كريس بوهجاليان

رحلة حج إلى وطني الأم ناغورنو كاراباخ

18 تموز 2020

02 : 00

كتب الروائي الأميركي الذائع الصيت كريس بوهجاليان هذه المقالة في مجلة "النيويورك تايمز" بعد زيارته منطقة ناغورنو كاراباخ الأرمنية. وبمناسبة اندلاع الاشتباكات بين أذربيجان وناغورنو نعيد نشرها لما فيها من تفاصيل مثيرة حول الصراع القائم بين البلدين.

تُذكّرنا الخنادق الأمامية في التلال المجاورة لقرية "تاليش" المهجورة في ناغورنو كاراباخ بزمن الحرب العالمية الأولى: تظهر شقوق طويلة ولامتناهية على الأرض، ويختلط الخشب بالتراب، وتنتشر مراكز لإطلاق النار ومخابئ تعود إلى تلك الحقبة. تتكدس إطارات مليئة بالتراب وتُستعمل كأكياس رمال، وتشير جميع المظاهر الأخرى إلى أجواء الجبهة الغربية قبل مئة سنة. وراء الخنادق، على طول الطريق، تنتشر دبابات مستعدة لشن اعتداءات مضادة.





في أول يوم من شهر أيلول، كانت السماء مصطبغة باللون الأزرق الداكن. وقف جيغام غيرغوريان (32 عاماً) إلى جانبي وأشار بإصبعه إلى الشمال الشرقي، باتجاه أذربيجان وحقل الألغام والمنطقة العازلة على بُعد ميل من مكاننا. ثم قال وهو يهزّ كتفيه: "إذا أردتَ السلام، يجب أن تستعد للحرب"!

في وقتٍ سابق من هذه السنة، اندلعت الحرب في ناغورنو كاراباخ، تلك الجمهورية الأرمنية الصغيرة غير المعترف بها التي ينتمي إليها. أطلقت أذربيجان هجومها عبر الحدود الشرقية في صباح 2 نيسان، فخرقت بذلك قرار وقف إطلاق النار الذي استمر منذ العام 1994. تعرّضت قرية "تاليش" التي يسكنها 400 شخص لقصف قوي لدرجة أن تصبح مهجورة اليوم بعدما انتقل سكانها إلى أجزاء أخرى من البلد.

غريغوريان هو أب لفتاتَين ويحمل شهادة في العلاقات الدولية، لكنه يظن أن ناغورنو كاراباخ تحتاج إليه في الجيش: "من الأفضل أن أرتدي زياً عسكرياً بدل البذلة الرسمية"!

يَقِلّ عدد الأميركيين القادرين على تحديد موقع ناغورنو كاراباخ على الخريطة (حتى أنهم لا يعرفون موقع أرمينيا وأذربيجان!). قصدتُ تلك المنطقة خلال هذا الصيف للسبب نفسه الذي يُرجعني كل سنة إلى أرمينيا وبقايا الحضارة الأرمنية المنتشرة في شرق تركيا: هذه الأرض تسري في عروقي وأعتبر زياراتي لها أشبه برحلة حج حقيقية. أنا أميركي أرمني، لكني لم أفهم أهمية هذه الأرض القديمة في حياتي قبل منتصف عمري.





يحمل الخط المشترك بين ناغورنو كاراباخ وأذربيجان أهمية استراتيجية، فهو يُعتبر من نقاط الاشتعال القادرة على زعزعة استقرار القوقاز. تتقاسم أرمينيا وأذربيجان حدوداً مع إيران. وبعدما هاجمت أذربيجان ناغورنو كاراباخ في شهر نيسان 2016، خاض الطرفان المعارك طوال أربعة أيام قبل الاتفاق على وقف إطلاق النار. كان ذلك الصراع قصيراً وعنيفاً واستُعملت خلاله الدبابات والمدفعيات والطائرات بلا طيار وأسفر عن مقتل مئات الجنود. خلال القتال في "تاليش"، عمد جنود أذريون إلى إعدام وتشويه ثنائي أرمني مدني ومتقدم في السن وقطعوا رأس جندي أرمني أسير. هذه التطورات دفعت بالنائب الأميركي براد شيرمان، ديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا وعضو بارز في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأميركي، إلى المطالبة بإجراء تحقيق بجرائم الحرب التي ارتكبتها أذربيجان.

من المعروف أن الأرمن مسيحيون والأذريين مسلمون، لكنّ الخلاف بين الطرفين لا يتعلق بالدين. تصرّ أذربيجان على أنها تملك ناغورنو كاراباخ وتجاهر بحقها في فرض سيادتها على تلك المنطقة. في المقابل، تشدد ناغورنو كاراباخ على حقها بالاستقلال انطلاقاً من حق جميع الشعوب بتقرير مصيرها.

يظن بعض المحللين طبعاً أن الأرمن في ناغورنو كاراباخ قوة محتلّة. لا أوافقهم الرأي، لكني لا أنحاز إلى ناغورنو كاراباخ بسبب انتمائي إليها. بل أظن أن التاريخ يقف إلى جانب الأرمن.

