جولي مراد

"ولدنات" ريما

8 تموز 2020

02 : 00

لا أعرف ريما شخصياً. لم يقدّر لي شرف اللقاء وليس لدي في الحقيقة أي اطلاع على نشاطاتها أو أعمالها الفنية أو الثقافية، إن كانت لديها أيّ منها ولم أكن على بيّنة منها لسببٍ أو لآخر. كيانها عندي ينحصر على استئثارها بمهمّة "النطق" باسم والدتها حبيبة القلب "فيروز". وفي كلّ مرة أحتكّ فيها بالإبنة "البار" على الورق، أو في أثير الاذاعات، أو على صفحات التواصل، أجدها حانقةً مغتاظةً تستشيط غضباً لإهانةٍ "مزعومة" طاولت سفيرتنا الى النجوم. ومع أنني أتفهّم تماماً غيرتها على والدةٍ من قماشة فيروز وحرصها الشديد على قطع دابر كل من تسوّل له نفسه المساس بالأيقونة، إلا أنني على يقين بأنّ ما يصدر عنها من تصرفات وتصاريح بات يفوق بأشواط أيّ ضررٍ جلل قد يلحق بالفنانة الأسطورة.

تشنّ ريما هجوماً شرساً على حفلة "صوت الصمود" التي نظّمتها "لجنة مهرجانات بعلبك الدولية" أخيراً في «مدينة الشمس» قبل أيام، فحقّقت - بتضافر مكوّنات الابداع كافةً من قيادة اوركسترالية راقية وإعداد محكم وسينوغرافيا خلاقة - نجاحاً منقطع النظير ردّ للبنانيين بعضاً من كبريائهم المفقود في زمن الذلّ اليوميّ واليأس المستفحل فمدّهم برجاءٍ لا لبس فيه تاركاً فيهم أثراً عجزت عنه دوائر النفوذ.

وفي معرض معركتها الضارية تشهر ريما أسلحةً من العيار الثقيل. تعيّر المهرجان لعدم طلب إذن مسبق من الأخوين رحباني معاً وتعني هنا طبعاً من شخصها الكريم. تلمّح بخفةٍ الى تلقي "أبناء" الجيل الثاني انذاراً ينهيهم عن استخدام أعمال الأخوين من دون الحصول على إذنٍ منها بصفتها الوريثة الشرعية لأحد توأم الابداع. وتعيب المتبرّمة على المهرجان عدم استشارتها لاختيار الأعمال المعروضة، وهي في فحيحها اللاذع تنكر على معدّي الحدث المبهر أوركسترالياً أسامة وغدي الرحباني التمتع بالأهلية والمهنية الكافيتين لانتقاء المقطوعات التي عرضت للمناسبة. تسخر من اختيارهما لـ"أيام فخر الدين" احتفالاً بمئوية تأسيس لبنان الكبير بدلاً من "جبل الصوان" وتعطف تهكّمها الهزيل بفلسفةٍ مُعيبة ومضحكةٍ في آن على شاكلة: "كل الشعب إستشهد ع البوابة من الجوع والسرقة والفحش والبطر تبعكن وتبع الحكّام اللي فوقكن! اللي خرّب البلد هنّي أمثالكن اللي بيِنهَبوا الدولة ومال الدولة لتمويل هيك مشاريع ومن جيوب الناس". لوهلةٍ تخيّلنا أن القيمين على أهم حدث أثلج قلوبنا هم المسؤولون عن انهيار الليرة وانتشار الفساد.





لا نعلم حقاً على أيّ من انتقاداتها نصوّب سهامنا، فكلّ انتقاص جائرٍ منها يوازيه آخر أسوأ منه مقاماً. تستهزئ ريما بإعادة توزيع الأعمال لأنها "مناصرةٌ" وفية، على ما يبدو، للنسخة الأصلية: "لما تاخدوا أي عمل تتعيدوه الأصول تعيدوه بصيغتو الاصلية المشرّفة إلكون ولغيركن... في قيمين آخرين أولى يوزعوا وهاي مسؤولية ما بيقرّرها مين ما كان". لا نعرف فعلاً من تقصد ريما بعبقريتها الفذة بعبارة "مين ما كان" فلا أسامة ولا غدي، ولا طبعاً قائد الاوركسترا القدير، هاروت فازليان الذي قاد حفلات والدتها في 2010 و2011 و2012، خارج حلقة الابداع، لا بل تشهد أعمالهم وذياع صيتهم على تميّزهم الفريد.

