غادة عيد

الطعن والطعّان والمطعون

27 تموز 2020

02 : 00

كلمة طعن تُقال في أكثر من مقام: الطعن بالسكين، الطعن بالشرف والطعن أمام المحاكم. وثمّة طعون تحمل جملة المفاعيل تلك.

ليست المرة الأولى التي يُطعن فيها الدستور اللبناني.

أن نرصد تجاوزات عدّة تُسجّل ضدّ الدستور من دون اعتراض على ذلك... مُصيبة، لكنّ المُصيبة الأكبر أن يفعل فعل التجاوز هذا من أُوكلت اليه مهام حراسة وصَون "الكتاب" الذي قال عنه سياسيو الزمن النظيف انه لا يُمكن أن يُمَس، وإذ به يُنحر في الزمن الأكثر رداءة.

في الذاكرة طعون مسّت بالدستور بفِعل حُرّاسه، على طريقة "حاميها حراميها"، ارتبطت بالوصاية الأمنية السورية... ولعلّ أبرزها قرار إبطال نيابة غبريال المرّ العام 2002، الذي بدت عليه بصمات عضو المجلس الدستوري آنذاك سليم جريصاتي المحامي الذي تقرّب في ما بعد من العهد وأصبح وزيراً، ولا بدّ أنّ بصماته على الطعن الذي سيلي الحديث عنه بعد بضعة سطور في هذا المقال... ليست خفية.

ولم تغِب عن ذاكرة اللبنانيين بعد، ما ترافق مع الطعن بنيابة المرّ في تلك الحقبة، من محاولة إسكات كلّ صوت مُعارض للهيمنة السورية على لبنان، لا سيّما أثناء المرحلة التي سبقت إغتيال الرئيس رفيق الحريري، في ظلّ سجن قائد "القوات اللبنانية" سمير جعجع وإبعاد الرئيس الحالي ميشال عون الذي كان يقود "التيار الوطني الحرّ" من منفاه الباريسي. ووجب الربط بين أحداث الأمس البعيد واليوم، لأنّ العماد ميشال عون كان اعترض أشدّ الإعتراض منذ ثمانية عشر عاماً على قرار المجلس الدستوري إبطال نيابة المرّ... واعتبره طعناً للدستور.سبحان مُغّير الأحوال...

أما تغيير المبادئ فهو أمر فيه أيضاً مفعول مُماثِل للطعن، كلّ انواع الطعن، لا سيمّا الطعن بالشرف... والطعن بالسّكين.

ونصل الى طعن الغفلة، ففي ظلّ الإنشغال بوباء "كورونا" والكوارث المالية الإقتصادية التي تقضّ مضاجع اللبنانيين... لا يُمكن الا التوقّف، في قِراءة مُتأنيّة لقرار طعن صدر عن المجلس الدستوري منذ أيام، استفزّ القانونيين والمُشتغلين بعِلم وفِقه الدستور، واستنفر مشاعر التمرّد لديهم، ضدّ كل ما يُعزّز الفساد والهيمنة والتسلّط والمُحاصصة، على قاعدة منطق الغلبة والقوة والإستفراد والإستئثار بمواقع ومقدّرات البلاد ومصير العِباد، في زمن الفقر والجوع والإفلاس، المُترافق مع الوعود الكاذبة بجنّة الاصلاحات والقوانين التي تحدّ من السلطة وتُعزّز الرقابة... انما إسمع يا مواطن تفرح كلّ الفرح... وجرّب تحزن أشدّ الحزن.

الطعن الذي نتحدّث عنه لإعادة الإعتبار لسيادة الوزير المُطلقة على وزارته، ليُصبح الحاكم الملك على مملكته، قدّمه رئيس الجمهورية امام المرجع الدستوري الأعلى في البلاد.

هذا في الشكل... وللمضمون رواية تمهيدية، هي التالية:

حُكي أنّ وزيراً قد نصّب نفسه وليّاً على إمارة، أراد أن يكون مُمسِكاً بزِمام كلّ أمورها، لا سيّما تلك التي ترتبط إدارياً بمؤسّسة مُستقلّة، كمؤسسة الكهرباء مثلاً التي للوزير وصاية عليها، ولكن من شأن مدير عام ناجح و"قبضاي" أن يفرض قراراته الصائبة بالقانون... وكذلك أراد الوزير أن يحصد ما تبقّى من غِلال وفيرة، فلا يترك لغيره شأناً أو غلّة أو محصولاً، وذلك في منطق المُحاصصة القائم... وحده الوزير يقترح تعيين من يُطيعه، ويتماشى مع مراده.

من هنا بدأت عملية الإنقضاض على قانون وُجِد وأصبح ضالاً.

