جولي مراد

"صوت الصمود"... لبنانُنا الذي لا يركع

6 تموز 2020

02 : 00

ليس غريباً أن تحتضن "مدينة الشمس" حدثاً يحتفي بالحياة، فمعبد باخوس الروماني لم يحبّذ يوماً السكون بل هو منذ الأزل ينبض بأمسياتٍ يتكامل فيها جمال الموقع بألق نغماتٍ موسيقية تنشد الأمل. هي المرّة الأولى التي تشهد فيها "مهرجانات بعلبك" أمسيةً من دون جمهور، ويضطر فيها عازفون الى تقديم مقطوعاتٍ في غياب التصفيق والصيحات المشجعة على المدرّجات. ولعلّ العنوان الذي اختير للمناسبة "صوت الصمود" يلخّص مشهدية الحدث في بعده الفعليّ: إرادة بقاء لا تقوى عليها أبواب الجحيم. فبعلبك كانت على موعد مع مهرجانٍ مصغّر على قياس أوضاع البلاد الاقتصادية تقدّم فيه حفلة أجنبية مع "الاوركسترا الوطنية الفرنسية" تحيةً لبيتهوفن في ذكرى ميلاده الـ250 ولكن "كوفيد 19" طرأ فجأةً فجرت الرياح بما لا تشتهي السفن.

أبى المايسترو القدير هاروت فازليان استسلام وطنه لسطوة وباءٍ لفّ العالم بحدادٍ حالك، محوّلاً إياه بومضةٍ الى مساحاتٍ مقفرة شاحبة. كيف يتسلّل إليه اليأس وهو سليل هويّتين لبنانية وأرمنية قوامها "ثقافة الرجاء"؟ اختار الرجل الانتفاضة على واقعٍ أليم، ليحوّل بلده منصةً تبعث على الأمل، فأعطى العالم صورةً عن لبنان هي نقيض ما نشهده اليوم من يأسٍ وقنوطٍ ومن ملامح وأدوار "مشوّهة" تحاول قوى الشرّ فرضها عليه. اقترح على "مهرجانات بعلبك الدولية" فكرة التحضير لحدثٍ يعيد الى لبنان مجده الغابر. وكان له ما أراد.

لم يبخل على فكرته تمريناً وتنفيذاً فقدّم لنا مع "الأوركسترا الفليهارمونية اللبنانية" التي يقودها أمسيةً بمواصفاتٍ مبهرة ترقى الى مستوى عالمي نُقلت على القنوات المحلية ومواقع التواصل واليوتيوب، وكانت لفتة جميلة أن تنقل بالتزامن على جدران "المتحف الوطني" ليتسنّى لمن يفتقر الى كهرباء أو لمعدمي الحال متابعتها من الشارع علّها تنتشلهم لبضع ساعاتٍ من روتينهم المرير.

افتتحت الأمسية بالنشيد الوطني، تلته مقطوعة "كارمينا بورانا" لكارل أورف وكرّت بعدها سبحة المقطوعات الكلاسيكية لبيتهوفن وكبار الكلاسيكيين الأجانب، وطُعّمت الفقرات بفسيفساء لبنانية في ذكرى "مئوية إعلان لبنان الكبير"، كقراءة الممثل رفيق علي أحمد لنصٍ لجبران خليل جبران برفقة موسيقى غبريال يارد، واختياراتٍ موفقة من أعمال للأخوين عاصي ومنصور الرحباني. وشارك في الأمسية 170 عازفاً ومنشداً من جوقتي "الجامعة الأنطونية" و"جامعة اللويزة"، بالإضافة إلى جوقة "الصوت العتيق". وكان للسينوغرافيا حضورٌ لافت طوال الأمسية فقد عُرضت على جدران المعبد صورٌ ومشاهد من أرشيف بعلبك وأبرز محطاتها الخالدة وإبداعاتٌ بصرية من توقيع جان لوي مانغي، ورسومٌ لأطفال تراوحت أعمارهم بين 5 و 10 سنوات تبيّن رؤيتهم لمستقبل لبنان.

"أردنا أن نثبت للعالم بأنّ شغف اللبناني ثقافياً وفنياً وصموده هو بحجم العالم"، يوضح المايسترو فازليان. "أردناها رسالة أمل الى العالم بلغة الموسيقى ولن نتوقّف عن الحلم"، يتابع.

أبكانا المايسترو بأمسيته، تسلّل الى مسامنا نحن اللبنانيين، مقيمين ومغتربين كمخدّرٍ، نحن المتسمرّون أمام الشاشة نشحد منها بارقة أملٍ لوطنٍ عصيّ على الفناء. حرّك فينا بلحظاتٍ توقاً دفيناً. استعاد وطننا من براثن الوحش وأعاده الى أحضاننا كما نحلم به: جميلاً ساحراً على صورة أمانينا الوردية.

هو إذاً تأكيدٌ صارخٌ بأنّ لبنان مهما اشتدّت عليه الصعاب وتكالبت عليه الظروف والقوى "الظلامية" لا يعرف الاستسلام، فهو اعتاد الكبوات المتتالية ليخرج بعد كلّ جولةٍ منها منتصراً على مخالب الموت.

فازليان أرادها رسالةً مدوّية وقد وصلت!


MISS 3