أوروبا لا تحبِّذ حلّاً بـ"أوكسجين" حكومة "وحدة وطنية"

سرقوا "اللقمة"... والآتي أعظم

02 : 00

جانب من المواجهات بين الجيش ومحتجين في جل الديب أمس (رمزي الحاج)

يستمرّ مشهد "الغرق" الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بتواترٍ مخيف. الخلافات الصارخة بين المجلس النيابي والحكومة - والتي تظهّرت بقوة في مؤتمر رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان- مدعوماً من الرئيس بري والقوى السياسية الممثلة بالحكومة، معرّياً أرقامها، ومعتبراً أنّ الأخيرة تتصرّف من منطلق "فرفور ذنبه مغفور- تنذر بأنّ الآتي أعظم. فلا خطة واضحة ولا إصلاحات، ولا اجتماعاتٍ طارئة لتدارك السقوط المهيب، بل دولةٌ عاجزة تكتفي بالندب واللطم مساويةً ظروفها بالمواطنين، وكأنّها ليست في حجرة القيادة بل في المقعد الخلفي للسفينة التي تمضي بالبلد نحو القعر بشكلٍ متسارع.

فلا مشهد رفوف السوبرماركت الفارغة، ولا الظلمة المحدقة لانقطاع المازوت والفيول، ولا ارتفاع سعر ربطة الخبز الى ألفي ليرة وجعله متحركاً مع سعر الدولار اللاهب، ولا انقطاع أدوية القلب والضغط، كافيةٌ لتحريك ضمائر وزراء الحكومة العتيدة التي تنأى بنفسها عن المسؤولية محمّلة الشعب أعباء ما تقترفه يداها.

فمثلما لامَ رئيس الحكومة أول من أمس الشعب لعدم مسارعته لانقاذ "ليرته" بتحويل ودائعه الاجنبية الى العملة الوطنية طوعاً، منَّنت "حاكمة السراي" نائب رئيس مجلس الوزراء وزيرة الدفاع الوطني زينة عكر، في لقاءٍ لها مع عدد من الاعلاميين الشعب، بتكرّم الدولة على المواطن بسماحها له بدفع كلفة الخدمات الاساسية من فواتير كهرباء ومياه بالليرة اللبنانية وفقاً للسعر الرسمي. ولم يفت الوزيرة طبعاً الانضمام الى جوقة "الوعود" المعهودة التي تمدّ اللبناني بشيء يسير، بإعلانها بأن السلّة الغذائية المتكاملة المدعومة على قاب قوسين، مؤكدة بأنّ الحكومة لا تكتفي بانتظار المساعدات من الخارج، بل تجهد على قدمٍ وساق لدعم القطاعات المختلفة.

وكان لافتاً في دردشة عكر مع الاعلاميين كشفها بأنّ لقاءها رئيس تكتل لبنان القوي النائب جبران باسيل انما تمّ بناء على طلب رئيس الحكومة حسان دياب، ما يفَسّر كـ"طلب نجدة" من رئيس الحكومة بباسيل لموازنة ضغوط الرئيس بري التي بلغت ذروتها في جلسة مجلس الوزراء أول من أمس، برفض الوزراء الشيعة بإصرار وتعالِِ طلب رئيسي الجمهورية والحكومة على السواء التدقيق "الجنائي" في حسابات مصرف لبنان، حمايةً لحاكمه رياض سلامة وأسراره التي تشمل الجميع.

وبات واضحاً من الانكار الحكومي المتبع بأنّ الحكومة متمسكة بسياسة النعامة رغم تفلّت الأمور وتصدّع الهيكل وارتفاع أصوات أجنبية محذّرة من التمادي في تجاهل المؤشرات المنذرة بانفجارٍ وخيم. فقد نبّه وزير خارجية فرنسا جان ايف لودريان الى أنّ الوضع اللبناني أصبح "مزعجاً" معلناً بوضوحٍ بألا مساعدات ستصل الى لبنان طالما لم تنفذ الحكومة الاصلاحات التي وعدت بها والتي ظلّت حبراً على ورق.

وفي السياق نفسه قالت مصادر دبلوماسية أوروبية لـ"نداء الوطن" إنّ شروط الأوروبيين لمساعدة لبنان لا لبس فيها، فلا مساعدات من دون إصلاحات ملموسة، مؤكدةً بأنّ "سيدر" لم يعد ملائماً للبنان في المرحلة الحالية، كونه يحتاج بإلحاح الى ضخّ أموال بكمياتٍ كبيرة من "صندوق النقد الدولي" للخروج من عنق الزجاجة. وأوضحت هذه المصادر في الوقت عينه بأنّ المساعدات الأوروبية ستقتصر على الانسانية منها، وستعطى مباشرة الى مؤسسات تعنى بالشؤون الانسانية والى الجيش وليس الى الدولة.

واعتبرت المصادر عينها بأنّ تكرار تجربة حكومة "الوحدة الوطنية" السابقة غير مفيد لأنّه ليس حلاً ناجعاً، كما برهنت التجارب السابقة أساساً، بل هي مجرّد "أوكسجين وهمي"، وبأنّ أوروبا لن تشارك في أيّ حلّ من هذا القبيل قطعاً.

المشهد في الشارع لم يقلّ قتامةً. فالحكومة- وإن أعادت فتح المطار بنسبة 10% ورفعت قيود التعبئة العامة- قطّعت بأدائها المتخاذل أوصال المناطق بإطلاقها، من حيث تدري أو لا تدري، احتجاجات ملتهبة توزعت على مناطق مختلفة فتداعى المواطنون- من انطلياس وجل الديب، وضبيه، وصولاً الى الحمرا وكورنيش المزرعة والطريق الجديدة والسعديات والجية والمنية وصيدا وغيرها- للنزول الى الشارع هاتفين ملء الحناجر ضدّ سلطة تسرق اللقمة من فمهم وتتمادى في إشباعهم ذلاً بألف لونٍ ولون. ولوحظ ان احتجاجات جل الديب كانت الأقوى مستعيدة أجواء ثورة 17 تشرين، وكان لافتاً مواكبة الجيش للتحرك وعدم اقدامه على قمع قطع الطريق حتى ساعة متأخرة من الليل.

وفي أول يوم لاعادة فتح المطار عمّت أرجاءه فوضى عارمة، حيث تعالت أصوات بعض العائدين اعتراضاً على تحميلهم كلفة مالية مزدوجة لإجراء فحوص طبية، أو لعدم التزام السوق الحرة في المطار بالتسعيرة الرسمية، معطوفةً على استنكارٍ واضح من الجسم الصحافي لتعامل رجال أمن المطار مع الاعلام بفوقيةٍ وغلظة، مانعين إياه من نقل الصورة بوضوح ومن عرض احتجاجات بعض المسافرين "من دون رتوش". هذه الفوضى انسحبت على البلد بأكمله، فامتدت تداعياتها على بقعة الوطن امتداد النار في الهشيم وهي تنذر بأنّ ارتطام السفينة بالقعر بات وشيكاً على وقع "غضب الرغيف" الآخذ في الاتساع.