وكانت حكومة تمام سلام هي التي اقترحت عن حسن نية، تطبيق مبدأ آلية التشاور، ومشاركة كلّ من مجلس الخدمة المدنية ووزير التنمية الإدارية مع الوزير المُختصّ، في اقتراح الأسماء أثناء تعيين المدراء العامين، الذين بقيوا تحت مظلّة المحاصصة الطائفية عند إقرار دستور الجمهورية الثانية بعد اتفاق الطائف، على أن تتمّ الموافقة على هذا التعيين في مجلس الوزراء. وفي ما بعد، ولدى النقاش على طاولة مجلس الوزراء السابق برئاسة سعد الحريري، اقترحت وزيرة التنمية الإدارية السابقة مي شدياق إعتماد الآلية التي تمّت أثناء حكومة تمام سلام، فما كان من رئيس الجمهورية الّا الرفض بحجّة عدم وجود قانون صريح وواضح بهذا الشأن، ولا يُمكن تكريس ذلك عُرفاً بلا قانون، فيما كان يتّجه هو نحو إعطاء الوزير الحقّ المُطلق في اختيار مُدراء وزارته.

الرئيس المُعترض على قانون من هذا النوع، طعن به بعد تقديمه من قبل كتلة "القوات اللبنانية" النيابية وإقراره.

لم تمرّ أيام خمسة على تاريخ إقرار القانون النافذ حتى تقدّم الرئيس عون بطعن كانت سرعة البتّ فيه قياسية، بعد أربعة عشر يوماً فقط، أي بتاريخ 2020 /7/ 22.

في الردّ القانوني على الطعن الذي قبله "الدستوري"، لا بد من التوقّف عند النقاط التالية:

أولاً: أناطت المادة 66 من الدستور اللبناني بالوزراء تطبيق القوانين والأنظمة. صحيح، ولكنّها لم تولهم صلاحية التشريع وتجاوز القوانين، وسلطة تعيين موظّفي الفئة الأولى هي من اختصاص مجلس الوزراء بأغلبية الثلثين، بناء على اقتراح الوزير المختصّ، ولكنّ سلطة التعيين ليست من اختصاص الوزير، بدليل اشتراط الدستور صدور التعيين عن مجلس الوزراء بأغلبية الثلثين.

ثانياً: إنّ اعتبار القانون الذي يضع آلية التعيين يحدّ من صلاحيات الوزير، لا يقع في محلّه الدستوري، لأنّ صلاحيات الوزير أصلاً وبمُقتضى الدستور، تقع ضمن دائرة تطبيق القوانين، وهذا ما نصّت عليه بوضوح المادة 66 من الدستور.

ثالثاً: إنّ الدستور عندما أناط بمجلس الوزراء التعيين بناء على اقتراح الوزير، فإنّما أراد أن يتمّ الإقتراح من ضمن القوانين، ووِفقاً لمعايير الجدارة والكفاءة، وأن لا يخضع التعيين لسُلطة الوزير الإستنسابية أو الإعتباطية، وإن كان الدستور قد ترك لمجلس الوزراء مساحة معينة من الإستنسابية، فحدودها التزام القوانين بموجب المادة 66 وإلّا أصبحت السلطة عشوائية ضاربة لسلطة كلّ من الدستور والقوانين المرعية الإجراء معاً.

رابعاً: إذا سلّمنا بالتحليل الذي استند اليه "الدستوري" لإبطال قانون آلية التعيين في الفئة الأولى، تكون كلّ القوانين المُتعلّقة بالموظّفين، وفي مقدّمها قانون الموظّفين الصادر بالمرسوم الإشتراعي رقم 59 /112، وإنشاء مجلس الخدمة المدنية ووزراء الدولة لشؤون التنمية الإدارية، باطلة بذريعة مُشاركة الوزير قراراته.

وبهذا نكون في ظلّ سيادة الوزير بدل سيادة القانون.

فأين قوانين تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد التي يتحدّثون عنها، طالما أنّ الوزير يريد أن يتحرّر من إمكانية أن يكون مُقيّداً أو مراقباً من قبل مدير عام، ربّما يخالفه في صفقاته أو أثناء تجاوزه لحدود سلطته... ولن يخشى الوزير مديراً، أي مدير، اذا ما كان نزيهاً شجاعاً عليماً.

في كلّ الأحوال، يبدو مُقزّزاً لِهاث بعض الوزراء نحو المزيد من السلطة، وشراهتهم المُتمادية بكل الوسائل ومنها الطعون، ليصبحوا الخصم والحَكَم، بعدما سخّروا القضاء والقضاة والدستور والدستوريين.

ومُقرفٌ ايضاً ما يجري في زمن البطر والجوع المُتعايشين بوقاحة تحت سقف واحد. هم يفعلون ما يشاؤون، ويدرون ماذا يفعلون... على عينك يا مواطن ولو كُنتَ ثائراً...

الطعن والطعّان واضحان، ولكم أن تُحدّدوا من هو المطعون به الأول والأخير.


MISS 3