في العام 1988، صوّتت الأغلبية الأرمنية في ناغورنو كاراباخ (كانت حينها جزءاً من جمهورية أذربيجان السوفياتية) كي تصبح جزءاً من الجمهورية الأرمنية السوفياتية. (خلال فترة العشرينات، أصرّ الأرمن في ناغورنو كاراباخ على أن الدستور السوفياتي يعطيهم الحق بتقرير مصيرهم. لكن في العام 1923، قدّم جوزيف ستالين ناغورنو كاراباخ إلى أذربيجان). عجز الاتحاد السوفياتي عن السيطرة على أعمال العنف المتصاعدة، بما في ذلك موجات غضب الأذريين ضد الأرمن في مدينتي "باكو" و"سومقاييت" في أذربيجان. نتيجةً لذلك، اضطر معظم الأرمن للهرب إلى أرمينيا أو ناغورنو كاراباخ. وفي 2 أيلول 1991، أعلنت ناغورنو كاراباخ نفسها بلداً مستقلاً ثم خاض الأرمن فيها حرباً ضد الأذريين خلال السنوات الثلاث اللاحقة وفازوا بها في العام 1994 بمساعدة أرمينيا. أسفرت تلك المعارك عن مقتل حوالى 30 ألف شخص وتهجير مليون آخرين.

لا يعترف معظم المجتمع الدولي بناغورنو كاراباخ (مع أن سبع ولايات أميركية مررت قرارات لحث الحكومة الأميركية على دعم استقلال المنطقة). لا تزال هذه الجمهورية ديمقراطية ناشئة، فيها 140 ألف نسمة، وهي تواجه بلداً دكتاتورياً غنياً بالنفط وفيه 9.5 ملايين نسمة. أرمينيا هي حليفتها الوحيدة وغالباً ما تشكّل حبل نجاة للجمهورية الصغيرة. كلّفت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا دبلوماسيين من فرنسا وروسيا والولايات المتحدة بمحاولة عقد اتفاق دائم، لكنهم لم يحرزوا تقدماً مهماً في هذا الإطار.

قال لي روبين مليكيان حين شربنا القهوة حديثاً في العاصمة "ستيباناكيرت": "لقد أثبتت أذربيجان مراراً عجزها عن حكم ناغورنو كاراباخ". مليكيان هو أمين المظالم هناك أو المدافع الأول عن حقوق الإنسان. يضيف قائلاً: "المسألة لا تتعلق بكل بساطة بحق شعب معيّن بتقرير مصيره، بل بحق شعب معرّض للإبادة بتقرير مصيره".

الفرق بين المفهومَين ليس بسيطاً. فقد هدّد رئيس أذربيجان إلهام علييف بإسقاط طائرات الركاب التي تصل إلى مطار "ستيباناكيرت" الجديد. لم يفتح المطار أبوابه بعد. كذلك، عمد علييف إلى ترقية الجندي الأذري الذي قتل جندياً أرمنياً نائماً خلال ندوة تدريب سلمية برعاية حلف الناتو في بودابست وأعطاه رتبة رائد. وفي الفترة الأخيرة، خرق الرئيس علييف اتفاق وقف إطلاق النار عبر شن هجوم ضخم وغير مبرر على ناغورنو كاراباخ في شهر نيسان الماضي، وقد شمل ذلك الهجوم قصف مدرستَين (حصل الهجوم ليلاً، لذا كانت المدرستان خاليتَين. لكن كان صبي عمره 12 سنة من أوائل ضحايا الحرب، فقُتِل في هجوم صاروخي).





بعد تمضية بعض الوقت مع سكان ناغورنو كاراباخ، اتّضح لي أن البلد لن يصبح جزءاً من أذربيجان مجدداً إلا إذا غَزَته أذربيجان. لكني لا أتوقع حصول ذلك مطلقاً، حتى لو كانت أذربيجان أكبر بكثير من هذه الجمهورية الصغيرة. لقد عاش الأرمن على هذه الأرض طوال قرون قبل ضمّها إلى أذربيجان. في أول يوم لي هناك، حضرتُ معمودية 39 طفلاً أرمنياً في كنيسة بُنيت في العام 1673. وبدأ تشييد الدير الأرمني "داديفانك" في الشمال خلال القرن التاسع. تعود اللوحات الجدارية فيه إلى العام 1297 وهي جميلة بقدر كل ما رأيتُه في توسكانا.

يحرص السكان هناك على حماية وطنهم بكل شراسة. كان أنطون وأريكناز أبكاريان من بين الأهالي الذين قابلتُهم في حفل المعمودية. تعمّد أولادهم الثلاثة، جميعهم تحت عمر الخامسة، في فترة بعد الظهر من ذلك اليوم. لديهما مزرعة صغيرة. لكن حين هاجم الأذريون منطقتهم في شهر نيسان، توجّه السيد أبكاريان فوراً إلى ساحة المعركة كمتطوع واستلمت زوجته ووالدته إدارة المزرعة.

سألني أبكاريان بكل ثقة: "من سواي سيدافع عن أولادي وعائلتي"؟ هو شاب هادئ ومتواضع، لكن ترتسم على وجهه ابتسامة عريضة حين يتكلم عن بلده أو يقدم العسل من المنحل الذي يملكه.

في هذه المعركة، تضع أذربيجان كرامتها على المحك. هي تملك النفط. أما ناغورنو كاراباخ، فلا تملك إلا فراشي التنظيف وأشجار الرمان.

لكنّ هذا الصراع بنظر الأرمن هو نضال للبقاء على قيد الحياة والاحتفاظ بجزء من أرضنا الأم. لقد تعرّضنا للتطهير العرقي من وان والأناضول وقيليقية (وجميع مناطق تركيا باستثناء اسطنبول) خلال الإبادة الأرمنية، واندثر ثلاثة أشخاص من كل أربعة منا بطريقة منهجية خلال الحرب العالمية الأولى.

لهذا السبب، نعتبر ناغورنو كاراباخ خطاً أحمر. هذا ما دفع أنطون أبكاريان أيضاً إلى التوجه سريعاً نحو جبهة القتال، وجيغام غريغوريان إلى استبدال بذلته الرسمية بزي عسكري. ولهذا السبب أيضاً، يشمل هذا البلد دوماً، رغم صغر مساحته، عدداً كافياً من الجنود للخنادق.


MISS 3