تسير ريما بتباهٍ عكس التمدّن. تجاهر برفضها للحداثة. تفضّل التقوقع في زمن ماضٍ، وهذا طبعاً شأنها، لكن ان تحوّل من يشذّ عن هذه القاعدة الى مجموعة من الجهلة إنّما يضعها في خانة السذاجة المطلقة. تخيّلوا لو أنّ ورثة أديث بياف، أو فرانك سينترا، أو عبد الحليم، أو عبد الوهاب، أو أم كلثوم رفضوا إعادة تقديم أعمال هؤلاء العمالقة بقالبٍ حديث. وماذا تقول عن آلاف الأغاني التراثية التي تتزاوج في عصرنا بتلاقحٍ جميلٍ لأنغامٍ وأنماط موسيقية مبتكرة بقالبٍ حديث كالخلط بين العربية والكوبية، أو الأرمنية والعربية أو الاسبانية والانكليزية؟ سئل أزنافور ذات يومٍ كيف يرضى الغناء مع مغمورين في برامج للهواة مع أنّه عملاق كبير واستوضِح عن رأيه في إعادة توزيع ألحانه بشكلٍ غير تقليديّ فأجاب بنبرةٍ واثقة: "الشبابُ هم المستقبل، غداً لما أموت كونوا على ثقة بأن أغانيّ ستندثر. لستُ غبياً لأحارب الزمن، فالمستقبل هو الملك، ولستُ بأبلهٍ لأسير عكسه، وحين يغني أي شخصٍ أعمالي بأسلوبه الخاص فهو يعمل على ديمومتها، وأكون له من أشدّ الشاكرين".

لن أسترسل في تفنيد ما قالته ريما من تهجّمٍ تركني مصدومةً لما فيه من أسلوبٍ وضيعٍ مبتذل لا يليق بسليلة عائلة قوامها حرفيّو الكلمة وصانعو اللحن الجميل والمسرحيات المشغولة بأنامل من ذهب، فمعظم ما تفوهت به أساساً لا يستحق أكثر من ابتسامةٍ صفراء. تبدو الفتاة "غريبة" عن الجمال الذي احتضنها شاهرةً بسيفها في وجه الجميع بلا استثناء، فلا أداء الأوركسترا الفيلهارمونية اللبنانية الرائع، ولا السينوغرافيا المبهرة ولا الجوقة الصادحة بحناجر متألقة نالت استحسانها: "جوقة مش عارفة المنجيرة من المهيرة وبيّي راح طالعة متل الفريرو جاكو"... تقول.

لريما الحريّة في أن تنتقد كما تشاء لكن حبّذا لو تكف عن جرّ فيروز الى ترّهات وأوحالٍ لا تليق بها، فالأمسية الاستثنائية التي حصدت 12 مليون مشاهدة على "اليوتيوب" ونالت ما يكفي من الثناء من اختصاصيين أجانب ومحليين طويلي الباع في الموسيقى ليست بحاجة الى شهادة ممّن ينتقدون كلّ عمل جميل فيما لا يقدّمون شيئاً يذكر للبشرية.

"الشحادة ع بعلبك مش من شيم الأخوين ولا من شيم فيروز... حلّوا عن هالأرث ... كفى تشويهاً وتحريفاً وفرجونا عبقريتكن بلاه"... أضحكتني الجملة وذكرتني بقول لبناني مأثور: "لو الجمل بيشوف حردبتو..." هل تأذنين لنا باستخدامه هنا يا ريما؟


MISS 3