محمد دهشة

إسكافيّو صيدا: زمن رمي الأحذية القديمة ولّى

15 تموز 2020

02 : 00

سوق البازركان حيث دكاكين "الكِندرجيّة"

تبحث العائلات المُتعفّفة والفقيرة في صيدا ومنطقتها، الهائمة على وجوهها، عن أي شيء يُخفّف عنها وطأة الأزمة، حتّى وصل بها الأمر الى تصليح الأحذية القديمة، في إطار سياسة التقشّف، بعد حذف غالبية الكماليات من قائمة المشتريات.

قرار صرف النظر عن شراء أحذية جديدة تُرجم بالإقبال على دكاكين الكِندرجية في صيدا القديمة، وتحديداً على سوق "البازركان"، حيث تتواجد محلات تصليح الأحذية او ما يُعرف بالإسكافي وباللغة الشعبية الكندرجي، ويجاورها محلّات بيع اللحوم والحبوب والخرضوات، من أجل إعادة الحياة وعدّاد المشي لأحذية أكل عليها الدهر وشرب، وكان يُفترض أن تُحال على التقاعد، او تُلقى مُنهية الصلاحية في حاويات النفايات، لإعادة تدويرها في نهاية المطاف.

داخل السوق الشعبي، لا يتوقّف الإسكافيون عن الطَرق على السِندان وخياطة الأحذية المُستعملة وإعادة الرَونق اليها، ويؤكد الكندرجي أحمد البزري، الذي يُزاول المهنة التي ورثها عن أبيه منذ ثلاثة عقود ونصف، أنّ "تدنّي سعر الليرة اللبنانية امام ارتفاع الدولار، اضطر الكثير من الناس لصرف النظر عن شراء أحذية جديدة وإعادة إصلاح أحذيتهم القديمة وتجديدها"، موضحاً أنّ قاصديه "هم من أبناء الطبقات الفقيرة ومن مُختلف فئات المجتمع اللبناني وبينهم الفلسطيني والسوري، هؤلاء باتت أحذيتهم تُرمّم وتُخاط أكثر من مرّة وحتى تُصبغ ليعود الرونق اليها"، مؤكّداً أنّ "هذه المهنة التي شهدت تراجعاً كبيراً في السنوات الماضية، عاد سوقها ليزدهر في هذه الفترة، إذ أنّ الكثير لا قُدرة لديهم على شراء حذاء بـ 10$ وهذا أقلّ سعر"، مُشيراً الى أنّ "أدوات ولزوم تصليح الأحذية ارتفع ثمنها، وبات تصليح اي حذاء يبدأ بـ 5 آلاف ليرة لبنانية وما فوق".

ويستخدم البزري في عمله عدّة تتألّف من المسمار واللاصق وخيطان لزوم آلة الدرز، فضلاً عن كاوتشوك لتصفيح الحذاء الرجالي، اضافة الى حبّات الكعب لـ "كندرة" المرأة التي هي دوماً بحاجة الى تبديل، ويقول مُمازِحاً: "نحن نعتاش من وراء جنس حواء، هنّ يُصلِحن نِعالهنّ باستمرار"، مُضيفاً: "لقد وصلنا الى مرحلة مُزرية، فالناس فقيرة وتأتينا بأحذية بالأساس مصنوعة من الجلد الإصطناعي او النايلون وتريد إصلاحها... في السابق كانت هذه الأحذية تُرمى بعد استهلاكها، لكنّ اليوم نعمل على لصقها وترقيعها وحِياكتها بالخيطان وبالنهاية تدوم وقتاً مقبولاً، وهناك من يُريد تصليح مشاية (حفاية) التي كان سعرها لا يزيد عن ثلاثة آلاف ليرة"، خاتماً: "زمن رمي الأحذية القديمة ولّى الى غير رجعة، وهذه المرة الأولى التي نمرّ بها".



المعلّم سعد كيوان يُصلِح الأحذية



تقبّل الواقع

مريم معنية وهي أمّ لطفلين، التي قصدت سوق البازركان لإصلاح حذائها، تقول: "زوجي يعمل أجيراً مياوماً في بيع الخرضوات، بالكاد يحصل على 25 ألف ليرة، ولا قُدرة لدينا على شراء أحذية جديدة، فأسعارها خيالية وأقلّ حذاء بـ 70 ألف ليرة"، مُضيفة بحسرة: "لا بدّ من التكيّف مع الواقع الجديد والقبول بالأمر، ولا خلاص لنا الا بألّا يطول أمد الأزمة حتى نستطيع تأمين لقمة الطعام ونبقى على قيد الحياة".

في الطرف الآخر، خلع خليل آغا حذاءه عند الإسكافي ليُصلحه، يقول: "لا أُبالغ اذا قلت انني لا أملك سوى هذا الحذاء و"مشّاية" للمنزل، لقد خرجت اصابع قدمي من مُقدّمته، ولا بدّ من إصلاحه وترميمه واتّفقت مع الكندرجي على دفع 5 آلاف ليرة، فأنا لا استطيع شراء حذاء جديد في ظلّ ارتفاع الأسعار، ولا أتصوّر أن أدفع مئة الف ليرة ثمن حذاء، تصليحه أفضل في هذه المرحلة".

شهادة عصر

المعلمّ سعد كيوان، الذي زاول المهنة منذ 40 عاماً، لم يُخفِ تعجّبه الشديد، اذ انّها المرّة الاولى في تاريخ عمله يقصده ناس تحمل أحذيتها وتريد تصليحها.. كانت تُرمى من قبل".. يحمل حذاء نسائياً مصنوعاً من الجلد الإصطناعي وقد انشطر قسمين، طلبت صاحبته إعادة لصقه وخياطته، ويقول وهو ينعى جلد النعل الطبيعي، "النعل المصنوع من الكاوتشوك حل بديلاً عنه وباتت تكلفة تركيب نصف نعل للحذاء 30 ألف ليرة، بينما كانت تكلفته سابقاً 10 آلاف ليرة"، شارحاً: "النصف نعل يفصّل ويُلصق ويُخاط في أسفل الحذاء لترميمه من الثقوب أو التشقّق، وحذاء المرأة "كندرة" أو "سكربينة" بحاجة دائماً لتجديد الكعب وتكلفته سابقاً 8 آلاف ليرة أما اليوم فبات 20 ألف ليرة".

ولم تسلم الأحذية الأوروبية المُستعملة التي كان سوقها رائجاً قبل تدنّي العملة اللبنانية، إذ أصابتها لعنة الدولار، ويقول وسيم صفدي: "وداعاً لهذه الأحذية التي كنّا نشتريها"، قبل أن يُضيف: "صحيح أنّها مُستعملة لكنّها متينة، أعمل على تصليح القديم منها في ظلّ هذا الوضع المُزري ولعلّ دفع 20 الف ليرة خيار صائب ويبقى أفضل من أن تخرج حافي القدمين"، بينما تتذكّر الحاجة لطفية رمضان "كيف كان الإسكافي يأتي الى الأحياء الشعبية والفقيرة في تعمير عين الحلوة ـ حاملاً عدّته ويُنادي إسكافي.. تصليح أحذية.. يبدو أنّ تلك الأيام ستعود، ويأتي الينا بدلاً من الذهاب اليه".


MISS 3