر الوضع في آخر 18 سنة تقريباً".

أما المجموعة الثانية من المسؤولين، فلا تتكلم بأسلوب مطلق بل تعترف بأن وكالة الاستخبارات المركزية لم تعد تؤثر على الانتخابات الخارجية، لكنها لم توقف هذه الجهود بالضرورة. يوضح جون ماكلولين، نائب مدير الوكالة في العام 2000 كان على صلة بقضية ميلوسيفيتش: "تلاشت معظم تلك الجهود الآن. لم تعد الاستخبارات تقوم بهذه العمليات مع الهامش نفسه من المرونة والحرية التي تمتعت بها في بداية الحرب الباردة". منذ ذلك الحين، انتقلت تلك العمليات إلى أعلى المستويات الاستخبارية. تناقشت إدارة بوش حول المخطط المرتبط بالعراق وقيّمت إدارة أوباما اقتراحات مماثلة. يضيف طوني بلينكين الذي شَغَل مناصب مرموقة في مجال الأمن القومي طوال عهد باراك أوباما: "لا يعني ذلك أن تلك الأفكار لا تعود إلى الواجهة من وقتٍ لآخر، لكنها كانت مرفوضة في عهد أوباما على الأقل".

في هذه المجموعة الثانية، كان ليون بانيتا، مدير وكالة الاستخبارات المركزية بين العامين 2009 و2011، الأكثر صراحة في مواقفه، فقال إنه لم يتورط يوماً في تغيير الأصوات الانتخابية مباشرةً أو نشر معلومات مغلوطة. لكن في مناسبات نادرة، أثّرت وكالته على وسائل الإعلام الخارجية قبل الانتخابات "لتغيير المواقف داخل البلد". برأي بانيتا، كانت هذه الطريقة تهدف إلى "استمالة وسائل الإعلام في بلد معيّن أو منطقة محددة لتوجيه رسالة واضحة أو التأثير على جهات إعلامية للتعاون معها وتسهيل نقل تلك الرسالة". كما حصل في إيطاليا في العام 1948 أو صربيا في العام 2000، كانت البرامج التي وصفها بانيتا تستكمل الحملات الدعائية العلنية. يضيف بانيتا: "صحيح أننا كنا نتحرك بشكلٍ سرّي، لكن كان يجب أن نتأكد من أن الأساليب العلنية التي نستعملها تحمل الرسالة نفسها على الأقل. حتى هذا النوع من العمليات يطرح المخاطر. إنه رهان خطير طبعاً"! لهذا السبب، كان ذلك الخيار الملجأ الأخير واسـتُبعِدت تكتيكات أكثر عدائية.

توصّلت جميع المقابلات إلى الاستنتاج نفسه: أصبح التدخل السري في الانتخابات بالنسبة إلى وكالة الاستخبارات المركزية استثناءً على القاعدة. لم تعد الوكالة تحاول التأثير على نتائج الانتخابات، كما شدد برينان وباتريوس، أو ربما تفعل ذلك في حالات نادرة، حين تسمح الانتخابات بإسقاط حاكم مستبد، كما حصل مع ميلوسيفيتش. في مطلق الأحوال، تبقى الحقيقة الكاملة خفيّة. لكن يشير هذا التحول العام إلى انتهاء أساليب الحرب الباردة، حين كانت وكالة الاستخبارات المركزية تتدخل في انتخابات عدد كبير من البلدان. تعليقاً على هذا التطور، يقول جون نيغروبونتي، مدير سابق للاستخبارات الوطنية: "بكل صراحة، أصبح هذا النوع من التحركات السياسية جزءاً من الماضي. تجربة العراق أقنعتني بذلك. هكذا تلاشت أي رغبة في التدخل في الاستحقاقات الانتخابية".





يظن المشككون حتى الآن أن رؤساء الاستخبارات في الولايات المتحدة يكذبون. لكن نظراً إلى الوقائع السائدة في الوقت الراهن، يبدو موقف هؤلاء المشككين غير منطقي. سيكون تلاعب وكالة الاستخبارات المركزية بالانتخابات الخارجية، إلا في الظروف الاستثنائية، سلوكاً انهزامياً بامتياز. يتعلق أحد الأسباب بانتهاء الحرب الباردة وتلاشي هدف الوكالة القديم، أي التصدي للاتحاد السوفياتي. كان ميلوسيفيتش جزءاً من بقايا حقبة غابرة. في أيلول 2001، بدأت وكالة الاستخبارات المركزية تُركّز على مكافحة الإرهاب، وتستلزم هذه الجهود شن ضربات جوية بطائرات بلا طيار وتنفيذ عمليات شبه عسكرية بدل التدخل في الانتخابات.

أعلن القادة الأميركيون بعد الحرب الباردة عن بدء حقبة من الديموقراطية الليبرالية التي ترتكز على انتخابات حرة ونزيهة. وبسبب هذه المرحلة الانتقالية من احتواء الشيوعية إلى نشر الديموقراطية، أصبح التدخل السري في انتخابات البلدان الأخرى اقتراحاً محفوفاً بالمخاطر. في هذا السياق، يوضح مايكل هايدن، مدير سابق لوكالة الاستخبارات المركزية: "يتعارض التدخل في الانتخابات مع جوهر قناعاتنا الأساسية. قد نرغب في تنفيذ عمليات مماثلة لتجديد التوازن أو خدمةً لمتطلبات الأمن القومي، لكنها ليست مقاربة صائبة". تعليقاً على تطور أسلوب واشنطن في هذا المجال، يقول ماكلولين: "إذا كنت تتدخل في أي انتخابات وكُشِف أمرك، ستصبح في موقع المنافق أكثر مما كنت توحي به خلال الحرب الباردة، فقد كانت هذه التصرفات حينها مبررة باعتبارها جزءاً من تكاليف العمل الاستخباري".

لكنّ النفاق لم يوقف وكالة الاستخبارات المركزية في الماضي. ومع تجدد المنافسة بين القوى العظمى في السنوات الأخيرة، أثّرت الولايات المتحدة على عدد من الانتخابات الخارجية. تفسّر التغيرات الحاصلة في السياسات العليا جزءاً من ذلك التحول في نشاط الوكالة، لكن يرتبط الجزء المتبقي بانتشار الإنترنت على نطاق واسع، ما جعل الانتخابات الأميركية معرّضة للتدخل الخارجي. يتردد المسؤولون في واشنطن في تنفيذ هذا النوع من العمليات التي أصبح بلدهم معرّضاً لها. يقول باتريوس: "إذا كنت موجوداً في منزل زجاجي، لا ترشقه بالحجارة. ونحن نُعتبَر أكبر منزل زجاجي في مجال الاتصال بشبكة الإنترنت". أدى العصر الرقمي إلى تصعيب الحفاظ على سرية العمليات الخفية الرامية إلى التلاعب بالناخبين الخارجيين. يتابع باتريوس قائلاً: "يصعب أن نمنع اكتشاف هذا النوع من النشاطات في نهاية المطاف". ومن المعروف أن واشنطن تهتم بإبقاء عملياتها سرية. أخيراً، تقول أفريل هاينز، نائبة مدير وكالة الاستخبارات المركزية سابقاً: "إذا تبيّن أن الولايات المتحدة كانت تنشر معلومات مغلوطة أو تعدّل الأصوات في أي انتخابات، ستتراجع مصداقيتنا وجهودنا السياسية نظراً إلى عدم تماشي هذه التصرفات مع القيم التي نُروّج لها وتشكّل جوهر قوتنا الديبلوماسية. لا ينطبق المبدأ نفسه على روسيا".


MISS 3