لا يستبشر أحمد الحجّاج (50 عاماً) خيراً باستفحال الأزمة الإقتصادية والمالية والمعيشية الخانقة التي يمرّ بها لبنان، يستعدّ للأسوأ وعلى مُختلف المستويات الحياتية. فقد شرع منذ أيام بتأمين مادة الكاز، واشترى قِنديلين (مصباح يُضاء على الكاز) للإنارة، خِشية إنقطاع التيّار الكهربائي نهائياً، وتوقّف مولّدات الإشتراكات الخاصة التي تؤمّن 75% من التغذية اليومية.
يقول الحجّاج: "لقد اشتريت قنديلين، إضافة الى كمّية من الكاز، وتحضّرت للأسوأ لأنّ كل شيء وارد، في ظلّ وعود المسؤولين العرقوبية وعدم ترجمتها الى إفعال. فالمؤشّرات سلبية، وعدم وجود بوادر حلول قد تصل بِنا الى الظلام"، مُضيفاً: "تربّيت في مجتمع كشفي، ويجب علي أن أكون مُستعدّاً دائماً، وقصّتي مع القنديل طويلة، بدأت في المخيّمات الكشفية منذ 43 عاماً، وأُجيد إستخدامها والتعاطي معها".
داخل منزله في صيدا القديمة، يُجري الحجّاج تجربة على القنديلين، يُشعِلهما، يتأكّد من جهوزيّتهما ونورهما الساطع، ويضيف: "لم يستوعب أولادي الأمر بعد، عُدنا الى نقطة الصفر، بينما هناك في المقلب الآخر من الكرة الأرضية، من بات يستفيد من الشمس والرياح لتوليد الطاقة، ونحن قُيّض لنا أن نُشعِل فتيلاً يتغذّى بمادة نفطية اكتُشفت قبل 100 عام، هل هذا مصير لبنان؟ إنّه أمر مُعيب ومُخجل".
وفي أسواق صيدا، تنقّلت الشابة الجامعية هيفاء سليمان (22 عاماً) بين محال الخرضوات لشراء قنديل، تقول: "لم أستخدم القنديل مرّة في حياتي، ولا أعرف كيفية إستعماله، نحن جيل "النت والديجيتال"، لكنّ والدتي طلبت منّي شِراء قنديل خِشية انقطاع الكهرباء كلّياً". وخاطبت المسؤولين بالقول:"لا سامحكم الله، كان الله بعون الشعب نحن بلد العلم والحضارة عدنا الى ضوء القنديل".
مخاوف وبوابير
لا يُخفي أبناء المدينة أنّ التقنين القاسي بالتيار الكهربائي والمولّدات الخاصة (الاشتراكات)، والمخاوف من العتمة، فرضت أسلوباً جديداً في الحياة من التقشّف ومحاولة التأقلم مع الأمر الواقع، وشهدت أسواق صيدا إقبالاً كثيفاً على شراء القناديل (مصباح يُضاء على الكاز) وعلى البوابير(بريموس) الذي كان يُستخدم للطهي وتسخين المياه والإستحمام منذ ثلاثة عقود، بعد التهافت على التزوّد بالشموع ولمبات البطارية، وسواها من أدوات الإنارة التي تُشحن على الكهرباء.
المعلمّ محمود القنواتي، رجل ثمانيني تعلّم مهنة تصليح البوابير (السنكري) منذ أن كان صغيراً، وهي مهنة تتعلّق بكل شيء يُصنع من التنك ويُصهر بالقصدير. عادت الروح الى دكّانه الذي يعلو سقفه "الشحتار". يجلس داخله على كرسيّ قديم، وقد استأنف تصليح البوابير بعد ازدياد الطلب عليها. يقول: "يأتي العشرات كلّ يوم، يطلبون شراء بابور أو يسألون عن مكان بيعه، ومنهم من يحمِله بيده، بعدما كان قد أحاله على التقاعد وأصبح مُعلّقاََ على جدران غرفة الجلوس كتحفة لإصلاحه وصيانته"، مُضيفاً: "اليوم عادت المهنة الى الإزدهار مُجدّداً وكأنّها نهضت من الموت، وعاد البابور معها ليعمل من جديد، بعدما تلاشت منذ ثلاثة عقود امام التكنولوجيا وأفران الغاز والكهرباء والسخّانات وسواها".
ويشرح القنواتي بأنّ تاريخ وصول البابور الى بلاد الشام من البلاد الإسكندنافية، وتحديداً من السويد، حيث وصل بابور من نوع "بريموس" في أربعينات القرن الماضي، لتتبعه صِناعات روسية (الاتحاد السوفياتي)، وصينية ويابانية ومصرية وسورية، والأفضل بينها هو البابور السويدي"، مُشيراً الى أنّ "الناس بدأت شراء البوابير النحاسية ذات اللون الأصفر للطوارئ، أو تصليح ما لديها لاستعمالها عند الحاجة".
إقبال واستعداد
في يوم واحد، استطاع القنواتي إعادة تشغيل 6 بوابير، بعدما أجرى التصليحات اللازمة لها. هيام حملت البابور وطلبت منه إجراء صيانة له وتعليمها كيفيّة تشغيله، وقالت: "ماتت والدتي قبل سنة، واحتفظت بأشياء قديمة منها هذا البابور، وقد أجبرتنا الظروف على إعادة تصليحه لاستعماله في الأيام السود القادمة".
بينما انتظر نقولا متّى دوره، وهو يحمل بابوره النحاسي، وقال: "لقد مسحت عنه الغبار بعدما كان مُجرّد تحفة في المنزل، الآن بات حاجة ماسة للإستخدام"، مُضيفاً بتأفّف: "العالم يتطوّر ويتقدّم الى الامام، بينما نحن نعود الى الوراء، الى العصور القديمة، وأمام شحّ الغاز والخِشية من انقطاعه، جئت أصلح البابور للطوارئ، بعدما اشتريت صفيحة كاز (20 ليتراً) وقد ارتفع سعرها من 35 الى 100 الف ليرة".
في أحياء المدينة، عاد الحديث عن البابور ليحتلّ مساحة كبيرة من اهتمام الناس، تتفاخر الحاجة انتصار البيومي (76 عاماً) أمام زوجات أولادها، كيف كانت تُشعل البابور للطهي وتسخين المياه للإستحمام، وتقول: "كل ربّة منزل كانت تقتني أكثر من بابور ذي الصوت الهادر، فيما العائلات الميسورة كانت تقتني البابور الأخرس او الصامت الذي لا يُصدر هديراً"، مُشيرةً الى أنّ التاريخ يُعيد نفسه ولم أكن أتوقّع أن تعود سيرته الى التداول، ونأمل في ألّا نصل يوماً الى استخدامه مُجدّداً".