عيسى مخلوف

وقفة من باريس

من تفكيك لبنان إلى لبنان الوَعد

25 تموز 2020

02 : 00

لوحة للفنّان المجري تيفادا: "رحلة إلى أرز لبنان"

هجرتُ لبنان أثناء الحرب الأهليّة وكنتُ في التاسعة عشرة من العمر. طالت الحرب وبقيتُ في الخارج. لم أعد نهائيّاً لكنّني لم أقطع أبداً حبل السرّة مع هناك. العبارة الأخيرة التي سمعتها من والدتي وهي تُنازع: "لم أشبع من رؤيتك". أنا أيضاً لم أشبع من رؤيتها، ولا من رؤية الأهل والأصدقاء، وكان خروجي القسري من البلد الذي وُلدتُ فيه أشبه بالاقتلاع. هذه الكلمات القليلة لا تختصر تجربتي الشخصيّة فقط، وإنما أيضاً تجربة ألوف الشباب والشابات الذين اضطرّوا إلى الهجرة، ممّا جعل لبنان أحد أكثر دول العالم تصديراً للمهاجرين، وجعله أيضاً، لدى نسبة كبيرة من مواطنيه، وطناً موقَّتاً ولحظة انتقالية في حياتهم.

انتهت الحرب ولم تنته الظروف التي ولّدتها. لا تنتهي الحروب في تلك البقعة من العالم حيث زعماء الطوائف يعزفون على وتر واحد مع التدخّلات الخارجيّة. ثلاثون سنة مرّت منذ نهاية الحرب الأهليّة، ولم يتغيّر شيء. بخلاف ذلك، ازدادت الأمور تعقيداً، والذين حكموا لبنان منذ ذلك الحين تعاملوا معه كغنيمة حرب. أجّروه وباعوه ونهبوه وتاجروا به، وجعلوه دولة تفتقر الى أبسط مقوّمات الدول وتعجز عن إيجاد حلول للمسائل الأولية كالماء والكهرباء والنفايات. هذه الطبقة نفسها هي التي تعمل اليوم على تفكيكه وتكريس الانقسام فيه وزجّه، أكثر فأكثر، في صراعات إقليميّة ودوليّة، بعد أن فرّغته من إمكاناته وطاقاته الإيجابيّة الخلاّقة. أمراء الحرب بالأمس، سماسرة السياسة والمال اليوم. يختلفون في الظاهر، لكنهم متّفقون على تقاسم وطن حوّلوه إلى مزرعة خاصّة.

في تشرين الأول الماضي، شكّلت انتفاضة الشابات والشباب منعطفاً في تاريخ لبنان الحديث، وجاءت صرختهم تعبيراً عن تراكم الانهيار والمعاناة، وردّ فعل على الأوضاع المعيشيّة وسرقة المال العام وسيادة منطق المحسوبيّات. تجاوزت الانتفاضة الاصطفافات والانقسامات الطائفية والمذهبية والمناطقية والحزبية، أي كلّ ما يشكّل مصدر قوّة العهود المهترئة الضعيفة وخطاباتها الإنشائيّة الركيكة. وهذا ما دفع حرّاس هيكل الفساد، ومنذ اليوم الأوّل للانتفاضة، إلى اتهام المنتفضين بالعمالة. فات هؤلاء أنّ السابع عشر من تشرين لن يكون محطّة عابرة يسهل وأدها، ولن يكون مجرّد موجة عالية تقدّمت ثمّ انحسرت وابتلعها البحر الطائفي. فهذا التحرّك الذي يدعو إلى التغيير والإصلاح سيبقى محفوراً في التربة اللبنانية وسيستمرّ رغم ظروف لبنان الشديدة الصعوبة. ضمن هذا الأفق، أُعلن أخيراً عن "شرعة الإنقاذ الوطني" التي أطلقتها مجموعة من الناشطين والمثقّفين، بهدف "تشكيل أرضيّة لقاء مشترك لأوسع شريحة من المؤمنين بأهداف انتفاضة 17 تشرين". تدعو هذه الشرعة إلى إقامة دولة مدنيّة ديموقراطيّة تسودها معايير المساوة والعدالة الاجتماعيّة، من خلال رؤية شاملة وعميقة تتناول مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والقانونية والاجتماعيــــة والثقافية، بما في ذلك الحفاظ على البيئة وحماية التراث. مصير لبنان اليوم يتوقّف على الخروج من الحصار. من الدائرة التي رسمها من يعبث بوجود لبنان وتخريب حياة اللبنانيين. وهذا ما يقتضي أن يكون اللبنانيون واحداً لا نصفين، لا فريقين جاهزين دائماً للمواجهة. من هذا المنطلق، تتحدّث "شرعة الإنقاذ الوطني" عن "التغيير الذي أصبح ضرورياً أكثر من أيّ وقت مضى، وممكناً بفضل الوعي والإرادة والتضامن".

إذا كانت هذه الشرعة تعني شيئاً اليوم فإنما تعني أنّ ثمّة أملاً ما زال يتحرّك وينبض تحت الركام، وثمّة إمكانيّة للبنان آخر يلوح في الأفق هو لبنان المستقبل الذي يلتقي مع حلم الذين ضحّوا بحياتهم من أجله. لبنان حرية التعبير والفكر النقدي والمساءلة، لا لبنان القمع والاغتيالات السياسيّة والمتاجرة بالأرواح. لبنان العلم والجامعات والثقافة والتعدّد والانفتاح، لا لبنان المُراد له أن يكون ساحة الغرائز الطائفيّة والجهل والتخلّف والمحسوبيّات. لبنان الأفكار لا الفكرة الواحدة المُطلَقة. لبنان القادر على الانخراط في مشروع عصري حضاري، وفي حوار متكافئ مع بقيّة الثقافات، شرقاً وغرباً.

هذا اللبنان الوعد، لا يمكن، بأيّ حال من الأحوال، أن يطمسه جبروت القابضين الآن على أنفاس اللبنانيين، المتحكّمين عنوةً بالقرار والمصير، الذين جعلوه بلداً يستدرّ الشفقة ويتعذّر العيش فيه. لن يبقى هؤلاء في السلطة إلى الأبد ووجودهم ليس قدراً. وليس قدراً هرب اللبنانيين من وطنهم وتشتيتهم في بقاع الأرض، جيلاً بعد جيل. أمّا المخلِّص المُنتظَر فلن يكون شخصاً واحداً فحسب، وإنما هو كلّ شخص يطالب بالتغيير ويسعى إلى تحقيقه.